صفحات ثقافية

«لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي» وليس هذا الديوان الأخير

null
عباس بيضون
نعرف بالطبع أن محمود درويش لن يكتب بعد. لا تقرر عبارة «الديوان الأخير» شيئا يحتاج إلى تقرير، لكنها على نحو ما، تتناقض مع العنوان الذي اختير للمجموعة «لا أريد لهذه القصيدة ان تنتهي». لقد أراد محمود درويش أن يترك جهة مفتوحة، لم يقل من أين، ولا كان عليه ان يفعل فالشعر هو تقريباً فتح جهات، لكن «الديوان الأخير» تضع حداً نهائياً لذلك. لقد ربح الواقع على الشعر، لم يعد هناك من شك في الموت، من كان يحتاج الى اثبات؟. لكن الديوان كله نشأ في قراءة ما، من مراوغة هذه المسلمة. نشأ من اقرار بها مع مداورتها. من لعبة مسافات في قلب اللحظة، وفي قلب المكان، لعبة مسافات لا انكار. محمود درويش الذي «تدرب» على الموت طوال اثر شعري كامل. الذي حول الموت تقريبا إلى «تحد» شعري، والذي كتب لا شغفاً بالموت كما فعل الرومانطيقيون ولا مساكنة له كما فعل الزهاد، بل أدخل الموت إلى لغته فبات هذا من مفرداته القريبة، حول الموت الى لغة وكان هذا يعني لا ترميزه فحسب لكن اعلاؤه وتحويله إلى جزء من «نشوة» الابتكار والفرح بالخلق. لا بد من ان أمرا كهذا كان بدون شك، أساسا في معاناة الشاعر الذي أراد ان ينقل جسده الى مختبره الشعري. أن يحول عطبه الجسدي وربما رعبه ورحلته الجحيمية وعوداته من العدم إلى أفق آخر. الى حياة موازية، الى مستقبل، نعم مستقبل، لغوي. لم يحصل هذا بالطبع انحيازا الى الشعر فقط. لقد كان، من ناحية ما، توسلا بالشعر لخلاص ومخرج موقتين. كان في الواقع موازنة جديدة بين الشعر والحياة. الأرجح أن محمود درويش امتلك تلك القدرة النادرة وشبه الشيطانية على بيع كل شيء للشعر. لقد أعطاه، تقريبا، جسده ومرضه وحياته كلها. هذا على الأقل ما قاله في «ديوانه الأخير». قاله بصراحة تشبه أن تكون مواربة وتشكيكا، قاله في كل مرة تكلم على الحب. انهى قصيدة «عينان» الجميلة على نحو مفاجئ وبسؤال يكاد يرجع على القصيدة كلها ويتحول إلى انكار لها «من هي».
عينان صافيتان غائمتان
صادقتان كاذبتان عيناها ولكن من هي؟
هل وقفت القصيدة حقا هنا، حيث لا وقفة بل استطراد مفتوح. لولا ان محمود درويش اراد ان يقول ان الحب وربما كل شيء من جنسه. كل ما يبدو حياة او تجربة هو محل صفقة مع الشعر.
لم أحب فتاة معينة
عندما قلت اني أحب فتاة ولكنني
قد تخيلتها…
تخيلتها لا لشيء ولكن لأسمعها
شعر بابلو نيرودا كأني انا هو
فالشعر كالوهم/.. لا اريد لهذي القصيدة ان تنتهي).
ليست هذه الاستشهادات أجمل ما في الديوان «الأخير» لكني اخترتها لأنها تقرر أفكاراً. لقد كان دأب الشاعر في مجموعاته الأخيرة ان يحول الأفكار الى صور. اذا كنا لا نزال نقول ان الشعر صور فان الأفكار، إلا في ما ندر، كانت تدخل في النسيج الاحتمالي الحواري المشعشع لشعر محمود درويش. أفكار تصدر عن ان العطش واللهفة والألم موجودة في الفكر أيضا، كما تصدر عن نقل العذاب الفكري إلى بداهة تشبه الجلد والاحساس الجسدي. في قصيدة «الى شاعر شاب» يظلم درويش نفسه حين يعتبر أن الحكمة والمهارة هما «حكمة اللاغنائية الباردة» فان معاناة الفكر هي القرين المباشر لمعاناة الحس ومعاناة الجسد. الجسد والحس والفكر تدخل في المخاض نفسه وجميعها تتحول إلى العجينة اللغوية التي هي القصيدة بل وتتقاطع داخلها. اننا أمام لغة اولا، أي امام انشاء مواز بمادته وآلياته ونظامه، ذلك يعني ان تجاهل الوساطة اللغوية وقراءة القصيدة كأنها الشاعر مباشرة او كأنها الجسد والواقع لا يؤديان الا إلى خلط فظيع والى استنطاق الشعر ما لا يزيد عن الخبر العادي والوثيقة البسيكولوجية. اذا قفزنا عن هاجس درويش