الكواكبي.. الناقد الأشهر للاستبداد
أحمد الشريقي
بين خطبة “البتراء” الشهيرة لزياد بن أبيه في بواكير العصر الأموي وخطبة الحجاج الشهيرة في الكوفة عن “الرؤوس التي حان قطافها”، حتى الدماء التي يسفكها العقيد معمر القذافي في ساحات ليبيا، وقبله عشرات الطغاة العرب، لا تزال الأمة أسيرة سياق يعيد إنتاج المستبد المتسلط والملك العقيم.
ومنذ اصطلاء الأمة بنار الاستبداد وهي تحاول عبر نخبها الثقافية والفقهية فك لغزه والخلاص منه وتنسم هواء الحرية، سواء في الإطار الثقافي أو في الخروج على المستبد.
وحين يئست نخبة الأمة في بدايات ما يسمى “عصر النهضة” من تحقيق أنموذجها في السياسة والحكم، ورأت أن الفجوة تتسع بينها وبين الآخر، رفع بعض دعاة نهضتها -في صرخة يأس- شعار “المستبد العادل ” خيارا أخيرا ويائسا من تحقق “الديمقراطية”، أو الشورى الملزمة، بيد أن الممارسة السياسية العربية عبر تاريخها، كانت فقط ماكينة لتفريخ نموذج المستبد المتسلط.
وحده كان عبد الرحمن الكواكبي (1854- 1902) ومن بين قلة، يضع يده على جرح الأمة الفاغر منذ أبي العباس السفاح والحجاج، مقررا أن الداء يكمن في فساد السياسة وإنتاج المستبد، و”أن الخلاص إنما يكون في الشورى الدستورية”.
مبكرا، نبه الكواكبي في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد” إلى أنه “يلزم أولا تنبيه حس الأمة بآلام الاستبداد، ثم يلزم حملها على البحث في القواعد الأساسية للسياسة المناسبة لها بحيث يشغل ذلك أفكار كل طبقاتها”.
المستبد ينتهي مجنونا
ولعل واحدة من المصادفات التي يتم فيها اليوم استدعاء الكواكبي هو أنه قد ألف كتابه أثناء زياراته لمصر التي تشهد حاليا ربيع ثورتها على الاستبداد الذي قدم تشريحا له. كان ذلك مطلع القرن العشرين، حين كان المستبد التركي على بعد عقدين أو أقل من لفظ أنفاسه الأخيرة في المشرق العربي تاركا الساحة للمستبد الغربي.
لم ينشغل الكواكبي كثيرا بالمنظومة الثقافية التي تنتج المستبد، بل توجه ناقدا إلى هذه الآلة الاستبدادية وهي تفعل فعلها العجيب في امتهان المحكومين وتحويلهم إلى قطيع، يجب أن يسمع، وأن يمتثل لأوامر المستبد والذي -حسب الكواكبي- “يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم، ويحكمهم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المتعدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتّداعي لمطالبته”.
والمستبد منذ الكواكبي وفي صوره المتعددة في التراث أو بشخصيته المعاصرة “يتجاوز الحد ما لم ير حاجزا من حديد، فلو رأى الظالم على جنب المظلوم سيفا لما أقدم على الظلم، كما يقال: الاستعداد للحرب يمنع الحرب”، على أن الكواكبي يوضح أن بين المستبد ورعيته عقدا مثلوما، إذ “يود أن تكون رعيته كالغنم درا وطاعة، وكالكلاب تذللا وتملقا، وعلى الرعية أن تكون كالخيل إن خُدمت خَدمت، وإن ضُربت شرست”.
ويذهب الكواكبي في تشريحه لطبائع المستبد إلى أن حياته غالبا تنتهي بالجنون و”كلما زاد ظلما واعتسافا زاد خوفه من رعيته وحتى من حاشيته، وحتى من هواجسه وخيالاته. وأكثر ما تختم حياة المستبد بالجنون التام، لأن المستبد لا يخلو من الحمق قط، لنفوره من البحث عن الحقائق، وإذا صادف وجود مستبد غير أحمق فيسارعه الموت قهرا إذا لم يسارعه الجنون أو العته”.
أنواع الاستبداد
ويرى صاحب “أم القرى” أن من أقبح أنواع الاستبداد استبداد الجهل على العلم، واستبداد النفس على العقل، وذلك “أن الله جلت نعمه خلق الإنسان حرا، قائده العقل، فكفر وأبى إلا أن يكون عبدا قائده الجهل”.
وفي كتابه يعيد الكواكبي المقولة من أنه “كما تكونوا يول عليكم”، معتبرا أن المستبدين يتولاهم مستبد، والأحرار يتولاهم الأحرار، فهي -أي الأمة- عليها مسؤولية كبيرة في التحرر من الاستبداد الداخلي، ذلك أنه مقدمة للاستبداد الخارجي، ما لم يرفع الاستبداد في الداخل، وعليه فإنه، إذا “لم تحسن أمة سياسة نفسها أذلها الله لأمة أخرى تحكمها، ومتى بلغت أمة رشدها وعرفت للحرية قدرها استرجعت عزتها وهذا عدل”.
بطاقة هوية
يحدد عبد الرحمن بن أحمد بن مسعود الكواكبي، المولود في حلب، هويته الفكرية بأنه مسلم عربي، وهو لا يختلف عن أي من “المستبد بهم” فهو مضطر للاكتتام، شأن الضعيف الصادع بالأمر المعلن رأيه تحت سماء الشرق”.
قبل ذلك ولد صاحب “أم القرى” الذي أطلق على نفسه لقب “السيد الفراتي” في مدينة حلب لأسرة تعود في نسبها إلى “آل البيت”. وتوفيت والدته “عفيفة” وهو لم يتجاوز السادسة من عمره بعد، فنشأ في كنف خالته صفية بأنطاكية، التي كان لها أعظم الأثر في نشأته وصقل شخصيته.
أتقن الفارسية والتركية إلى جانب العربية، وكان له اطلاع واسع في علوم السياسة والفلسفة والقانون وسائر العلوم، تقلد العديد من الوظائف وعين محررا للجريدة الرسمية بقسميها العربي والتركي، وأصدر جريدته الأولى الشهباء في العام 1877، ولما أوقفها الوالي العثماني أصدر جريدته “اعتدال”.
أقوال مأثورة
ومما أثر عنه في تحليل أحوال الاستبداد قوله “أما الجندية فتفسد أخلاق الأمة، حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال وتميت النشاط وفكرة الاستقلال وتكلف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق، وكل ذلك منصرف لتأييد الاستبداد المشؤوم”.
وقال أيضا “الاستبداد يقلب السير من الترقي إلى الانحطاط”. كما اعتبر أن أسير الاستبداد لا يملك شيئا ليحرص على حفظه، لأنه لا يملك مالا غير معرض للسلب ولا شرفا غير معرض للإهانة”.
وبعد مسيرة طويلة من النضال ضد الاستبداد وأهله قضى الكواكبي مسموما في القاهرة عاصمة مصر زمن الخديوي عباس تاركا وراءه كتابي “طبائع الاستبداد” و”أم القرى” و”صحائف قريش”. ودفن ابن حلب في جبل المقطم شرقي القاهرة، ونقشت على قبره أبيات للشاعر حافظ إبراهيم جاء فيها:
هنا رجل الدنيا هنا مهبِط التقى
هنا خير مظلوم هنا خير كاتب
قفوا واقرؤوا أم الكتاب وسلموا
عليه فهذا القبر قبر الكواكبي
الجزيرة نت