سقوط سيف القذافي ومآلات ‘الإصلاح’ العربي المخادع
د. عبدالوهاب الأفندي
كان المشهد أشبه بفيلم رعب يسقط فيه قناع الوحش أو الكائن الخرافي فجأة، فيتضح أن ما كان المشاهد يعتقده حملاً وديعاً أو طفلاً بريئاً، هو في حقيقة الأمر كائن شرير قبيح المظهر والمخبر يتربص بفريسته، ويكشر عن أنيابه. هذا كان حال سيف القذافي غداة أن ألقى وأبوه خطابين كانا نسخة متطابقة. كلاهما هدد وتوعد، وكلاهما وعد بإصلاح. ولكن كلمة السر ونقطة الفضيحة جاءت عندما فرغ أبوه من خطابه الذي وصف فيه الليبيين المنتفضين لكرامتهم بالجرذان والجراثيم، وأمر وأنذر بكنس ليبيا منهم بيتاً بيتاً، وشبراً شبراً، وزنقة فزنقة، ثم التفت كمن تذكر شيئاً ليقول: أما ما يتعلق بقضايا المجتمع القانوني والإصلاح القانوني، فهذا سيحدثكم عنه سيف الإسلام.
فجأة سقط الدرهم كما يقول المثل الإنكليزي، وبرح الخفاء. فقد كان سيف القذافي يختال زماناً في العواصم الغربية، كما كان صديقه جمال مبارك يفعل، ليحدث كل من شاء الاستماع الى مشاريعه الإصلاحية، وكيف أنه ودع ماضي والده الدموي، وفتح الحوار مع المعارضة، بل وأنشأ مؤسسة للخير ولحقوق الإنسان باسم والده الذي كان يسمي الناس من معارضيه الكلاب الضالة، قبل أن ينعم عليهم بترقية إلى مقام الجرذان والجراثيم. كثيرون صدقوا سيف القذافي، خاصة عندما أرفق كلماته ببعض الفعل، فتوسط لإطلاق سراح بعض المعتقلين، وسمح لمعارضين بالعودة إلى بلادهم. فقد كان الكثيرون، داخل وخارج ليبيا، مستعدين للتعلق بأي قشة وهم بأن النظام قد قرر الإصلاح. أما بالنسبة للغربيين، فقد كان ما حسن صورة الرجل عندهم قرار القذافي دفع الجزية كفارة عن جريمة لوكربي، وتسليم أسلحته النووية الافتراضية لسادة الأبيض مشفوعة بالتوبة من كل ما من شأنه أن يخرج بلاده من بيت الطاعة، خاصة دعم الإرهاب. فقد لعب الابن دور الوسيط في كل ذلك، وكانت مؤسسته الحقوقية الخيرية تتولى دفع الإتاوات.
ولم يقف مصلحنا الهمام هنا، بل زحف كذلك على قلب مؤسسات الصفوة في الغرب، حيث التحق بمدرسة العلوم الاقتصادية الشهيرة، وحصل على درجة الدكتوراه منها عام 2009، مقدماً أطروحة بعنوان: ‘دور المجتمع المدني في دمقرطة المؤسسات الدولية’. وقد أغدق سعادته العطايا على الجامعة فنفحها مبلغ مليون ونصف مليون جنيه استرليني لدعم نشاطها البحثي، فكان أن كوفىء بدعوته لإلقاء محاضرة ‘رالف ميليباند’ السنوية، وهي سلسلة المحاضرات المسماة تكريماً لوالد وزير الخارجية السابق دايفيد ميليباند، وشقيق إد، زعيم حزب العمال حالياً، وتقديمها يعتبر من أرفع آيات التكريم من قبل المؤسسة.
ولكن في تلك الليلة التي ألقى فيها الوالد خطابه، وانكشف لكل من كان يتعامى أن تلك العصا من هذه العصية، انهار كل بنيان سيف على رأسه فجأة. ولم يقتصر الأمر عليه، فقد اضطر مدير مدرسة لندن للعلوم الاقتصادية إلى الاستقالة على خلفية هذه ‘الفضيحة’، وما تزال التداعيات تترى. فقد عبر دايفيد ميليباند عن امتعاضه للسماح لسيف القذافي بتقديم محاضرة اقترنت باسم والده وطالب بالتحقيق في ذلك. من جهة أخرى طالب نائب برلماني بريطاني محافظ باستقالة مجلس أمناء المدرسة بكامله على خلفية مزاعم نشرتها صحيفة الاندبندانت يوم الأحد الماضي نقلاً عن أكاديميين ليبيين مفادها أن سيف القذافي قد جمع نخبة من الأكاديميين الليبيين وكلفهم مساعدته في كتابة أطروحته، وأن من أبلى أحسن البلاء في هذا الشأن تمت مكافأته بتعيينه سفيراً في عاصمة أوروبية. ولايعرف من ستلحقه لعنة سيف القذافي في قادم الأيام، فالرجل كان طويل اليد واللسان، وخزائن ليبيا عامرة بأرصدة شراء الذمم.
