صفحات ثقافية

في وداع عصر السلالات أبانا لمَ فعلت كل هذا بنا وبنفسك؟

null
فاروق يوسف
الخروج الى الشارع غير العودة إلى البيت. بالنسبة إلى العربي فان الخروج الى الشارع لا بد وأن يحمل معه أخطارا كثيرة، ليس أكثرها ضررا تورطه في رؤية ضابط شرطة ينحني احتراما لسائق متنفذ مخالف.
لقد ازدهر الفساد في البلدان العربية إلى الدرجة التي صار معها يرتطم بالحواس مباشرة، مثلما الصور والروائح والأصوات. صرنا نرى الفساد، نشمه، نلمسه ونسمع وقع خطواته وهي تسحق ما تبقى من فضيلة آبائنا وأجدادنا وسمعتهم الطيبة. ومع اتساع نطاق حركته كان مفهوم الكرامة الإنسانية يُزاح عن موقعه الحقيقي لينحصر في رذاذ الخطاب السياسي باعتباره نوعا من أنواع الحفاظ على هيبة السلطة المتفرغة لانجاز وظائفها الكونية الغامضة.
في الحقيقة لقد تخلى الإنسان العربي عن كرامته من أجل الحفاظ على سلامته الجسدية. وكان الحاكم في المقابل يعلي من شأن كرامة شعب لا يراه في صيغته الادمية، بشرا مباشرين لهم حق العيش الكريم والآمن والمستقل، مسرح عرائس تدير مشاهده أصابع خفية. لا بأس من حدوث توترات وتشنجات وخلافات بين حين وآخر غير أن ذلك كله يكون ضروريا من أجل أن تعيد تلك الاصابع القبض على الخيوط بتوتر يضفي على المشهد جاذبية متجددة.
كان هنالك الكثير من القتل بين الأخوة والرفاق، غير أنه القتل الضروري من أجل ان يكون المشهد أشد صفاء ومن أجل أن يخلص الايقاع إلى ذاته. ثم اننا كنا دائما عائلة واحدة، يلتف أفرادها مسحوقين حول الأب القائد، صاحب النظرة الابدية التي لا تخطىء طريقها إلى الاعداء المحتملين. كانت ضربات ذلك الأب الوقائية تجهض كل محاولة تهدف إلى زعزعة ذلك الكيان الهلامي الذي كانت أجسادنا تشكله في محيطه، حيث كان جسده هو مركز الثقل العاطفي في دائرة هواجسنا النائمة تعففا وتعفنا. كان نابليون يقول: ‘أحلم خطى جنودي’. فكان مصدر الالهام إذاً جاهزا للذهاب إلى الموت في كل لحظة يقظة.
2
كان على اللسان سؤال حائر: أبانا يا أبانا ما الذي فعلته بنا وينفسك؟ لم يقله أحد. كنا مأخوذين به إلى درجة الولع. نحبك والله نحبك. قلناها كما لو أن شعبا من الحشرات يلتهم قلوبنا. مسحورين به. قيل أنها الكارزما. الرجل له اطلالة ورهبة وتكتشف عيناه ما يتحرك تحت الجلد. من الوريد إلى الوريد. يسمع ضربات المنقار على الورقة قبل أن يقبل العصفور وهو يعلم ما يمتزج بالأنفاس من خيوط عبث لامرئية. فتنته لا تحتمل. ليت علم الأجنة ينقذ مستقبل هذه الامة عن طريق الايحاء. ولكن ماذا يحدث لو كان الرجل معلما في قرية أو بائعا في سوق الماشية أو مهندس طرق منسيا في الصحراء؟ من غير أب تقترحه السلطة تبدو الحياة غير محتملة. الهواء يقل والمكنسة تلتقط رموش العيون.