بتحويل المعاناة المباشرة للموت إلى رافد لغوي… اذا قفزنا عن ذلك لوجدنا ان الموت، مثله مثل فلسطين، قد تحول في شعر محمود درويش الأخير إلى استعارة كبرى. إلى واحدة من استعاراته الأساس. هذه استعارات. كان محمود درويش سباقا الى وعيها كذلك. لكم قال في شعره ان هذا مجاز وإن على القارئ ان لا يتماهى معه. مجاز والشاعر لا يتماهى معه. انه شيء من «التبعيد» بالمعنى البريختي لكنه لا يلغي الشعر، لا يحوله لموضوعي، بقدر ما ينبه من وقت إلى آخر، الى انه مزيج والى انه تركيب والى انه موازنة وينبغي الا نعتبره اقنوما وألا نتماهى معه وألا نأخذه بحرفِهِ، الموت استعارة كبرى وعلى هذا ينبغي ان نقرأه. ذلك يعني ببساطة ان نخرج الموت من الموت، ان لا يبقى الموت بحرفه ومعناه المباشر. ان يتّسع لكل المعاني، وأن يغدو عنوانا لأحوال شتى، وأن يتسع لتحولات وانزياحات من كل نوع، وأن يغدو قطبا لموضوعات وأطوار متباينة، وأن يصير افقا ومستقبلا لمغامرات مختلفة. يتحول الموت لعمود في البناء الشعري وفضاء خيالي ولغوي. هذا يعني ايضا ان يتحول الحوار مع الموت الى حيز اساسي في دراما الشاعر.
أحد أشكال درويش الاثيرة في شعره هو الحواريات. تحول هذا الشعر منذ حل في بيروت الى حواريات واسعة. منذ ذلك الحين لم يعد الشعر الدرويشي امتشاقا وارتجازا وانتخاء كما هو غالب الشعر الوطني بل تحول الى مقاربات مدورة وربما موازنات. الغناء يناظر الواقع، الصورة تناظر الفكرة، الرمز يناظر المباشر، الغريب يناظر الأليف. هذا هو مدار الجدل الداخلي للشعر الدرويشي. لم يكن حوار درويش مع الموت شيئا آخر. لقد كان حوارا متعدد الأطراف متجاذبا ومفتوحا. كان العدم لكن اللحظة والجسد والرغبة والاشكال والألوان والماضي والمستقبل، جميعها حاضره في هذه الحوارية، جميعها لكن منقسمة متنازعة ومفخخة بأسئلتها. كان الموت، مجددا، قطب هذه التجاذبات والانكسارات والعلاقات والانزياحات. لقد كان بؤرة هذا الموران والاشراق والارتجاج. لم يتكلم محمود درويش عن الموت الا وقد اخرجه من خوائه وما كان هذا ليتكلم وينطق ويستقبل الا بهذا المعنى. يخطئ من يبحثون لدى درويش عن معري آخر. يخطئ من ينتظر منه «جامعة» جديدا. «باطل الأباطيل» لم تكن مقالة محمود درويش. باطل الأباطيل بالتأكيد لكن لا حاجة لتكرار ذلك مجددا. الأدب لا يثبت ما لا يحتاج الى اثبات، انه يقول بقدر اكبر الزائل العارض المتغير. كان هذا بالتأكيد مدار شعر محمود درويش. ليست الظلال وحدها متغيرة ولا الألوان ولكن ايضا الافكار والمصائر والأحلام. اللحظة الشعرية او تحويل القصيدة الى لحظة هي خزين ذلك كله، الوجود والعدم يتجاذبان في داخلها وفي داخلها ايضا تشتعل الرغبات وتنطفئ وتمر الأحلام وتتلاحق الأزمنة. كان محمود درويش يحاور موته الشخصي وليس موتا آخر. هذا الموت الذي يصطدم بحياة كاملة او بالأحرى يستوفز حياة كاملة، يزعزع لكنه يجعل كل شيء أشد وميضا.
في ديوانه الأخير يداور درويش الموت، لكنها ايضا مداورة الحياة، من يستطيع الفصل. انه يتكلم عن الشعر وعن النثر، عن الحب، يعيد احياء قريته الدارسة «البروة» يرثي اصدقاء وشعراء، يكتب شعرا «موضوعيا» «الواقعيون»، يستمهل الموت لكن ايضا يعوذه ويرقيه، يهرب تحت اسم «الآخر» منه وبلعب مسافات الزمان والمكان. لكنه يحتال عليه، يسلم جسده وذاكرته للشعر، لن يجد الموت شيئا.
لقد فتح الشعر «لا أريد لهذه القصيدة ان تنتهي». ستبقى القصيدة مفتوحة سيبقى الموت خارجا وفي الانتظار، هل يمكن للقصيدة ان لا تنتهي. من وجهة الشعر سيكون هذا احتمالا مقبولا والا فلماذا كان الشعر. هذه القصيدة لن تنتهي وما من ديوان أخير.

السفير الثقافي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى