شبه الانتلجنسيا وشبه الدولة!
خيري منصور
سئل بيكاسو ذات يوم عن احدي تجريدياته الخضراء، فقال: كل ما في الامر انني تجولت طويلا وفاضت عيناي، فرسمت، وبالمقياس ذاته، يمكن لكاتب او رسام ان يتجوّل طويلا في صحف عربية ومؤسسات ثقافية، وندوات وبرلمانات ودوائر حكومية، ثم يملأ صفحة باللون الأسود، لأنه تشبّع به، فما يراه هو احيانا مجرد اكياس من الفحم، ليس نمط الانتاج وحده ما يحدد ملامح النخب الثقافية في بلد معين، لأن تطور الميديا والتقنيات، واشكال الاستيلاد الانبوبي للبدائل أصبح من سمات عصرنا، واذا كنا قد توقفنا مطولا وفي عدة مناسبات حول شبه المثقف، فإن هناك ظاهرة آخري وثيقة الصلة بهذا الشبه، هي الدولة غير المكتملة، او الدولة الخداج، او هي الدولة الرخوة، اذا استعرنا هذا المصطلح من د. جلال امين.
ان شبه الدولة، له ظاهر خادع، فهو مكتمل النصاب للوهلة الاولي، لكن ما ان نفحص عينات منه حتي تتبدي الحقيقة، وهي ان ما يلمع ليس ذهبا او حتي فضة علي الاطلاق، فبامكان أي متعهد ذي باع في تصنيع الدّول الحديثة او الانبوبية ان ينجز واحدة منها خلال بضعة اعوام، خصوصا اذا كان متيسرا له ان يصنع تلفازا وصحيفة وبرلمانا علي غرار برلمان كاليغولا في الفلم الشهير الذي حمل هذا الاسم، حيث تولي حصان الامبراطور في احدي المرات مهمة ادارة البرلمان، اما الجنرال فقد جاء دوره بعد زوجته لارتهان جنسي مع الديكتاتور، وتلك حكاية أخري.
أمر منطقي ان يولد شبه المثقف من شبه الدولة، كلاهما لم يكن بأية حال نتاج عضوي، او حتي مجرد تراكم تاريخي، لهذا فهما يتناغمان ويتشابهان لا علي طريقة التوأم بل علي طريقة النمذجة، خصوصا بعد أن أتقن عصرنا مهنة المحاكاة علي نحو غير مسبوق.
شبه المثقف يتحرك في فمه لسان آخر مستعار، ولو لبعض الوقت، فهو لا يعني ما يقول، لأنه ببغاء تردد الصدي، وهو ايضا سريع الوثب من غصن الي آخر خصوصا اذا كانت الحديقة داجنة.
أما شبه الدولة، فهو خليط من مكونات لا تصل الي حد المقومات، لأن السيقان خشبية، ونمط البقاء لبلابي، أي يشبه شجرة اللبلاب التي لا تقوي علي الوقوف بمفردها وفي عصرنا ازدهرت الاشباه من كل نوع، فالتقليد او ما يسمي الاميشن يغمر الاسواق بالسّلع قصيرة العمر، والتي لا يمكن اصلاحها لأنها تنسجم مع المناديل الورقية والمستخدمة الديسبوزبل مثل الكوندوم وقفازات الاطباء في العمليات الجراحية وشفرات الحلاقة التي يستخدمها المسافرون لمرة واحدة!
ولو قدر لمنديل حريري ان يكتب يومياته في زمن المناديل الورقية، لأضاف الي احدي قصائد اليوت مقاطع آسرة، واستنطق نهر التايمز الذي كان لا بد له أن يصمت في اللحظة التي انتصرت فيها علبة بيرة فارغة علي زجاجة عطر من العصر الفيكتوري!
في شبه الدولة يكون المواطن شبه مواطن أيضا، والحدود مرسومة بالفحم أو الطباشير أما النشيد فهو كما وصفه ميلان كونديرا ملحمي، وطويل، وينذر بتغيير وجه العالم. هنا تصل الكوميديا الي ذروتها، وقد تنقلب الي تراجيديا اذا صدق دون كيشوت ما يقوله له التابع الامين سانشوا…
سانشوا هو شبه المثقف أيضا، مقارنة بصاحبه شبه الفارس، ما دام العدو من خشب ومجرد طواحين هواء تدور حول نفسها.
ان ما كتبه الانثروبولوجست بيار كلاستر عن ما قبل الدولة ليس هو المعادل او المرادف لما نسميه شبه الدولة، ما قبل الدولة يكون هناك نظام ما بغض النظر عن قابليته للتصنيف في خانات رعوية او مدنية، لكن في شبه الدولة ينعدم النظام، لأن السياق معدوم وحالة التشكّل ملفّقة، تستهدف الاستعراض اكثر من التحقق.
اما التحالف الشهير الذي أشار اليه هربرت ريد بين الكاتب الرجعي والقاريء الرجعي فإن له تجليات أخري علي صعيد شبه الدولة… ثمة تحالف مصيري بين شبه المثقف وشبه الدولة، لأنه لا يستطيع الحياة كالاسماك الداجنة في احواض الزينة الا داخل البيوت والمحيط الاطلسي بالنسبة له هو اناء من الماء لا يزيد عمقه عن أشبار..
لهذا تنتحر الحيتان كلما اقتربت من الشاطيء، لأنها لا تستطيع الحياة الا في ماء غزير يقوي علي حملها.
ان شبه الدولة هو المصادرة الحقيقية علي نشوء الدولة ذات الاقانيم الأربعة، لأن هناك اقنوما رابعا محذوفا من الكتب المدرسية والمعالجات الفجّة للتاريخ.
الأقنوم الرابع هو أشبه برائحة الوردة أو فائضها الذي لا يظهر في التشريح وتحت المجهر، انه ما يسمي علميا الجتستالت ، وما يتجاوز حاصل جمع الاجزاء، تماما كما هي الروح او الكلام بالنسبة للإنسان الحيّ، وبالمقابل فإن شبه المثقف يبدي آراء في كل شيء، في السوق والمناخ والمرأة والطعام والشراب، لكنه ما إن يتورط بإبداء رأي حول ثنائية الجهل والمعرفة حتي يفقد توازنه، لأنه ليس هناك وليس هنا، وليس عارفا وليس جاهلا، لأن وعيه مرتهن،ولا يري بعينيه، ولا يقيس منسوب الحرارة والبرودة بأصابعه المجردة، انه مخلب مستعار او ملقط او اي امتداد صناعي ليد تنبع من كتف آخر غير كتفه.
شبه المثقف وشبه الدولة هما شبه جملة سياسية وجملة معترضة في كتاب التاريخ، فلا المبتدأ مبتدأ ولا الخبر خبرا، وكلا الخداجين لا يكتفي بذاته، كما انه لا يكتمل بالآخر، فالنقصان الدائم والمتتنامي هو من صميم هذه الحالة الرخوة وشبه السديمية، لكن الاعلام بما اوتي من تكنولوجيا ومهارة علي الاعلان والاخفاء، يصنع من الحبة قبة، ومن البوصة عروسة كما يقال في المثل الشعبي.
ان السراب ليس هو شبيه الماء، بل هو نقيضه، لأنه يذكر بغيابه فقط ولا يقدم للفم المتشقق ظمأ اي ارتواء بل هو يضاعف من الظمأ، لأنه يقدم وعدا كاذبا بالارتواء، تماما كما يحدث في حالات الفجر الكاذب والحمل الكاذب وما يسميه اسوالد اشبنجلر التشكلات الجيولوجية الكاذبة التي تبتكرها العين الكليلة احيانا من النعاس واحيانا من الصّديد!
لكأن المقصود بالاشباه هو المصادرة علي ولادة ما هو عضوي، من خلال الاستباق والاجهاض، وهذا ما يحدث في تجارب ديموقراطية من ذلك الطراز الموسمي الذي يصلح للعرض علي الشاشات فقط.
وحين قال العرب ان الازمة اذا اشتدت تنفرج، لامسوا جوهر الجدلية في التاريخ والظواهر والاشياء، لكن ما يحدث الان، هو ايقاف الأزمة عند حدّ معين وتهدئتها من خلال ما يسمي تدوير الزوايا الحادة كي لا تنفرج أخيرا.
واذا كانت المرأة تضع مولودا في الشهر السابع للحمل، ويصبح قابلا للنمو والحياة، فإنها لا تطمح الي ذلك اذا اجهضت بعد شهر واحد من الحمل.
شبه المثقف قد لا يكون جنين الشهر الواحد او حتي الاسبوع الواحد، انه المشيمة ذاتها وكذلك شبه الدولة التي لا تستطيع الحياة خارج احواض سمك الزينة، والنباتات الزجاجية الداجنة.
وربما لهذا السبب تتحول شبه الدولة الي بيضة دجاجة، لا تحتمل جرحا، فهي إما ان تبقي علي حالها او تنكسر ويسيل محتواها علي الأرض، وهذا ما قاله أحد المؤرخين المعاصرين بشكل غير مباشر عن الدولة العبرية، التي بحثت منذ البدء عن بوليصات تأمين ضد الانكسار، لأنها لا تحتمل حتي القليل منه، بخلاف الدولة بمفهومها التاريخي، التي تتصلب وتتلقح بالانكسار الجزئي ضد الانكسار الشامل.
ما من انتلجنسيا استولدت من زواج العصفور والعقرب او من بعوضة ويعسوب، لأن مثل هذه الظواهر في التاريخ تنتمي الي ما سماه اشبنجلر التشكل الجيولوجي الكاذب، وللتاريخ ايضا باطنه، وطبقاته وصفائحه الجيولوجية، وان كانت فيزياؤه الماكرة قادرة علي فرز الاشباه باعتبارها نقائض للأصول…
شبه دولة، ينتج بالضرورة شبه انتلجنسيا، وتلك هي الاطروحة الجذرية المسكوت عنها في آخر طبعة ملقّحة وليست منقّحة للأطالس!!