صهيل في العتمة البيضاء!

خيري منصور
قد تبدو الثقافة الان محذوفة من المشهد، فهو بوضوحه وما يفرده من يافطات كالمظلات يتقي بها وابل المطر والرصاص لا يحتاج الى تفكيك او تأويل، لأن اللحظة رغم سطوعها تعود بنا الى اول السطر في التاريخ، والى المعادلة البكر التي كان طرفاها جلادا وضحية.
رغم الالتباس الاخلاقي الذي تعاني منه الذاكرة الآثمة منذ هابيل وقابيل حتى هذا الصباح مرورا بالأمين والمأمون، والتاريخ الممهور منذ بواكيره بثقافة الكيد والاستعداء والوشاية يتقطر الان في ظهيرات عربية لم تنج منها حتى قيلولة الصحراء المديدة ..
الثقافة محذوفة كمقولات وأيقونات وسجال غالبا ما يزدهر في ايام البطالة، سواء كانت سياسية او اجتماعية، لكن هناك شحنات تومض من بعيد، وهي التي قال عنها ذات خريف أموي الشاعر نصر بن سيار انها تومض خلل الرماد ويوشك ان يكون لها ضرام .. لكن أية ثقافة تلك التي شحنت العربي الرهينة في عقر وطنه وداره وحتى جسده، ووخزت فيه آخر عصب حيّ فاستيقظ من سبات مزمن؟ هل هي ثقافة الامتثال والقطعنة والتأقلم الرّبوي ام ثقافة العصيان والمساءلة؟
الان لا بد من فك هذا الاشتباك بين ثقافتين احداهما أعاقت مجتمعات وكيانات عن النمو وحاولت جرّ العربات كالبغال الى الوراء.. وأخرى جازفت واجترحت طريقا مزدوجا في الغابة والصحراء معا، وقد يعلو صخب الموسيقى الان بحيث يفسد الرقصة، فتختلط الاقدام بالاقدام، وتقع الحوافر على الحوافر ويرتدي منظرو القنوط وحاشية كاليغولا طاقيات الاخفاء. ان ما يجري الان ليس على خشبة مسرح يرتهن للكهرباء في اضاءته، وتحاصره الجدران الأربعة، انه يجري في الشارع وتحت سماوات عارية الا من غيمة عابرة او طائر يدهشه ما يرى، وما يحدث هو في عزّ الظهيرة، ولا سبيل الى فرار الشهود فهم العالم بملياراته الستّ، وان اختلفت لغاتهم او لون بشرتهم او حتى احلامهم في التغيير.
ثمة مثقفون باسلون أراهم يتسللون من المقابر ليتصدروا المشهد، لكن هتافاتهم غير مسموعة لفرط ما صرخوا قبل هذا الاوان حتى بحّت اصواتهم او تفجرت شرايين أعناقهم كجياد محاربة، ارادوا لها ان تجرّ العربات المليئة بالقمامة، ومثل هذه اللحظات ليست نباتا زمنيا شيطانيا يأتي من خارج التقاويم، انها ما يتقطر في ساعات او أيام من كثافة التاريخ الذي تفاقمت فيه المديونيات والتأجيل لأن العين كانت شديدة الابصار رغم الأرق المزمن، لكن الأيدي كانت تضمر بحيث تلتصق بالاكتاف، وثمة على ما يبدو نصاب زمني لكل حراك فاعل، وتراكم لا بد من تزاوج مفاعيله في الباطن اولا، وقبل ان تتم القفزة البرية مخترقة واجهات الزجاج والجدران الهشّة لهذا السجن الشاسع الذي زجّت فيه أمّة بأسرها.
ما من حرب طالت بين ثقافتين كهذه التي عشناها نحن العرب قرونا وليس عقودا فقط كما يحلو للمؤرخين المصابين بالزهايمر وما كان لبغداد ان تستباح قبل قرابة تسعة قرون لو ان خليفتها بنى بصناديق المجوهرات سورا او سعى لحمايتها من المغول.. هذا ما قاله هولاكو المغولي لحظة أمر باحضار تلك الخزائن، لكن المغولي الطارىء لم يكن لديه من مناعة الغزاة ما يكفي كي لا يصاب بعقيدة من غزاهم، ليكتشف انه اسير رغم ان كل العباد كانوا اسراه في تلك اللحظة الثقيلة، وما اعنيه باللحظة الثقيلة تاريخيا هو ذلك العبء الذي لا يقوى الفرد على احتماله، فيعيد اكتشاف الاخر حليفا وليس عدوا فقط، ونعيما وليس جحيما كما وصفه سارتر في ‘ الجلسة السرية’.
