إلى أين تمضي الثورات العربية؟
كيبل: الإسلاميون إلى تراجع
لويزار: لا عودة إلى الوراء
العرب على مفترق تاريخي. انهم في الطريق، لأول مرة، إلى الديموقراطية. وانهم يصنعون ديموقراطية، من خارج الأحزاب والمنظمات والمؤسسات، في مجتمعات حكمت بدكتاتوريات مزمنة ومتوحشة، ورثت استعماراً متوحشاً وشرها. وأنهم أمام أسئلة تمس جوهر مستقبلهم: أين مكان الدين في هذه الديموقراطيات. ما الإسلام المناسب. أي تنمية اجتماعية. «السفير»، تنقل حواراً أجرته مجلة «لو نوفيل أوبسرفاتور» الفرنسية مع مفكرين خبيرين هما جيل كيبل، وبيار جان لويزار.
وهنا نص الحوار.
لو نوفل أوبسرفاتور. الديكتاتوريات والأوتوكراتيات الأخرى في العالم العربي الإسلامي لا تزال، أو كانت، في الحكم منذ عقود. الظروف تختلف جدا بين بلد وآخر، ولكن من البحرين الى اليمن، مروراً بالجزائر وليبيا، الحركات التغييرية بدأت ترفض الأنظمة القائمة. هل إنّ عدوى الديموقراطية، بعد تونس ومصر، صارت محتومة؟
جيل كيبل. نحن نشهد اليوم تغييرا فعلياً في المكينة العقلية، الفكرية والسياسية في العالم العربي. فبشكلٍ ما، إن ذلك النوع من الهم أو اللعنة العربيةـ لا سيما منذ الحادي عشر من أيلول – كان ليترك مجالاً لتخيّل نموذج مختلف عن بن علي/ بن لادن: فمن جهة، الديكتاتورية أو الأوتوكراتية، ومن جهة أخرى محاولة للأسلمة الجهادية أو الداعية للجهاد. وفي الوقت الذي شهد العالم فيه، خلال العقود الأخيرة للقرن الماضي، سقوط الأنظمة الديكتاتورية بنسختها الموالية للغرب في أميركا اللاتينية، والأنظمة الاشتراكية في بلاد الشرق، وفي الوقت الذي شهدت فيه أيضاُ مجموعة كبيرة من الدول الإسلامية غير العربية سقوط ديكتاتورياتها وتراجع دور الجيش فيها، كان العرب يبدون عالقين في فكٍ من حديد. وذلك لأسباب عدّة، منها من جهة، ثبات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الذي كان يتيح كل أنواع النظريات حول الوحدة المقدسة، ما كان يمنع ظهور المعارضات المتهمة غالباً بأنها تخدم مصالح العدو الصهيوني أو الغربي، ومن جهة أخرى، الأهمية الخاصة للمردود النفطي في هذه الجهة من العالم، التي كانت تسهل إعادة التوزيع من قبل أنظمة مستبدة لم تكن تحتاج الى الارتباط بمتعهّدين حتى تنتج ثروتها الوطنية.
بعد عام 2003، كان على احتلال (أو تحرير، سمّوه كما تشاؤون) العراق على يد الأميركان أن يطلق الديموقراطية في المنطقة. ولكن العرب كانوا يسخرون من «الديموقراطية على الطريقة الأميركية» رافضين إياها على أنّها فخٌ سيتيح لإسرائيل فرض نفسها في المنطقة. اليوم، يتعلق الأمر بظاهرة نابعة من عمق الداخل، وهو ذو شرعية كبيرة، تطالب بالديموقراطية وبحقوق الإنسان من جهة، وبالحقوق الاجتماعية من جهة أخرى. العنصر الجديد هو اختفاء اللهجة الإسلامية المعهودة للإخوان المسلمين في مصر، فهم يتحدثون اليوم بلغة الديموقراطية وحقوق الإنسان والثورة الشعبية. ذلك لا يعني بالضرورة أنهم يتغيّرون، بل إنّهم يلحقون بالحركة القائمة. فشلت آليات القمع أمام الخطابات الجديدة، وخطاب الإخوان المسلمين نفسه قد أصبح، إن صحّ التعبير، بالياً.
