عاد أخي الوحيد ومعه ثورة
محمد الأصفر
ليبيا…
ليس في هذه الحياة مستحيل. كل شيء يمكننا مناقشته بهدوء والوصول معا إلى نتائج مقنعة للغالبية. فقط لا بد من توافر النيّة الطيبة والابتعاد عن العصبية والانفعال والتحلي بالمنطق والرصانة والعمق في معالجة المشكلة. أما حكاية أنت معي أو ضدي في معالجة المشكلات فلن تجدي نفعا. أنا لست معك ولست ضدك ولست حتى في المنتصف. إن وجدتُ مكان وقوفي فلن أكون كاتباً. أنا قريب منك لكنك لن تراني. أنا أيضا لا أراك على رغم نزفك في قلبي. لست مشغولاً برؤية الناس وأماكن وقوفهم تجاه القضايا. مشغول فقط بتأمل الطفلة التي فقدت عمّها الوحيد في مذبحة بوسليم.
***
– أين عمّي يا بابا؟
– مسافر.
– وهل يعود قريبا؟
– سيعود قريبا يا حبيبتي ومعه ثورة حلوة لك.
– ولماذا لا يتصل بنا بالهاتف؟
– ليس لديه رصيد الآن، لكنه سيملأ رصيداً وسيتصل قريباً يا حبيبتي.
– أعطني رقمه كي اتصل به أنا، فلديَّ “كارت ليبيانا”.
– أطلبي أي رقم محصور بين 1 و1200 وسيردّ عليك.
تقول لي الطفلة لقد طلبته وأجابني الهاتف أنه يصلّي صلاة الجمعة، فنمتُ وحلمتُ به سريعاً يا أبي. إنه رجل طويل يلبس رداء أبيض ويطوف بضريح عمر المختار ببنغازي، ثم يركب حصانه الأبيض ويطير إلى السماء، لقد لوّح لي يا أبي وهو يبتسم بيده، ورمى لي وردة فوّاحة. عندما استيقظتُ من نومي لم أجدها في أصيص قلبي، لكن رائحة بنغازي بل ليبيا المالحة قليلاً لا تزال تفوح، خذ يدي يا بابا وشمّ حتى تتأكد، لن أغسل يدي اليوم ولا غداً ولا أي يوم، أحب أن تظل هذه الرائحة عالقة بي كل عمري.
قلت لها:
– اغسلي يدك ولن تغادر الرائحة، فالماء يطرد الأوساخ فقط. وقد طردهم.
***
لقد اندلعت الثورة في بلادي وحققت شوطاً مهماً من النجاح على المستويين الداخلي والخارجي. كل مدينة تسقط وتتحرر من النظام السلطوي السابق، تشكل مؤسساتها الموقتة لتسيير الحياة والدفاع عن حريتها، وتنضم إلى ثورتها قيادات عدة من النظام السابق سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي. ترى الآن أن الذي تغيّر هو العلم فقط من أخضر إلى أحمر وأسود وأخضر، مع بزوغ الهلال والنجمة من اللون الأوسط الأسود المعبّر عن الظلم وحقب الاستعمار التي عاشتها ليبيا منذ القدم.
انضمام الجميع الى الثورة واختفاء الخلافات، تم نتيجة فرحة عارمة تعيشها المدن التي تحررت وتذوقت طعم الحرية الحقيقي، حيث لا خوف ولا رعب، والأجواء آمنة جداً، والعصبية التي كانت تميز الإنسان الليبي اختفت في لحظة. فالبلاد تسير بصورة آلية، لا سرقات، لا جرائم، لا مشاجرات، والكل يرغب في تقديم خدماته للمجتمع، لا يوقفه عن ذلك مطر ولا جوع. لقد غيرت هذه الثورة الوليدة الإنسان الليبي وأشعرته بأن هناك شيئاً اسمه حرية يجب أن يناله ويجب ألاّ يتركه ليتمتع به الغير على حساب سعادته وعرقه وحياته.
ومثلما ذاق الطغاة والفاشيون والنازيون طعم السلطة، ذاق الشعب طعم الحرية. ويا له من طعم رائع، فقد مس الضمير مباشرة، وأنعشه وبث فيه سعادة لا توصف. ليس لديّ وقت للكتابة، الوقت كله أمضيه بين الناس، ذلك أني أفضل أن أعيش الثورة الآن ولا أكتبها. هي ثورة طازجة جدا، بدائية، لا رتوش، ولا تقليد أعمى. ثورة بنكهة ليبية خالصة، خليط من الفلفل والملح والنور المصحوب برائحة البركة، كالذي نشمّه من قناديل الأولياء.