المشكلة هي أن ابن أبيه المدلل لم يدرك بعد أن حملة السحر والإغواء التي انخرط فيها في غابر أيامه قد بلغت منتهاها، وأن ما تكشف من إجرامه أصبح بمنزلة عصا موسى، تلقف كل سابق إفكه وقادمه. فقد بلغ الغرور بصاحبنا أنه استقدم جيشاً من ممثلي أجهزة الإعلام الغربية إلى طرابلس، ووعدهم بإطلاق أيديهم وألسنتهم في طرابلس العاصمة، حتى يدحضوا كل شائعة وافتراء عن أن ليبيا انتفضت ضد حكم والده الذي ما يفتأ يذكر الناس بأنه لا يحكم، ثم يردف القول بأن ليبيا من دونه لا تستحق الوجود، ثم يعود فيوجه وهو لا يحكم- التعليمات لأنصاره بما يجب عليهم أن يفعلوه، بما في ذلك وجوب وضع شارات خضراء حول ذراع كل منهم حتى يعرفوا وهم يرتكبون مجازرهم فلا يؤذوا. وأقبل الرجل بهمة يطير كالنحلة من قناة تلفزة غربية إلى أخرى، وخص منها بالعطف مراسلة قناة سكاي نيوز التي يملكها روبرت ميردوخ (هل بين الرجلين يا ترى تجارة وبيع بالمعروف؟). وفي كل مرة كان يضع ساقا على ساق، ويتحدث بنفس اللهجة التي كان يظن أنها تخلب الألباب، ناسياً أن القناع سقط، وأن الستر انكشف، وأن ما كان في الماضي يشبه تراجيديا من الكذب والمخادعة، أصبح اليوم كوميديا تثير الشفقة والضحك.
وقد كشف سيف القذافي في حملاته الإعلامية الدون كيشوتية عن سذاجة وغفلة تدعوان للشفقة، وعن خبث ولؤم يثير نقمة كل عاقل. فهو يتخيل وهو يتحذلق بالألفاظ، ويخاطب المذيع باسمه أو اسمها الأول كما يفعل ضيوف البرامج التلفزيونية الأمريكية، أنه قد ملك ناصية البيان والإقناع معاً، حتى وهو يقدم أطروحات مضحكة ومتناقضة، تصبح مدعاة للسخرية اكثر عندما يكون والده قد سبق بها. فالمتظاهرون كانوا في اليوم الأول كلهم شبابا مغررا بهم تحت تأثير حبوب الهلوسة، بينما البلاد سقطت في أيدي جماعات إسلامية متطرفة وتحولت إلى إمارات إسلامية متفرقة تتبع نموذج الطالبان. وبعد أيام نسمع أن القاعدة هي التي حرضت الشباب واستدرجتهم بحبوب الهلوسة (ربما كان هذا حسب نصيحة مستشار نبه إلى تناقض مقولاته حول حبوب الهلوسة والقاعدة). ثم بعد يومين نسمع أنه لم تكن هناك مظاهرات أصلاً، وإنما هي عصابات القاعدة والتطرف الإسلامي سطت على معسكرات الجيش المسالم الغافل وجردته من سلاحه. كل هذا والرجل يردد: اذهبوا وتحققوا بأنفسكم.
ولا ندري هل بلغ خداع الذات بالرجل وأبيه وإخوته حداً جعله ينسى أن رجال الإعلام لم يكونوا ينتظرون نصيحته ولا إذنه، حيث سارعوا إلى نصب خيامهم في بنغازي والبيضاء وغيرها، وأخذوا يبثون صوراً تفضح كل كذبة تفوه بها، فأصبح حاله كحال المسكين الصحاف حين كان يتحدث في بغداد عن دحر الغزو الأمريكي، بينما الدبابات الأمريكية تتبختر وراءه بادية للعيان، سواه، في خلفية الصورة. ثم عندما طلب من الإعلام الذهاب للزاوية للتحقق من صحة خضوعها لسلطة العقيد (الذي لا يملك سلطة، لا بد أن نذكر بها) وجدوها في قبضة الثوار. وعندما تسللوا رغماً عن رجاله إلى مساجد طرابلس فوجدوها عامرة بالمعارضين، سارعت الشرطة إلى فض المظاهرات بالقوة، ثم صادرت كل أشرطة التسجيل من الكاميرات، وكبير السحرة الهمام لا يعلم أن هناك تقنيات حديثة كثيرة للالتفاف على مثل هذه الإجراءات، فوق أن المصادرة هي اعتراف بالهزيمة في معركة الإعلام التي زعم أنه ربانها الماهر.