بيار جان لويزار. نشهد اليوم ولادة أشكال جديدة من التحرك، التي لا نعرف بعد إن كان مصدرها المجتمع المدني أو لا، في الوقت الذي نجد أنّ من ينظم الثورة ليست الأحزاب السياسية أو المؤسسات. انها ظاهرة جديدة، نستطيع حتى أن نضع لها تسمياتٍ جديدة مثل «مناضلي الشبكة العنكبوتية» أو «ثورة الشبكة العنكبوتية»، لأن كل شيء يبدو ناتجاً عن الشبكات الاجتماعية والمبادرات الفردية. الحركة غير منظمة بشكلٍ كبير، ولكنها استطاعت، كما في مصر، أن تذهل بطابعها المسؤول والسلمي. في ذلك واقع مولّد من الدرجة الأولى. إنّ ظهور نوعٍ من الفرديّة التي تميل اليوم الى أن تكون غالبية، لا سيما لدى الشباب الحامل للشهادات أمثال الذين ألهموا الحركة الثورية في تونس وفي مصر، تظهر أنّ الشباب لم يعودوا قادرين على تحمل ما كان يرضى به آباؤهم: واقعٌ معيّن يجعل الأنظمة المستبدة، بوصاية الجيش، تستمرّ الى ما لانهاية بموافقة ضمنية من المجتمع. لأنّ الأنظمة المستبدة لا تستطيع الاستمرار ان لم تكن تملك شبكاتٍ فعّالة من المستفيدين. الأمر الجديد هو التغيّر في فهم الأجيال الجديدة لما يجب أن يكون عليه المجال العام. لم تكن الدولة تعتبر ضامنة في المجال العام في العالم العربي ذي الرواسب العثمانية. كان عليها بشكلٍ أساسي أن تحمي الممتلكات وتسهر على النظام العام. ما نسمّيه نحن الغرب مثلاً بالفساد، كان ينظر له على العكس كنوعٍ من إعادة التوزيع: فكان لا بدّ أن يكون هناك، ما بين الدولة والمجتمع، نوعٌ من التنظيمات الوسيطة ـ علماء دين، نقابات، اتحادات، مؤسسات خيرية دينية مسلمة أو مسيحية، جمعيات ـ تساعد في اتمام الأمور. هنا يكمن الفرق: نشهد اليوم مطالبة بمجالٍ عام من قبل هذه الأجيال الشابة وفقاً للنموذج الموجود في الدول الأوروبية، مع مطالبات ضدّ الفساد ومحاسبة للدولة تظهر أنّها تنتظر منها ما لم تكن الأجيال الماضية تنتظره.
هل سيكون الأمر معدياً؟ بالتأكيد، فبرغم اختلافها، تعيش الدول العربية نموذجاً سياسياً واجتماعياً متشابهاً. حاجز الخوف قد سقط اليوم، ولا عودة ممكنة للوراء. الناس يعبّرون هناك عبر كلماتٍ فضفاضة وغير واضحة جداً تتيح لنا رؤية أن خلف المطالبة بالحريّة، هناك تصوّراتٌ مختلفة ومتمايزة جداً. لأنّ زمن الإجماع التام الذي عرفناه في دولٍ مثل العراق وسوريا والجزائر ومصر قد ولّى. اليوم، أصبحت المجتمعات العربية متعدّدة. بأيّ شكلٍ قد تعبّر هذه التعدّدية عن وجودها؟ نحن لا نعرف حتى الآن. الرهان على الجيش سيكون الخيار الأسوأ للتطور الديموقراطي لهذه الثورات. ففي مصر مثلاً، الجيش هو العمود الفقري للدولة، مع مصالح هائلة، ويصعب تخيّل أن يتنازل بشكلٍ تلقائي عن امتيازاته.
كيبل. الوضع التونسي يختلف عن الوضع المصري، لا سيّما من الناحية الديموغرافية. ففي تونس، ولدت الحركة الاجتماعية الثورية من فقراء المدن الفقيرة وانتقلت الى البورجوازية التونسية. هذا الحلف استطاع أن يجلب الى صفّه قيادات الجيش، الذي لم يكن، كما في مصر، العمود الفقري للنظام. اليوم، لا يلعب الجيش دوراً مهماً في اللعبة السياسية. الرهان الفعلي يتوقف على معرفة مدى قدرة عالم المموّلين التونسيّين على إيجاد فرص عمل لهذا الشباب الفقير الثائر والمساهمة في ازدهاره. هذا ما يعتمد عليه المستقبل. يأتينا الجواب جزئياً عبر الهجرة الكثيفة لآلاف الشباب التونسيين، الذين لا يحركّهم الفقر، بل حملوا مدخّراتهم وانتقلوا ليستقروا في أوروبا. إنّه نوعٌ من الانخراط في العولمة.