***
منذ سنوات كنت التقي مصادفة بين الحين والآخر بصديق قديم في سوق الجمعة أو في مأتم أو عرس أو مباراة رياضية. الآن ألتقي بكثير من أصدقاء الطفولة في شوارع الثورة وأزقتها. جدران الشوارع تحولت جداريات، مزدانة بمقولات جديدة تتغنى بالثورة وتمجد الشهداء وتتشفى من الطغاة المتغطرسين والمتجبرين وزمرهم الإرهابية. مقولات بأخطاء إملائية ونحوية فادحة، لكنها تنطوي على صدق كبير وفن كبير. فلحظة ولادتها هي لحظة حرية وحياة. أقترح أن لا تُطلى هذه الخربشات، بل أن تظل هكذا إلى أن تزيلها حرارة الشمس، وأشكّ في أن تزيل الشمس نقوشا أبدية كهذه. لا أريد أن أتحدث عن المذابح التي ارتكبت، فالعالم تابعها بالصوت والصورة، وهي جرائم وحشية يندى لها الجبين. لكن الشعب انتصر، واقتحم الموت. رأى بصيص الحرية وتتبّعه حتى النهاية. الشهداء ليسوا كلهم من الشبان أو الصبية، بل من كل الأعمار ومن كل المستويات الدراسية والاجتماعية. فقد انتفضت ليبيا كلها عن بكرة أبيها، ونحن لا نقلد أحداً، لكننا لا ننكر أننا أفدنا من ثورتي تونس ومصر. لقد صبر الشعب الليبي كثيراً، وصبره ليس جبناً، إنما كان انتظاراً لوصول لحظة الإلهام الحقيقي، وعندما حانت هذه اللحظة، ووجد أن الفرصة مواتية جداً ولن تتكرر، سجل الهدف بفن وشجاعة، وأدهش العالم.
ليس هناك أي أقراص مخدرة ولا خمور محلية سيئة، لكن هناك الحرية التي أطلّت وكان لزاما علينا أن نكرّمها ونعانقها بحب ونذهب معها إلى آخر الدنيا.
لم يكن الحسن الصباح لدينا، والجبل الأخضر والغربي ومصراتة والبطنان وبنغازي واجدابيا وواحاتنا وصحراؤنا لم يكن فيها “قلعة آلموت” التي استخدم تقنياتها عتاة المتطرفين والإيديولوجيين. ثورتنا هي ثورة شعب، ثورة بسيطة لأناس وصل الظلم والروائح النتنة إلى أنوفهم، فما عادوا يتحملون أكثر، وما عادت تنفعهم إصلاحات أو أدوية. الدودة وصلت الى العظم، والسوسة دخلت النخاع، والاحتقان بلغ مداه، فخرج الناس الى التظاهر وأعلنوا رغبتهم بالتي أحسن بتغيير النظام، فتمت مواجهتهم مباشرة بالرصاص الحي وبالدبابات وبذخيرة الطائرات والمدفعية، وليس بالعصي والمياه الساخنة والغاز المسيل للدموع. أحفاد عمر المختار الذي قال للمستعمر الإيطالي الغاشم نحن شعب لا نستسلم، ننتصر أو نموت، تعامل النظام معهم بالرصاص الحي الحارق الخارق، وعلى الرغم من القوة الضاربة القذرة فقد صبرنا، ونصرنا العالم، الذي، قبل أن يؤيّدنا، احترمنا لشجاعتنا وبطولتنا ونظافة ثورتنا التي لم تتخللها أي أعمال نهب أو تخريب. فالهدف واضح: إسقاط النظام الفاشي الرجعي الذي جعلنا كومة من البشر غير المرحَّب بهم عالميا على الرغم من أننا أنقياء وطيبون وأبناء عائلات ومجاهدون ولسنا مرتزقة أو أوباشاً أو أبناء عاهرات. المهم الآن أن السعادة تنشر ظلالها، وطعم الحرية تم تذوّقه، والعالم كله معنا، وسنتعاون معه بتقدير ووضوح وشفافية، وسنجعله يثق بنا ويعوّل علينا، وستتحوّل ليبيا بلداً حضارياً ومنارة علمية وثقافية، وسيكون الرجل المناسب في المكان المناسب، حيث لا اعتبار لقبيلة أو إيديولوجيا. الكل مقتنع بأن الحرية تتحقق. فليعمل الجميع من أجل أمّنا ليبيا. الثورة تحتاج إلى موهوبين وليس الى مخلصين، على رأي الأمبراطور الروماني أدريانو عندما تسابق أتباعه الأوفياء الى قطع أيديهم بعدما أمرهم بقتله أو تجريعه السم نظرا الى الآلام التي كان يعاني منها في لحظات احتضاره.
