رسالـة إلـى نصـر حامـد أبـو زيـد الأغـانـي لا تـزال ممكنـة اليـوم
محمد علي الاتاسي
أستاذي العزيز الدكتور نصر حامد أبو زيد،
هأنا أعود إليك مجددا ودائما، لأطرق سبات الموت الثقيل، أحاول أن أفتح ثقبا في عتمة بابه، عساها تتسرب منه إليك خيوط الأحداث لتنبئك بما نحن فيه اليوم. دكتور أبو زيد أرجوك اسمعني، هل تسمعني!: «لقد ولد عالم عربي جديد». اسمعني: «لقد سقطت معظم قلاع الاستبداد والبقية تترنح». اسمعني أرجوك: «مصر حرة يا دكتور، حرة بسواعد أبنائها، حرة كما كنت تشتهيها!».
سيظن البعض أنه أصابني مس من الجنون وبدأت أناجي الأموات. لكن لا أحد غيرك سيفهمني، أفلست أنت الذي طالما ذكرتنا، مقتديا بكبار شيوخ المتصوفة، بأن الموت ليس انحباسا للنفس ولكن انطلاقا للنفس. فالإنسان ينتمي إلى الكون ولا يغادره. الإنسان، يموت حين يكف الآخرون عن تذكره. فالموت خروج من المكان وحياة أخرى من خلال ذاكرة الآخرين، كما كان يحلو لك التكرار. اسمح لي إذاً أن أثقل عليك، هناك في البعيد حيث تمسي، وهنا في القريب حيث تشرق في أحلامنا ورؤانا وذاكرتنا.
أستاذي العزيز، كل شيء بدأ في مدينة نائية تقع في وسط تونس اسمها سيدي بوزيد، حين حطمت شرطة البلدية عربة بائع خضار اسمه محمد بوعزيزي وأتلفت محتوياتها، وعندما ذهب البائع للاعتراض في مقر البلدية على الظلم الذي لحق به، كان نصيبه صفعة على الوجه تلقاها من إحدى الشرطيات. لقد تعرض البوعزيزي في ذلك اليوم الواقع في 17 ديسمبر 2010 للإهانة وامتهان الكرامة، كما يتعرض للإهانة في كل يوم وكل ساعة ملايين المواطنين العرب على ايدي عناصر أجهزة الأمن والشرطة، عدا أن الشاب التونسي الذي اسودت الدنيا في عينيه، أراد أن يمارس فعل الحرية الأخير المتبقي له بأن يضع حدا لحياته بملء إرادته، وقرر أن يجعل من هذا العمل فعلا سياسيا بامتياز فاختار الساحة العامة للبلدية وأحرق نفسه فيها على الملأ. لقد شاء القدر أن يكون هذا الفعل ذو الأبعاد الرمزية العميقة هو الشرارة الأولى التي ستشعل النار في كومة القش العربية التي اسمها الاستبداد. وما هي إلا أيام حتى اشتعلت الثورة التونسية التي ما لبثت أن امتدت بنيرانها إلى كامل الأرض العربية. نعم أستاذي العزيز، الاستبداد، كما علمتنا، يصير هياكل كرتونيه وكومة من القش، في اللحظة التي نهزم فيها خوفنا ونكف عن الهتاف والتسبيح بحمد حكامنا الطغاة.
صدقني أستاذي الحبيب، لقد عشنا ولا نزال شيئا أشبه بالحلم والخيال. فلم يكد يمضي شهران على إحراق بوعزيزي نفسه احتجاجا على الظلم والقهر والإذلال، حتى سقط بثورات شعبية سلمية دكتاتوران هما بن علي وحسني مبارك (نعم حسني مبارك ما غيره!) وها هو صديقهما معمر القذافي يترنح بدوره، في حين ترتعد مفاصل بقية الأنظمة الاستبدادية العربية في مواجهة التحركات الشعبية السلمية التي باتت بالكاد تستثني عاصمة عربية!
لقد كان الشعب التونسي هو السباق، فدك المدماك الأول في حائط برلين العربي وكسر هذه الثنائية الرهيبة التي سجنت بها شعوبنا على مدى عقود طويلة: الاستبداد أو الإسلاميين. الاستقرار أو الفوضى. وهو بفعلته هذه أزال غشاء الخنوع عن عيون الملايين، وبيّن للقاصي والداني، أن هناك خياراً آخر عنوانه الحرية، وأننا كبقية شعوب الأرض نستحق الحياة الحرة الكريمة ونعرف كيف نشق إليها سبيلا.