الوضع مختلف في مصر إذ أنّ الجيش هناك هو الجسم الذي ينظّم كامل أركان السلطة. إحدى مشاكل مبارك كانت رغبته في المضي ضدّ منطق تناقل السلطات لدى الجيش الذي يسمى بالنظام المملوك. قام مبارك بتحوّلٍ فرعوني عندما أراد أن يورّث ابنه مكانه على حساب القيادات العسكرية. حتى الآن، هناك نظام غير واضح في مصر، مع جيش يتولّى إنجاز الأعمال الحالية، ولكنه مضطر الى الأخذ بعين الاعتبار التغيّر العميق الذي طغى على العقليات في مصر، وبالتالي لا يقدر على الاكتفاء بالحلول السياسية العسكرية التي كانت تعتمد سابقاً. التفاوت الاجتماعي متوحّش جداً، والوساطة العائلية متمركزة لدرجة توجب تغيّراتٍ جذرية في عادات السلطة.
لويزار. إنّها إحدى صعوبات العمليّة الديموقراطية في مصر، لا سيما إذا ما قارناها بما حصل في تركيا بشأن حزب العدالة والتنمية الذي استطاع توحيد مجموعة من القوى الاجتماعيّة التي لم تكن قابلة، في البدء، للتعاون في ما بينها. في تركيا، شهدنا ولادة طبقةٍ من الممولين الريفيّين المسلمين الصغار، الذي أمّنوا فرص عمل، وأعطوا صورةً أكثر شفافية ونزاهة من صورة الممولين الأتراك السابقين. بينما لم يولّد النظام المصري سوى الفساد والتفاوتات الاجتماعية الصارخة. لا نجد على ضفاف النيل طبقة مشابهة للممولين الأتراك. لذا نرى جيداً أنّه، بعيداً عن الإجماع حول مفاهيم اسقاط مبارك وإحلال الديموقراطية والحرية والتعددية، ستنشأ قوى سياسية ليست بالضرورة ميالة للعمل مجتمعة.
{ منذ ما يقارب 15 عاماً، شهدنا في العالم العربي عملية إعادة أسلمة كثيفة للمجتمعات، وظهور أكبر للإسلام. أليس من المستغرب أن لا تكون إعادة الأسلمة تلك قد أنتجت تطرفاً سياسياً؟
كيبل. إعادة الأسلمة تعبّر عن نفسها بطرقٍ مختلفة. قد تبدأ بمجرد التعبير عن الإيمان الى البحث عن مرتكزات في أنظمة استبدادية تلغي شعور الانتماء الوطني. ركّز غالبيّة مراقبي الحراك الإسلامي منذ عشر سنوات على الجهاد المتمثّل ببن لادن، والقاعدة وشركائها الذين اعتمدوا على العوائد المذهلة للعمليات الانتحارية ونشرها إعلامياً. كانت هذه العمليات تهدف الى تعبئة المجتمعات عبر إظهار هشاشة الأنظمة الديموقراطية، ولكنها لم تستطع أن تجتذب المجتمعات بشكلٍ اكثر عمقاً. نحن نشهد اليوم مع الثورات الديموقراطية العربية الفشل الفكري والثقافي لهذه الظاهرة. عندما تحدثت بعد الحادي عشر من أيلول 2001 في كتابي «جهاد» عن أنّ الحركة الإسلامية كانت في تراجع، فذلك لأنّها كانت تبدو لي شديدة الانقسام ما بين الجهاديين من جهة، الذين حظوا بعقدٍ من المجد، وما بين حركةٍ أكثر اتساعاً، متمثلة بالإخوان المسلمين المستعدّين للمشاركة، والتي كان لا مفرّ لها من اعتماد لهجة وممارسات الديموقراطة. إنّ العمليّة التركيّة التي ولّدت اليوم حزب العدالة والتنمية الذي تتوجّه اليه أنظار العالم العربي كانت أبرزها. وذلك لأسباب معقدة، إذ أنّ تركيا عبر الإمبراطرية العثمانية لطالما ظهرت، حتى قبل الاستعمار، كطرفٍ جائر تسبب بتراجع العالم العربي. أمّا اليوم، فالعرب يتوجّهون بأنظارهم اليها لأنّها استطاعت أن تبني طبقة دينامكية من المموّلين ساهمت في ازدهارها. نحن نشهد ذلك عبر الفرق الشاسع ما بين الثروة الوطنية التركية والمصرية التي تملك ثقلاً ديموغرافياً متشابهاً. فتركيا لا تملك لا دخلاً، ولا نفطاً ولا قناة سويس، بما يعني أنّ مموّليها عرفوا كيف يعملون.
