تحديات التغيير الديمقراطي في سورية
د.عبدالله تركماني
على الرغم من مظاهر الحيوية والتفتح التي أظهرتها النخب الثقافية والسياسية السورية خلال محطات عديدة، فإنّ التوقعات حول التغيير الديمقراطي في سورية تتقاسمها نزعات الأمل والقلق في آن واحد. وقد يكون من الصعب أن نقول، إنّ التغيير الديمقراطي يملك حلولاً سحريةً لكل مشاكلنا، ولكن من السهل الاستنتاج، على ضوء تجربة شعبنا مع النظام الشمولي – الاستبدادي، أنه الطريق الأصوب للتعاطي المجدي مع التحديات المفروضة علينا، حين يقدم لنا إمكانية لإيجاد الحلول، خاصة إذا ساد الفهم المسؤول لمعانيه والإدراك الواعي لمتطلباته ونقاط القوة والضعف فيه.
إنّ التغيير أضحى حاجة موضوعية في سورية، إذ تؤكد كل المعطيات المتوفرة الحاجة الماسة إلى الإصلاح الشامل، فالنمو الديمغرافي هو من النسب الأعلى في العالم (يتراوح بين 2.1 إلى 2.3 ‘)، بينما النمو الاقتصادي مازال منخفضاً، وأكثر من 600 ألف عاطل عن العمل، وما بين 200 إلى 250 ألف طالب عمل سنوياً. يضاف إلى ذلك أنّ متوسط الدخل الفردي يقل عن مثيله في الدول المجاورة، ويزداد أثر ذلك بسوء التوزيع، إذ تشير المعطيات المتوفرة أنّ 5′ من السكان يتمتعون بـ 50′ من الدخل الوطني. كما تشير إلى أنّ 60′ من المواطنين السوريين يعيشون في حدود خط الفقر (أي من دولار واحد إلى دولارين في اليوم)، وأنّ 25 – 27′ يعيشون تحت خط الفقر (أي بأقل مـــــن دولار في اليـــــوم)، كما أنّ أغلب المؤسسات السورية تعاني من الترهل والتسيّب والركود.
لقد ورثت سورية، منذ انقلاب 8 آذار/مارس 1963 حتى الآن، تركة ثقيلة، دولة متأخرة، ونفوذ جماعات تتسلط على مصالح البلاد والعباد، وحزبا ومنظمات شعبية وأحزابا مشاركة مترهلة تبحث قياداتها عن مصالحها الذاتية، وإدارة اقتصادية غير حكيمة في إدارة الموارد الاقتصادية والبشرية بشكل عقلاني لإنتاج عناصر تطوير وتعظيم لها، وسجلا حافلا بانتهاكات حقوق الإنسان.
وإذا أضفنا عمق التحولات في العلاقات الإقليمية والدولية، خاصة تداعيات الثورات التونسية والمصرية والليبية، وإرهاصات الثورة في العديد من الأقطار العربية، فإنّ الوضعية لم تعد تحتمل تأجيل إعادة بناء الدولة الوطنية السورية الحديثة، فلم يعد من الممكن في عالم اليوم البقاء بعيداً عن ثورة الحرية والكرامة للمواطن السوري.
ويبدو أنّ السلطة السورية لم تستوعب بعمق طبيعة ومنحى هذه التغيّرات، والخشية أن يسدد الشعب السوري فاتورة عدم فهمها وإدراكها لهذه المعطيات الجديدة. وعليه، لن نستغرب إن بقيت السلطة تراوح مكانها في سياساتها التي أكل عليها الدهر وشرب، فبنيتها الاستبدادية تبدو عصية على الانفتاح وفهم دقائق ومتغيّرات ومستجدات العصر، إذ أنّ مراكز القوى فيها لا زالت أسيرة عقلية الحرب الباردة ومفرداتها المتحجرة وصفقاتها التي أضحت من مخلفات الماضي.
وفي هذا السياق رتّب التاريخ السوري المعاصر على قوى الثقافة والعمل، خاصة من الشباب الذين يشكلون حوالي 65’ من الشعب السوري، مسؤولية وطنية كبرى، تتناسب مع الدور المهم الذي تلعبه في الحياة الفكرية والاقتصادية، لذلك فإنّ التغيير الديمقراطي سوف يقع على عاتق هذه القوى في الدرجة الأولى، فهي التي ستكون القاعدة الاجتماعية الأهم للتغيير الديمقراطي المنشود.
ولاشك أنّ تحوّل هذه القوى إلى كتلة مؤثرة مرهون بقدرتها على جذب أوسع القطاعات الاجتماعية التي تطمح إلى التغيير، من داخل حزب السلطة ومؤسساتها ومن المثقفين وجماعات المعارضة، بمن فيهم شباب القومية الثانية من المواطنين السوريين الأكراد، وشباب التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت. كما أنه مرهون بقدرتها على تجديد الثقافة السياسية السورية، من خلال اعتبار ساحة الفعل السياسي مفتوحة على الدوام على قوى ومجموعات ذات توجهات فكرية ومشارب سياسية متباينة، وضرورة التزام الخطاب العقلاني والواقعي في العمل السياسي، واعتماد ثقافة الحوار.