كنا ننام والقلق ينهش عيني القائد بشبق قط ولد بعد آذار (مارس). لقد أهلكتنا من الحب يا أبانا. لم نقلها. ولكن درجة الموت سبقتنا ولا نزال أحياء. جنوننا به جعله ينفصل عنا. شعب أبله. لم يعد هناك ما يستحق البذل. ولأن العطاء قد تم في صبيحة الثورة فان كل السنوات المديدة كانت مخصصة للقبض. بعد أربعين سنة نكتشف أن الثائر صار لصا. منذ متى؟ أين ذهبت الكارزما؟ في الدرس ما يشي بالخذلان العاطفي. هل سيكتشف الكوبيون يوما ما ان لكاسترو أرقاما سرية في المصارف الفلبينية؟ ترتجف يدي فيسقط السيجار. كان الرئيس لا يدخن إلا ( هافانا). هدية من صديقه الذي فتح موانىء جزيرة السكر على الخيال الوجودي. علينا أن نستعيد الصور لنمعن النظر في تجليات الشقاء. شقاء أرواحنا وهي تعلن عن غربتها في عالم المعادلات المضطربة. وإلا فكيف تأتى لثائر أن يجوّع شعباً يقيم على بحيرة من النفط؟ لن يفعلها بلقية، سلطان بروناي، ولا شيخ الكويت من آل صباح، وهما لا يزعمان السعي إلى تغيير الكون ولا حتى قلع برغي من مكانه في الماكنة. هل كانت الثورة ملاذا آمنا للصوص وقطاع الطرق ومحترفي الجريمة المنظمة؟
3
لقد خُدعنا إذاً. خدعنا العسكر ورجال الدين والاحزاب اليسارية والتنظيمات السرية والمنشورات والمظاهرات والاذاعات واسرائيل والامم المتحدة والمنتديات الدولية والصحف والبلاغات ومرجعيتا النجف وقم ومايكل جاكسون والازهر الشريف والبيانات والمؤتمرات والخصومات والحروب المجانية والاتفاقيات والتسويات وبرامج التنمية الخمسية والعشرية والسجون والعقائد والبيان الشيوعي والكتاب الأخضر. كنا في الحقيقة أسرى بين فكي كماشة واحدة. المطرق والسندان صنعا من مادة واحدة. طوال نصف قرن كنا مهزومين. ينظر إلينا العالم باعتبارنا أمة ميتة. ولو لم تكن هناك اسرائيل والنفط لما حرك وجودنا شعرة في رأس الغرب. من هذا المنطلق يمكننا أن نفهم حرص الغرب على استمرار آبائنا المقدسين في الحكم إلى النفس الأخير. بسببهم وقد حولوا حياتنا إلى جحيم اسطوري ستظل اسرائيل واحة للديمقراطية الكاذبة. بسببهم وقد حولوا آبار النفط إلى ملك شخصي ستكون حراسة تلك الآبار شأنا غربيا. لقد انتهينا إلى أن نكون أمة مخيبة. ضاع عمرنا كله من أجل فلسطين وهمية لا علاقة لها بالأرض السليبة. لم يعد ثوارنا بعد أن أصبحوا حكاما ينظرون إلى الخارطة حتى. صرنا في حاجة إلى من يصرخ: البحرين عربية. هناك من يقول اليوم ان الجزائر ليست عربية، فماذا عن دولة الامارات وسكانها العرب لا يمثلون إلا سبعة بالمئة من المقيمين على أراضيها؟ ضياع روحي عاشته أجيال كبرت على فكرة تقول بعداء أمريكا للشعوب. ولكن أمريكا كانت دائما صديقة لحكامنا المهووسين بالسياحة. كانت فرق التفتيش الدولية تقوم بنزهات سياحية في العراق طوال أكثر من اثنتي عشرة سنة من غير أن تشير في تقاريرها إلى كآبة شعب صار لا يفرق بين هذيانات سنابل القمح ووقع خطى الغزاة. لقد صار قدوم الاعداء مبهجا بالنسبة له مثلما هو موتهم. وهي نهاية مريحة بالنسبة للغرب. لقد انتهينا من شعب لنبدأ بالآخر، في الوقت الذي كان فيه حكامنا يغيرون المرآة التي ينظرون إليها في كل لحظة ويغيرون الأبواب. الثورة مستمرة وإلى الأمام.
4
أخيرا اهتدى شباب العرب إلى الشارع. لم يعد الشارع مخيفا. وكان آباؤهم قد نصحوهم فلم ينتصحوا. اللغة كانت قد تغيرت. سيكون علينا بعد الآن أن نتحدث عن كلمة سر هربت من اللغة لتكون الكلمة الأولى في معجم الحياة الجديدة. لقد اخترع اولئك الشباب ميزانا جديدا للقياس. الطاغية الذي لم يكن حرا لن يهبهم شيئا، لن يحدث أي ضرر مضاف لو أنهم تخلصوا من عبئه الثقيل. أبانا لمَ لا تذهب إلى التقاعد؟ لكن ذلك الأب وقد امتزج عليه وجوده بفكرة كونه خالقا لن يعجبه ذلك الاقتراح. الأب الذي صار لصا وكان قد نسي معادلات تمرده لن يجد هذه المرة في الغرب ما يعينه على الاستمرار لأن الفضيحة أكبر من أن يتحملها الغرب، ولأن اللغة الجديدة التي تحدث بها الشباب لم تكن اختراعا غربيا. لم يكن الشباب أوثانا لتسهل ازالتهم من قبل الماكنة القديمة، بل كانوا أرواحا هائمة تسيج المكان بعبق اسطورتها. ولقد تنفس الفضاء العربي كله هواء تلك الاسطورة التي انبثقت من بلدة صغيرة في تونس. كان الشارع كلمة السر. موعدنا هناك. لم يذكر أحد من الشباب المحتجون ماركس ولا تشي غيفارا ولا جمال عبد الناصر. لم يبتهل أحد منهم من أجل حضور المهدي. لم يتعرف أحد منهم من قبل على عفلق. لا حزب الله كان موجودا ولا القاعدة ولا الاخوان المسلمون. ‘نحن’ قالها الشباب وهو ما لم يتعرف عليه الفضاء اللغوي العربي الذي كان مولعا بالمفردة الوحيدة التي التهمت كيانه: أنا. أخيرا لن يخيف الشارع أحدا. في كل ركن منه هناك فلسفة جديدة لحياة حرة وكريمة ومستقلة. لقد هربت كل العقائد الدنيوية والآخروية وبقي المستقبل وحده في الميدان. عراة. ما أجمله من عري. العروبة من غير رياء. الاشتراكية من غير نفاق. ولك يا صديقي أن تتخيل قوة تأثير أن يكون العرب موجودين على شعوري.
شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى