أبنـــاء زمانهـــم
عباس بيضون
في تونس وفي مصر كان المطلوب رأس النظام، وبكلمة أخرى تغيير النظام والإطاحة به. بيد ان ثوار تونس وبعدهم ثوار مصر وثوار ليبيا لم يعرِّفوا النظام ولم يحددوا المقصود من هذا المصطلح. يظن البعض ان المقصود أقل من المصطلح وانه يطلق جزافاً عليه. يظنون ان تغييراً في العلاقات الطبقية وعلاقات السلطة لا بد من ان يلازم تغيير النظام. يرون ان ما يحصل في مصر وتونس ليس أكثر من تصحيح وليس ثورة ولا تغييراً. يتذكرون ان مصر على الأقل عرفت قبل الانقلاب ديموقراطية ويبدو ان التغيير المطلوب فيها عودة الى الماضي، كذلك توحي رمزية استعادة العلم القديم في ليبيا بهذه العودة. الملاحظ أيضا ان الأنظمة التي دامت على ماضيها مثل الامارات والممالك لا تعاني الى الآن حراكاً مماثلاً. البحرين استثناء، لكنه استثناء مفهوم ونحن لا نستطيع ان نضع الحراك البحريني في نفس الخانة التي نضع فيها مصر وتونس وليبيا، فهذه الأنظمة هي، بمصطلحها، ثورية. أي إنها انظمة انقلبت على الديموقراطيات الموروثة غالباً من الاستعمار. انظمة ما بعد كولونيالية بلغة احدث. الثورات الآن تعصف بالأنظمة «الثورية» التي نشأت من انقلاب عسكري. هذه الأنظمة احدث، من حيث المفهوم، من الأنظمة الموروثة عن الاستعمار. انها انظمة قامت على الانقلاب العسكري الذي قام بدوره على حجج قومية وطبقية. لقد شكل ثورة على الأنظمة ذات الصبغة الكولونيالية. والأنظمة الحليفة للغرب الذي تواطأ مع الصهيونية على إنشاء إسرائيل، الأنظمة شبه الإقطاعية التي يدعمها الإقطاع والاقتصاد الكومبرادوري.
كان من شأن هذه الأنظمة، انها جميعها تسمت بالاشتراكية، التي لم تكن سوى اسم آخر لرأسمالية الدولة التي جعلت الإنتاج في قبضة الدولة. ذلك يعني ان العلاقات السياسية تخدم إثراء الدولة والطبقة التي تتكون في إطار هذا النظام، والتي تطمح في مرحلة من التطور الى الخروج من جلد ملكية الدولة الى الملكية الفردية، ومرة ثانية تخدم العلاقات السياسية هذا الغرض. فالخصخصة ستكون سبيل هذه الطبقة الى التملك الفردي لوسائل الإنتاج، العلاقات السياسية في خدمة هذا الغرض مما يعني ان القمع والقرابة العائلية والنفوذ ستكون دعائم تكوين الطبقة الجديدة التي تستمر في استثمار العلاقات السياسية. أي ان طابعاً شبيها بالمافيا: العلاقات العائلية والبلطجة والقمع السياسي، يسم سيطرة الطبقة الجديدة. هذا النظام الناتج عن تطلبات قومية واجتماعية والذي يرعى ولاده طبقة جديدة في حضن رأسمالية الدولة ويتأزم عند انتقال هذه الرأسمالية، بنفس الطريقة، الى التملك الفردي. هذا النظام ذو خصوصية عربية والثورة عليه ثورة على دعائمه البنيوية. القمع، الطابع المافياوي القائم في التسلط والقرابة العائلية، الانتقال بالوسائل ذاتها الى التملك الفردي. قيام الثورات في مصر وتونس وليبيا، أي في مواطن هذا النظام، تعني ان هذا النظام وصل الى ذروة التأزم، ورغم ادّعائه الثوري فإن الثورة الحقيقية هي الثورة عليه، الثورة ضده، لذلك لا تعدم هذه حنينا خفيا الى ما قبله. هناك رجعة الثوار الليبيين الى علم ليبيا ما قبل القذافي. هناك رئيس الوزراء التونسي الجديد الذي استحضر من عهد بورقيبة. أما مصر فكانت عادت في عصر الصراع الى نشيدها وعلمها القديمين وبالطبع فإن الثورة هي ضد النظام الأمني القائم منذ 60 عاماً على وجه التقريب. لكن هذا الحنين الماضوي ليس الا ردة فعل «أدبية»، فالواضح ان شباب هذه الثورات هو ابن لحظته: الفايس بوك والتويتر واليوتيوب تنفع هنا في تأكيد آنية هذه الثورات، غير ان ما يؤكد ذلك اكثر هو خطابها العملي الذي يراعي الأولويات والظرف والإمكان. شباب مصر لم يضع كامب دايفيد على جدول اولوياته، وشباب ليبيا لم يقترب من البترول، وشباب تونس حاذر التطرق الى الغرب. إذا اتسمت برامج هذه الثورات بشيء فهو تجردها من أي مثالية ونزوعها لعدم استفزاز الداخل والخارج، وحسابها الصحيح للأصدقاء وللأعداء. تكاد هذه الثورات كلها تطرح مطلبا جامعاً هو الديموقراطية، هذا المطلب هو عمود برنامج تفصيلي بمواقيت محددة. يمكننا هنا ان نفهم هذه الثورات ببساطتها وتصميمها ووعيها الظرفي والعملي. هذه سمات تولدت من الصبر والمعاناة الطويلين. الخليط الذي شكل الثورة استطاع ان يتفق على خطاب وبرنامج مشتركين. لم تكن الديموقراطية حتى هذه اللحظة تملك قوى. خرجت القوى من تحت الأرض، خرجت في لحظة اندماج عجيب بين النخبة والجمهور. خرج الجمهور من صبر ستين سنة تقريباً في مصر وهو يعدّ اللحظات. لقد دخل الناس زمنهم بسرعة والقليل من الحنين الى الماضي هو حنين للحظة التي خالوا انهم انقطعوا فيها عن زمنهم. هو استلحاق للزمن او استرجاع له من حيث انقطع. نجد رجلاً يكتب على لافتة «إرحل ايدي وجعتني» «إرحل وحشتني مراتي» ليست هذه النكات إلا نتيجة للتصميم على البقاء في الساحة الى حين رحيل مبارك. لقد دخل الناس في الزمن وهم يشعرون انهم امتلكوه، فقد قرروا ان يبقوا في الساحة حتى رحيل الرئيس. ثم بعد رحيل مبارك قرروا ان يستمروا في التظاهر حتى رضوخ المجلس العسكري لمطالبهم وأولها تغيير الوزارة التي ألفها وتألفت من الحزب الوطني. ظلوا في الشارع حتى فرضوا رحيل أحمد شفيق ومحاكمة مبارك وأركان حكمه. لقد امتلكوا بسرعة زمنهم، صاروا بسرعة ابناء لحظتهم. دخلوا بسرعة في الحاضر. صاروا في وسط المعمعة. وسط التاريخ. ظلوا متأهبين مستنفرين في انتظار ان تسقط الثمرة. عدّوا اللحظات حتى يحدث ذلك.