إنّ المعارضة السورية تواجه عقبات ومعوّقات بنيوية، فقد استطاعت السلطة الاستبدادية، خلال سني الخوف العجاف، تقزيم جميع البنى السياسية والمدنية المستقلة عن السلطة (الأحزاب والنقابات والجمعيات)، واعتقال أو تهميش أو تشريد العديد من الشخصيات التي يمكن أن تكون محوراً لعمل وطني معارض. وعليه، يبدو أنّ المعارضة، بجناحيها السياسي والمدني، وعلى الرغم من الحراك الذي شهدته في السنوات الأخيرة، والذي تُوِّجَ بتشكيل ائتلاف إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي في 16 تشرين الأول/اكتوبر 2005 وعقد مجلسه الوطني بدمشق في كانون الأول/ديسمبر 2007 بحضور 163 ناشطاً في الشأن العام، عاجزة عن قيادة عملية التغيير الديمقراطي. ولكنها يمكن أن تشكل قوة أساسية في ما إذا عززت وحدتها، وأعادت صياغة برامجها الموحدة بعيداً عن العصبيات الحزبية الضيقة، والأهم من كل ذلك قدرتها على جذب الشباب والنساء إلى برنامجها للتغيير الوطني الديمقراطي السلمي.
ومن جهة أخرى، فإنّ صياغة معادلة جديدة للحياة الداخلية تأخذ بعين الاعتبار تعاظم التحديات، في ظل علاقة بين السلطة والمجتمع، قائمة على القناعة والثقة والتفاعل الحر، علاقة مقننة في إطار عقد اجتماعي جديد يوفر الشفافية والمؤسسية والقانون، هي وحدها الكفيلة بوضع سورية على أولى درجات التغيير المنشود، وإلا فإننا أمام حالة إعادة إنتاج الماضي بكل مآسيه، خاصة إذا بقيت بنية الاستبداد موجهة لمجمل توجهاتنا.
وفي هذا السياق، لا يخفى عنّا الدور المهم الذي تلعبه مؤسسة الرئاسة في الجمهوريات الرئاسية عامة، وفي الحياة السياسية السورية منذ سنة 1970 خاصة، حيث كان الرئيس محور قوة السلطة، وحيث جرى احتكار العمل السياسي من قبل سلطة الدولة. وعليه، وعلى الرغم من كل الحيوية التي تتمتع بها النخبة الوطنية السورية، بات التغيير صعبا ومكلفا (ينطوي على مخاطر تمزيق الوحدة الوطنية وتسهيل التدخل الخارجي)، ذلك لأنّ المجتمع بات شبه عاجز عن المبادرة إلى إطلاق سيرورة تغيير ديمقراطي حقيقي، فهو مغيّب عن الحضور الفعلي في الدولة، فلا وجود لمنظمات مجتمعية مستقلة فاعلة، ولا وجود لأحزاب معارضة علنية فاعلة، ولا وجود لصحافة حرة مستقلة، ولا انتخابات تعددية نزيهة.
فما هي المعوّقات التي يمكن أن تعترض أي تغيير من داخل السلطة بمبادرة رئاسية؟
على امتداد عدد من السنين هيمن نمط من الأجهزة الأخطبوطية على مجمل نواحي الحياة السورية، بحيث تم ابتلاع كل المظاهر الأولية لوجود المجتمع المدني السوري، بل انّ المجتمع السياسي نفسه لم ينجُ من سيطرة هذه الأجهزة، حيث ‘قُضمت’ الدولة وأُرغمت على إخلاء الساحة للدولة الأمنية. ومن هنا يبقى القول، إنّ مصير أي مشروع للتغيير الديمقراطي، من داخل السلطة القائمة، مرتبط بـ’أزمة التطبيق’، إذ أنّ كل القوانين والإجراءات والتدابير التحررية تواجه المقاومة والتأجيل والإعاقة عند التنفيذ، أو تنفّذ على نحو بيروقراطي وبطيء وخالٍ من حيوية التغيير، لا بل يترافق تنفيذها أحيانا مع نية إبطال مفعولها، فثمة أمثلة عديدة عن دور الانتهازيين والمنافقين والمتملقين في تخريب تجارب بدأت مفعمة بأمل التغيير، فجرفها هؤلاء نحو عكس رهاناتها.