{ ولكن يبقى الإخوان المسلمون في مصر المنظمة السياسية الأبرز. ان هيمنتهم قد دفعت عدداً من المراقبين الى التوصية بانتخاباتٍ تعتمد النظام النسبي، لأنّه وفقاً للحالة الراهنة للقوى السياسية، ستؤدّي الانتخابات التي تعتمد نظام الأكثرية الى كسب الإخوان المسلمين الغالبية الساحقة.
لويزار. هل هيمنة الإخوان المسلمين واضحة الى هذا الحد؟ كلا، لا احد يستطيع أن يجزم بعد. سنوات الفولاذ التي حكمت فيها الأنظمة المتعاقبة من ناصر الى مبارك جمّدت عملية توزيع القوى السياسية في مصر، ويحتاج أيّ مجتمعٍ سياسي الى الوقت حتى يعيد التنظم بعد جمودٍ مماثل. يعبّر الإخوان المسلمون عن عدم رغبتهم بالحصول على السلطة، ولكن حتى لو رغبوا بذلك فهم لا يملكون القدرة، لأنّهم متأثّرين أيضاً بهذه التعددية المصرية بين مختلف الأجيال والانتماءات. هم شديدو الانقسام، وإن كان وجودهم في الصراع السياسي المصري اليوم رئيسياً فذلك يعود الى كون الطابع الديموقراطي للعملية المنتظرة في مصر تعتمد بشكل أساسي على مشاركتهم فيها أو عدمها. إنّ إعادة أسلمة المجتمعات تبدو لي أبعد بكثير من عمل الإخوان المسلمين أو من نسميهم الإسلاميين. فالفصل بين الدين والدولة في بلاد الإسلام لا ينطبق على مفهومنا للأمر. أزور مصر باستمرار منذ زمن طويل، وسنةً بعد سنة، ألحظ عملية إعادة أسلمة تأخذ أشكالاً مختلفة. مثالاً على ذلك، عندما تستقل المترو في القاهرة اليوم، يدهشك عدد الهواتف النقالة التي تعتمد الآيات القرآنية كرنة. إضافةً الى أنّك تستطيع التمييز بين الفتيات المسلمات والمسيحيات من خلال ثيابهنّ. غالبيّة الفتيات المسلمات يرتدين الحجاب، وتلك اللّواتي لا يرتدينه يضعن صليباً واضحاً حتى يظهرن للآخرين أنّهن قبطيات وكي لا يعتبرهن الآخرون فتياتٍ سهلات المنال. هناك إذا حاجة كبيرة للإسلام تخرج من رحم المجتمع المصري، يترجم من خلالها رفضه للأنظمة المستبدة. في مصر حيث ارتداء الحجاب هو قرار اختياري لا تفرضه السلطة كما في إيران، هناك كثيرات ممن يرتدينه بملء إرادتهن في روحية مقاومة للنظام وأخريات يرتدينه استجابة لضغط المجتمع. تعيش أجيال اليوم في عالم يختلف اختلافاً مطلقاً عن ذاك الذي عاش فيه آباؤها. ومع ذلك لا يزال المجتمع المصري يعدّ مجتمعاً محافظاً مقارنة بالمجتمع الجزائري. لا ننسى أن الأنظمة المستبدة تنطلق من قاعدة اجتماعية معينة تلائم طريقة عمل المجتمع، إلا ان الكل منخرط في مزايدات حول مسألة من يكون المسلم «الأفضل». وكان جلياً الصراع القائم في مصر بين السلطة والإخوان المسلمين والجهات الفاعلة المنبثقة من مجتمع مدني يشار إليه، بدوره، بـتعريف «مجتمع مدني ديني». ما نحاول فهمه نحن الغربيين هو التالي: هل يمكن لمجتمع مدني أن يكون دينيا؟ هذه القضية لا ينبغي تجاهلها وهي حاضرة كذلك في تركيا.
ترجمة: هيفاء زعيتر
جيل كيبل: أستاذ العلوم الاجتماعية والسياسية في معهد الدراسات السياسية، باريس.
بيار جان لويزار: باحث في المركز الوطني الفرنسي للأبحاث العلمية ومؤرخ متخصص في الإسلام.