لن أحدثك عن أولاد مصر الطيبين، فأنت أدرى مني بهم، لأنك واحد منهم، لكن دعني أحدثك عن مجموع هؤلاء الأولاد الطيبين، بشيبهم وشبابهم، بيمينييهم ويسارييهم، بإسلامييهم وعلمانييهم، كيف تحولوا بين ليلة وضحاها، إلى شعب واع بذاته ولذاته، يعرف ما يريد ويقاتل ويبذل التضحيات في سبيل ما يريد وينال في النهاية ما يريد. لقد صرخ هؤلاء «سلمية.. سلمية» وهم يتلقون رصاص الغدر بصدورهم العارية، وناموا على جنازير الدبابات وخطوا على حديدها المصفح شعاراتهم من أجل أن يحموا الجيش من جريرة دمائهم.
«الشعب يريد تغيير النظام»، «الشعب يريد إسقاط الرئيس»، «الشعب يريد تطهير البلاد». إنها الشعارات التي رفعت في ميدان التحرير وفي كل «ميادين التحرير» العربية. عادت الشعوب من جديد لتنوجد ككيان سياسي ولتكون الرقم الصعب في معادلة السلطة ولتبين للمستبدين وبطانتهم الفاسدة أن إرادتها إن شاءت وفعلت من إرادة الله. فبتوفر العزيمة وهمّة الشباب وبروز نكران الذات وتقدم الفعل على القول، لم نعد قبائل وعشائر ومللا وطوائف، بل أصبحنا بكل بساطة الكلمة وجسامتها شعبا مثل بقية الشعوب. أما وسائل الاتصالات الحديثة من الانترنت وكاميرات الهواتف المحمولة وشبكات التواصل الاجتماعية، فإنها إن ساعدتنا على التشبيك والتواصل وتفكيك الرقابة الأمنية، فإنها ما كانت بالتأكيد لتولد هذه الخصال فينا إن لم تكن موجودة أصلا.
لقد صار ميدان التحرير في قلب القاهرة صورة للوطن كما تحبه وتشتهيه. وتحول الناس من رعايا إلى مواطنين. النساء إلى جانب الرجال. والهلال يعانق الصليب. والمصلون سجودا إلى جانب غير المصلين. وصلاة الجمعة تتناوب مع قداس الأحد، لتعيد تذكيرنا بمقولة النهضة «الدين لله والحكم للشعب».
لقد سمعت رجالا ملتحين ونساء محجبات يحاججون السلطة العلمانوية بضرورة تعديل الدستور المصري، مذكرين إياها بأنه ليس كتاب الله المنزل. دكتور أبو زيد، تصور لم يعد أحد يتكلم في يومنا هذا، عن «حاكمية الله» أو عن «الإسلام هو الحل» أو عن أن «دستورنا هو القرآن». بالتأكيد هناك الكثيرون ممن لا يزالون يؤمنون بهذه الشعارات ذات الأفق الضيق والأحادي، وسيعمدون آجلا أو عاجلا إلى محاولة فرضها على الآخرين.
لكن هيهات يا دكتور أبو زيد، صدقني، هيهات! فكيف لهم، بعد مواطَنة ميدان التحرير، أن يسجنونا من جديد في فقههم البالي وتأويلاتهم المتحجرة. ألم يختلط في ميدان التحرير، جنبا إلى جنب، الرجال بالنساء والمسلمون بالأقباط والعلمانيون بالإسلاميين والمحجبات بالسافرات! ألم تسل دمائهم الزكية من دون تمييز على أرصفة وشوارع القاهرة! ألم ترسم السيدة المحجبة على مرأى الكاميرات قبلة الأم على وجنة الجندي الشاب حتى ينحاز لأهله وناسه ضد الطغيان. ألم تتنه الملايين من صلاة جمعة النصر في حضرة الخالق المتعالي، لتبدأ بالرقص والغناء احتفالا بذات النصر في ذات الميدان. ألم يرتكب المواطن العربي الأول محمد بوعزيزي إثما ما بعده إثم في نظر فقهاء السلطان عندما أحرق نفسه من أجل أن تعود الحياة إلى عروقنا التي جففها الاستبداد. نعم لقد عاد الشعب إلى الحياة وبعودته نزعت السياسة رداء القداسة عنها وارتدت ثوب الحياة بحلوها ومرها، بمقدسها ومدنسها، بسموها ووضاعتها، بفضائلها ومثالبها.
نعم دكتور أبو زيد، لقد بدأ مسار الديموقراطية ولا رجعة عنه، ولن يسمح شباب ميدان التحرير الذين دفعوا دماءهم ثمنا له، أن يكون باتجاه واحد، أو أن يجري استبدال استبداد باستبداد آخر بحجة حيازة الأكثرية. فللأكثرية المتشكلة انتخابيا حق يصان لدى الأقليات السياسية والدينية والثقافية، لكن للأقليات على تنوعها، حقوق على الأكثرية السياسية، يجب حمايتها بمعزل عن نتائج الانتخابات.