وعليه، فإنّ توافقاً بين السلطة القائمة والتيارات السياسية والمجتمعية المعارضة قد يساهم بتطوير آليات المجتمع المدني، خاصة إذا تم التوافق على تشكيل مجلس للوفاق والإنقاذ يضم ممثلين عن كل المكوّنات الفكرية والسياسية والقومية للشعب السوري، بما يساعد على توسيع رقعة الحريات العامة، وتحريك وعي الجماهير، ودفع شرائح واسعة منها إلى الانغماس في خضم العمل السياسي العام. ومما يحيل أفراد المجتمع السوري من مجرد رعايا تابعين، غير مبالين، إلى مواطنين ناشطين فاعلين يمكنهم التأثير في ديناميات اتخاذ القرار السياسي والإسهام في تغيير بنية التمثيل السياسي، فضلاً عن مشاركتهم في تحديد الأهداف الكبرى، وصياغة السياسات العامة.
ومما لاشك فيه أنّ تجسيد مثل هذا الوفاق، بأهدافه وموضوعاته، منوط بالسلطة أولاً، ويعكس مدى جديتها في التغيير الديمقراطي، إذ من المفترض أن تبادر إلى الدعوة الشاملة إلى الحوار المفتوح والمجدي والعــــملي مع القوى السياسية والمدنية والثــــقافية الأساسية، مما يرفـــــع من شأنها في أعين المجتمع، ويقطع الطريق على انتــفاضة مجتمــعية ممكنة، ويفتح في المجال لتجسيد قيم الإصلاح وحاجاته في الواقع.
وفي كل الأحوال، يجدر بالمعارضة السورية بكل أطيافها، أن تبحث عن أشكال متطورة للحضور الشعبي الكثيف، خاصة من الشباب والنساء، في فعالياتها النضالية السلمية، كي تضمن إجراء التغيير الديمقراطي المطلوب.
إنّ إنجاز التغيير الديمقراطي، في كافة البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية، بات ضرورة للتمكن من التعاطي المجدي مع تحولات العالم المعاصر طبقاً للمصالح الوطنية السورية العليا. ولعل برنامجاً شاملاً، يصوغه مؤتمر وطني عام، يساعد على الخروج من خيارات الماضي، الذي يفتقد حرارة التواصل مع الحاضر والمستقبل، إلى خيارات المستقبل التي تفتح الأفق أمام انطلاق مبادرات كل مكوّنات الشعب السوري.
ولاشك أنّ تحديد الأولويات ومراجعة الأهداف المزمع تحقيقها ضرورة ملحة في سورية، ليتم التركيز على متطلبات الإصلاح والتغيير وتكريس القواعد الديمقراطية وبناء المؤسسات الدستورية ومعالجة المشاكل المعيشية وتحديث الهياكل والبنى الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق التنمية والارتقاء بمستويات القدرات السورية.
إنّ نجاح أي مشروع للتغيير الديمقراطي مرتبط بإجراء إصلاح سياسي شامل، مقدماته الضرورية تقوم على إلغاء كل القيود على الحريات الديمقراطية، وتقوم أيضاً على الدعوة إلى استقلال القضاء وسيادة القانون، إضافة إلى كل أسس النظام الديمقراطي، بما يضمن قيام دولة حق وقانون قوية.
وهكذا، تبدو سورية في أمس الحاجة لأن تتضافر جهود جميع أبنائها للتعاطي المجدي مع التحديات المطروحة على شعبها. لذلك فإنّ المطلوب هو التحول السلمي الهادئ من الدولة الشمولية إلى الدولة الديمقراطية، بما يوفر إمكانية الانفراج التدريجي والمحافظة على الوحدة الوطنية وإعادة الاعتبار لدولة الحق والقانون المتصالحة مع مجتمعها. ومن أجل ذلك لابد من سن قانون عصري لتأسيس الأحزاب والجمعيات، واستكمال الملف الأمني بإطلاق كل معتقلي الرأي والضمير، وفتح ملف المفقودين، وإصدار قانون عفو تشريعي عام عن المنفيين السياسيين، وإعادة الثقة بين السلطة والمجتمع.
ومن غير الممكن تصور تغيير ديمقراطي ناجح في سورية بمعزل عن عودة الروح إلى المجتمع المدني، وضمان مؤسساته المستقلة عن سلطة الدولة، كي يسترد المجتمع السوري حراكه السياسي والثقافي، بما يخدم إعادة بناء الدولة الوطنية الحديثة.
نحن أمام تحديات حقيقية تستوجب تفعيل الخيارات الممكنة، من خلال إرادة سياسية صلبة، وإدارة عقلانية لكل إمكانياتنا المتوفرة، بهدف التعامل مع الوقائع القائمة كما هي لا كما تتخيلها رؤى مبسطة. فليس من الواقعية والعقلانية أن نغمض أعيننا عن مختلف الخيارات والقدرات التي يمتلكها الشعب السوري بكل مكوّناته، وذلك من خلال إعادة صياغة كل أسس قوتنا، بترتيب أوضاعنا الوطنية، وإعادة ترتيب العلاقات مع العالم والموازين الإقليمية والدولية.
كاتب وباحث سوري مقيم في تونس