الذين يخشون او يهددون بأن تكون هذه الحركة سلفية او دينية، ان تكون ارتكاساً في الزمن والتاريخ، وعذرهم او خشيتهم هما ان الحركات الاصولية هي الوحيدة ذات الثقل والوزن في مصر وفي تونس وحتى في ليبيا، فاتهم ان يلاحظوا ان الزمن المستعاد ليس ميتولوجيا. فاتهم ان يلاحظوا ان العصر الذهبي للإسلام او العرب ليس مجال البحث. الديموقراطية تضعنا فوراً في زمننا. الديموقراطية، أي الالتحاق بالعصر، كانت وحدها المطلب، لقد قدر المتظاهرون ان علينا ان نكون اولا في لحظتنا. قدر المتظاهرون ان علينا ان ندخل الى العصر من بوابته. كان الاستبداد، ولو رفع شعارات من نوع الوحدة القومية والإسلام السياسي، ارتكاساً. وفجأة صرنا الديكتاتوريات الوحيدة في العالم. فجأة صرنا وحدنا خارج الزمن، المتظاهرون أدركوا ان عليهم أولاً ان يكسروا الباب. انهم معتقلون خارج يومهم، انهم في نوع من سجن لا زمني. ان عليهم ان يجدوا اولا زمنهم، وبعد ذلك يمكنهم ان يكافحوا من داخله. كان هناك فقر وبطالة وتبعية لكنهم لم يطرحوها. لقد ادركوا ان عليهم ان يجدوا إرادتهم اولا، ان يخرجوا الى زمانهم، ان يغيروا علاقات الحكم. لقد طلبوا فوراً رأس النظام، رأس السلطة، أرادوا ان يطيحوا بالجهاز السياسي الحاكم، أرادوا ان يحاكموه أولاً. وبعد ذلك يطالبون. عليهم ان يوجدوا كقوة اولا وقبل ان يطالبوا. لقد دخلوا رغم ملايينهم خطوة خطوة. كان النظام يحشد قبل ذلك ملايين لكن خارج الزمن. يحشدها لكن بلا إرادة، هذه المرة كان على الملايين ان تغدو قوة فعلية وان تمتلك زمنها وإرادتها. هذا ما عناه المتظاهرون بتغيير النظام. لقد أدركوا ان المهم هو الإطاحة بالاستبداد وفي ظل الاستبداد نبقى مجرد كّم معتقل وحبيس صحراء لا زمنية. كان امامهم الحزب الواحد والعقيدة الواحدة والنظام الأمني. لن يكسروا ذلك من أجل حزب واحد آخر او عقيدة حكم اخرى ونظام أمني ثان. ما فعلوه كان كسر ذلك الى الأبد. لقد أدركوا قوتهم وإرادتهم ولن يتخلوا عنهما لأحد. بأي احتراس وبأي وعي فاوض المتظاهرون المصريون والتونسيون من الشارع مجالسهما العسكرية، لقد كانوا بوعي تام يدجنون آخر قلعة للنظام. صحيح ان هذه الأنظمة بدأت عسكرية لكن الجيش تحول الى مؤسسة مالية واقتصادية واستقل داخل النظام. لم يعد انقلابيا وربما يلاحظ بدون سرور فك التأميمات ومنحها بالرخص او المجانية الى كلاب النظام واستعداد هؤلاء للانفراد بالبلد واستثماره بقوة الأمن والسلطة. قد لا يلاحظ بسرور تحول الحكم الى ملكيات جمهورية وتوارثها إبناً عن إبن، لكنه ابن النظام. الجماهير في الشارع تروض الجيش والجيش يرضخ لإرادة الملايين، فالجماهير في الشارع وهي مالكة لأمرها لا تقاوم. الملايين تضغط من اجل الحرية ومن أجل تكريس هذه الحرية ومن اجل تحويل السلطة الى ضمانة للحرية فلن تقبل بدولة إسلامية. إنها موجودة في زمنها وعصرها وليس هذا طريق العصر وليست هذه سمة الزمن.
كان المشروع من أيام محمد علي هو اللحاق بالعصر والأرجح ان الاستبداد كان من جملة عوامل حالت بين الأقطار وبينه. الأرجح ان مشروع التحديث بسلطة أمنية وطغمة حاكمة متخلفة لم يكن ممكناً، والنتيجة بالطبع هي القاعدة وهي 11 أيلول، التصويب على العصر في مشروع انتحاري. الثورات الديموقراطية هي العودة الى التحديث، الى المعاصرة ولن يكون هذا في صالح أي سلفية. في الواقع لن تكون الديموقراطيات الجديدة سوى بداية النهاية للسلفيات. إسرائيل فهمت هذا فوراً، لن تبقى الديموقراطية الوحيدة في المنطقة وأهم من ذلك لن تبقى سداً ضد التدفق السلفي، ستكون هي الأكثر تخبطاً في مأزق الدولة الدينية وعودة السلفيات، وسيكون النموذج العربي، هذه المرة، أقل تخبطاً.
السفير