***
طوال الزمن الذي سبق الثورة لم نكن سعداء، كنا نعيش في الرعب. يحوطنا العسس والمخابرات، والقوّادون لا يفارقون ظلالنا، حيث في كل لحظة يمكن أن يتعرض المرء للاعتقال والقتل والتغييب، وحيث لا أحد يمكنه أن يتدخل، لا القضاء ولا المحاماة ولا حقوق الإنسان. في لحظة واحدة ارتكب الطاغية وزمرته ومرتزقته جريمة بشعة في سجن بوسليم عام 1996، حين أجهز من دون محاكمة على أكثر من ألف ومئتين سجين تم دفنهم في مكان مجهول. الطريف أنه في مدينة بنغازي تم افتتاح مستشفى جديد يسع لـ 1200 سرير وقد قمت بتوظيف هذا الأمر في روايتي “ملح” الصادرة عام 2010 عن “دار الحوار” التي تناولت فيها روائياً مذبحة سجن بوسليم الرهيبة، حيث كان أخي الوحيد أحد هؤلاء الضحايا الشهداء. ثم أصدرتُ روايتي “فرحة” في العام نفسه عن الدار نفسها، وهي تتقاطع مع “ملح” في مواضع عدة حول موضوع المذبحة، وقد اتبعتها بعد ذلك بروايتي “وزارة أحلام” عن “دار ميريت” وتناولت فيها أيضا هذه المذبحة التي كانت شرارتها من أسباب الثورة المجيدة.
كل شيء قبل الثورة كان معدّاً لمصلحة الطاغية وأسرته وزمرته. كل شيء كان موظَّفاً من أجل خدمة السلطة: العلم، الجيش، الشرطة، الماء، الثقافة، التعليم، الفنادق، المطاعم، الصحة… الخ. وكان المرء لا يستطيع حتى أن يتزوج الى أن يقيم النظام عرساً جماعياً أو يجعله يسهر الليالي في الطوابير من أجل الحصول على قطعة ذهب أو غرفة نوم لعرسه.
كنا أينما نذهب، تواجهنا المشكلات: الإمام الصدر، لوكربي، دعم الجيش الايرلندي، تفجير طائرة، فضيحة ارتكبتها مجموعة مقربة من النظام. كان ثمة في كل بلد من بلاد العالم إصبع تشير الينا. في كل بلاد نسافر إليها، يجبهنا موظف الجوازات بعبارة “انتظر”. فأيّ حياة كانت حياتنا؟!
***
الآن صارت البلاد جميلة والنساء والفتيات الليبيات صرن أجمل من ذي قبل. الابتسامات تظهر عذوبتها، والقلوب تغنّي مواويلها، والمرضى لم يعودوا في حاجة الى الدواء. فقد كانت ثمة غمّة تتسبب بكل الأمراض. غمّة إسمها الديكتاتورية الحمقاء، وقد زالت عن أرض ليبيا إلى الأبد.
الناس الآن إخوة. من كنا نحبهم ونشتاق إلى رؤيتهم واللقاء بهم من ليبيين أحرار أو عرب، سنلتقيهم ونعانقهم من دون خوف من أي بصّاص بشري أو الكتروني حقير.
يا عالم، نريد أن نعيش مثلكم، أناساً راقين، أنيقين، فنانين، عشاق حب وسلام وحرية، ومشاركين في تنمية العالم وتقدمه ورقيه.
الدول التي كانت متحفظة عن الليبيين، كلبنان ودول الغرب والشرق، بسبب مشكلات لا علاقة للإنسان الليبي بها، سترحّب بنا. لقد اقنعنا العالم بأن الخلل ليس في الشعب الليبي الثائر الطيب الشريف، إنما في النظام السياسي الديكتاتوري البشع والمحظوظ أيضاً، لأن الله جعله يضع يده على ثروة كبيرة من النفط والغاز يساوم بها العالم ويتملقه ويبيع بواسطتها الأخلاق والشعب والقيم الإنسانية النبيلة.
الآن، وقد تفجرت الثورة، فإن هذا النظام أصبح منزوع المخالب والأنياب القذرة، وها هو يصير حثالة كان في إمكانه أن يتجنبها لو أحس ولو للحظة أن ليبيا ليست هو فقط إنما نحن أيضا ¶
* روائي ليبي من مدينة بنغازي، صدر له: “المداسة”، “تقودني نجمة”، “نواح الريق”، “شرمولة”، “يانا علي”، “سرة الكون”، “عسل الناس”، “شكشوكة”، “ملح”، “فرحة”، “وزارة أحلام”.
النهار