أتذكر اليوم، أستاذي العزيز، كلماتك الجارحة التي ألقيتها في القاهرة بمناسـبة انعــقاد المؤتمر السـنوي للجمعية الفلسفية المصرية. يومـها قلت معاتبا ومـذكرا:
كان هتافنا فى المظاهرات ونحن صغار – إبان الاحتلال البريطاني لمصر والفساد المتعاون معه فى القصر الملكي – «نموت نموت ويحيا الوطن»، ولم يكن الأمر مجرد هتاف فقد مات الكثيرون على ضفاف القناة وفى أرض سيناء واسشتهد آخرون فى معارك حصدت الالوف، باختصار دفعنا الثمن وحصد آخرون الثمرة، وظلت الأوطان كما هي رهينة احتلال من نوع آخر اسمه «الاستبداد» جنرالاته من بني جلدتنا يمصون دماءنا حتى آخر قطرة ويسدون منافذ التنفس أمام شعوب تختنق ومطلوب منها أن تظل تهتف، وقد تحولت صيغة الهتاف فصارت «بالروح بالدم نفديك يا ….» . فى تقديري أن تفكيك الاستبداد مسألة بسيطة وسهلة فحواها أن نكف عن الهتاف وأن نعيد النظر في مسألة أننا يجب أن نموت كي تحيا الأوطان. لماذا يجب أن نموت؟ وأي أوطان هذه التي ستبقى بعد موتنا؟ لقد متنا وبقيت أوطان لا نعرفها ولا تعرفنا.
يا ليتك كنت معنا اليوم، أستاذي الحبيب، لترى كيف أعاد الشباب المصري تعريفنا بالوطن. صحيح أن الجموع في سعيها لأن تسـتأصل الخوف الذي زرعه الطغيان في قلوبها، صرخت في مواجهة رصاصه «نموت نموت ويحيا الوطن». لكنها إن فعلت هذا فحبا بالحياة، وليس وأداً لها. نعم يا ليتك معنا اليوم لتراها تحيا من جديد وبحياتها تحيا أوطاننا.
أعرف بين نشوة النصر ودموع الفرح، ستتمالك نفسك قليلا وتقول لي محذرا: لا يزال الطريق طويلا، لقد نزع الشباب، أو بالكاد، الاستبداد السياسي، وبقي علينا جميعا ان ننزع الاستبداد من ثقافتنا. وستعيد على مسامعي عباراتك المأثورة التي قلتها في ذات الندوة في القاهرة: لقد تغلغل الاستبداد فى تفاصيل حياتنا من وطأة تاريخ طويل من الحكم العسكري أو الطائفي أو المشيخي، فالأب مستبد يقهر الزوجة والطفل باسم «تماسك الأسرة»، والمعلم يقهر التلاميذ باسم «حق المعلم في التبجيل والتوقير»، والرئيس أياً كانت درجته يقهر المرؤوسين باسم «الضبط والربط والنظام»، ورجل الدين يقهر المؤمنين باسم «السمع والطاعة»، والحاكم يقهر شعباً بأكمله باسم «التصدى للأخطار الخارجية» .
مع ذلك، اسمح لي أستاذي الكريم، أن أسرك أن يومنا هذا ولا كل الأيام. لقد استيقظت شعوبنا من سباتها العميق ومن الصعب على أي كان أن يعيدها إليه بعد اليوم. لا باسم الدين ولا باسم الاستقرار ولا باسم الوحدة الوطنية ولا باسم المصلحة الوطنية العليا ولا باسم الأمن القومي ولا باسم الذود عن تراب الوطن. لأن هذه كلها هباء من دون حرية الإنسان.
أتذكر ما قلته لي في أول مقابلة أجريتها معك قبل عودتك الأولى للقاهرة من منفاك القسري في هولندا. يومها سألتك عن دموعك التي انهمرت وأنت تستمع لغناء محمد منير في دمشق:
اريد ان اقول لك شيئا، لكن لا اعرف كيف اقوله! انا شخص عاطفي، ولا اخجل من ذلك. عندما شاهدت فيلم «المصير» وسمعت لأول مرة اغنية «علِّ صوتك بالغُنا»، وجدتها طريفة وضحكت. لكن عندما غنّاها محمد منير هنا في دمشق، ولحظة قال: «لسه الاغاني ممكنة»، انتفضت ولم اعد استطيع ان اتحكم بدموعي، ورحت اسأل نفسي: افعلا هي ممكنة؟
نعم، أستاذي الحبيب، أحب أن أجيبك اليوم: أغانينا ممكنة، وحريتنا ممكنة وأوطاننا ممكنة. تستطيع أن تبكي اليوم بفرح، كم نفتقدك ونشتاق إليك.
محمد علي الأتاسي
[ يعرض فيلم «في انتظار أبو زيد» لمحمد علي الأتاسي في دمشق سينما الكندي يوم الأحد 6 آذار في الساعة الرابعة بعد الظهر ضمـن فعاليات مهرجان دوكس بوكس للأفلام الوثائقي