* * * * * *
لم يخطر ببال افرازات الثقافة الداجنة المبشرة بديمومة الشقاء وذات الاطروحات البائسة حول ثنائيات السادة والأرقّاء، واولي القهر والزجر ان التاريخ ماكر كما وصفه هيغل، وان المتواليات لن تمضي حتى الابد بالوتيرة ذاتها، وأن العطلة التي تورط بها التاريخ لعدة عقود لن تكون آخر المطاف، لهذا فهم الان يحاولون بأقدام مرتعشة ان يشاركوا في الرّقصة رغم ان موسيقاها مضادة لكل خلية في دمائهم، ويسهل على ابسط الناس ان يتعرف على تلك الافرازات من شحوبها ومن الرّماد الذي يغطي بياض عيونها، لكن الحراك الانساني البريء والذي يستجيب لنداء محرر من الثأر والكيدية والوشاية يمضي عبر مجراه الراعف نحو المصب الذي قرره، وقد لا يعبأ بتلك الجملة المعترضة العابرة، كما لا تعبأ الشجرة الباسقة بأفعى تمطت في ظلها، لأن الحفيف هو الأقوى والأبقى من الفحيح.
* * * * * *
ما ينتصر الان رغم كل ما يتسلل الى المشهد من طفيليات وطاقيات اخفاء، هو الثقافة المضادة التي غذّت الخلايا البيضاء في الدورة القومية لأمة بالمناعة، وما يتقهقر الان وتذروه عواصف كانون الثاني (يناير) وشباط (فبراير) وآذار (مارس) وما تبقى من شهور السنة الطليقة، هو ثقافة وعّاظ السلاطين كما سمّاهم الراحل علي الوردي، وسلالة الحطيئة ممن اوصوا احفادهم واحفاد احفادهم بالمسألة.. وهي الكديّة وليست سؤال الكينونة الشكسبيري.
ان ما يبدو محذوفا من دائرة الضوء او من قوس قزح هو ثقافة العصيان والشرارة الهاجعة في الحجر، بانتظار اول احتكاك مع حجر آخر، فهذه الثقافة كانت احيانا اشبه بالمجرى الجوفي في باطن هذا الواقع، لكنها اندلعت عندما لم تعد القشرة الهشة تقوى على صدّها، وهذه ليست المناسبة القومية الاولى التي ترتدي فيها هراوات السلطة وملاقط الرقابة طاقيات الاخفاء، فقد حدث مرارا ان غيّرت الحرباوات لون جلدها، لكنها بقيت حرباوات في صدوع الصخور او تحت قشور الخريف الصفراء …
والحمير التي كانت لعقود محملة بالاسفنج وتسخر من الخيول المحمّلة بأكياس الملح، تعاني الآن من البدء في تسديد المديونية الباهظة، وما أذاب ملح الخيول وملأ اسفنج الحمير ليس نهر ماء بل بحيرة دم.
* * * * *
اخيرا صحت النمور في اليوم الحادي عشر، بعد ان كانت موشكة على الثغاء في يومها العاشر وفي هذه القصة ذات الوعي الاستباقي لزكريا تامر، تمر النمور ببعديها الواقعي والرمزي بمراحل التدجين، تنتهي اخيرا الى ان تتحول الى خراف ثم يحدث ما بعد الصفحة الاخيرة من قصة زكريا ان يعود الى النمور وعيها بذاتها، تماما كما حدث لنمر ويليم بليك الذي نسي بمرور الوقت نمريّته، وعاش مع قطيع من الخراف، يحاكيها في كل ما تفعل الى ان ساق الراعي حظه السيىء الى بركة ماء… عندئذ رأى النمر نفسه لأول مرة، فتحول الى ما يشبه الزلزال …
اننا عندما نفتش عن رحيق الزهور والزهر ايضا في العسل لا نعثر عليها، لأنها تتحول عبر كيمياء التمثّل الى عافية عذبة، وهذا هو حال الثقافة الحرّة، غير المرتهنة الا للوعي المفارق، ولهاجس أنْسَنَة الآدمي الذي تعرّض في عالمنا الى عملية تقريد ممنهجة بحيث اوشك على فقدان استحقاقاته الوجودية كلها.
الثقافة المضادة باطروحاتها الباسلة التي تحولت من رحيق الى شهد ومن شيء محسوس او مرئي او متخيّل الى طاقة وشحنة هي القوس التي تبدو للوهلة الاولى محذوفة من هذا المشهد، ولولاها لسادت تلك الثقافة العمياء التي وضعت نفسها وذكاءها في خدمة الطغيان والعسف …
ان ما يجري الان هو في عزّ الظهيرة، ومُضاء بسخاء بفضاءات العالم كله… لهذا ما من سبيل لأن تكون الخيول او القطط كلها سوداء في الليل!!!
القدس العربي