ويكشف الرجل وأبوه جهلاً مطبقاً بقيم المجتمع الدولي وطريقة مخاطبته، وكذلك بمبادئ القوانين الدولية، حين يستشهد بقمع الصين لطلابها وقصف يلتسين لبرلمانه (الطريف أن القذافي الأب يورد هذه الشهادات المفصلة عن حوادث وقعت خارج ليبيا، وهو يزعم أنه لا يشاهد القنوات الفضائية ويدعي الجهل بما يحدث في الزاوية التي لا تبعد عن ثكنته سوى خمسين كيلومتراً)، ثم يتصنع الاستغراب على موقف العالم المعادي لبطشه بشعبه. فهل للرجل وأبيه من عقل، أم أنه الخبث الماكر الذي يدعي الجهل حين يروق له، وعدم الفهم لما لا يخفى على صغار الأطفال؟
هذا السقوط الأخلاقي والإعلامي والسياسي المدوي لسيف القذافي له دلالاته البالغة، حيث يعلن نهاية حقبة من المخادعة العربية باسم الإصلاح، بدأت في مصر الساداتية، ثم تنقلت إلى بلدان أخرى، منها في الثمانينات تونس والأردن والجزائر، ثم بعض دول الخليج بعد غزو الكويت وقدوم أمريكا إلى المنطقة لإنقاذ المشيخات، وما تعرضت له الإدارات الأمريكية من انتقادات لدعمها لمثل هذه الأنظمة، فاليمن في ظل الوحدة. ثم جاءت سورية بشار الأسد وربيعها الدمشقي القصير، ثم ليبيا سيف القذافي ووعودها الخلب، فالبحرين وهبتها الإصلاحية المجتزأة، ومصر مبارك وأحاديثها عن التحديث، ومغرب محمد السادس وإرهاصاتها، إلى أخر ما هناك من أساطير الآخرين.
في كل هذا كانت غاية مبتغى القوم تحقيق مكاسب في معركة العلاقات العامة في بلاط الرأي العام الغربي. فلم تكن هناك نية في أي وقت لتقديم أي تنازلات حقيقية للشعوب والاستجابة لتطلعاتها في الكرامة والانعتاق من الرق، ناهيك عن المشاركة في السلطة والثروة. بل كان المقصود أن تكون هناك مظاهر للتنازل. فكان الحاكم يعلن مشاريع براقة للإصلاح، وإنشاء المجالس المنتخبة وإتاحة حرية الرأي، ولكن ما ان تدير كاميرات التلفزة ظهرها حتى ينقلب على عقبيه ويعود أشرس على معارضيه مما كان. أما المجالس، إن أنشئت، فهي ديكور لا صوت لها ولا معنى. وفي كل هذا فإن شأنه يشبه في كل أمره شأن المنافقين حسب الوصف القرآني لهؤلاء. فهم إذا لقوا شعوبهم تحدثوا عن كرامة الأوطان وحماية المقدسات، وإذا خلوا إلى شياطينهم من أعداء الأمة قالوا: إنا معكم إنما نحن مستهزئون. وهم إذا لمع برق الضغوط الشعبية وأحاطت بهم الزلازل، مشوا خطوات متباطئة يدورون فيها حول أنفسهم، وإذا أظلم عليهم وخفت الضغط قاموا حيث هم لا يتحركون شبراً.
ولكن ما شهدناه في الأيام الماضية هو بلوغ هذه المسيرة المخادعة إلى نهايتها، حيث أوصلت أصحابها إلى شفا جرف هار فانهار بهم إلى حضيض السقوط. ومثلهم في ذلك مثل البنوك الأمريكية التي ظلت تبيع الناس سلعة فاسدة تحت مسمى قروض التسليف العقاري المتدني القيمة، ثم تصدق خدعتها فتدخل المضاربة في هذه السلعة البائرة، وتدفع بالأموال الصالحة خلف تلك الهالكة، حتى جدت ساعة الجد فانهار البنيان على من فيه. فالأنظمة العربية هي في مثل هذا الحال والمقام، دقت ساعة جدها، وجاء أصحاب القروض يطلبون ودائعهم، دون أن تكون هناك مهلة لمراوغة أو مخادعة، أو قبول لشيكات آجلة. مشكلة البعض، مثل سيف وإخوانه في صنعاء ودمشق والمنامة والرياض والخرطوم وبقية العواضم المتلكئة، لم يدركوا بعد أنهم قد بلغوا مرحلة الإفلاس الكامل، وأن شرطة التقاضي بصدد أن تقرع أبوابهم وتتقاضى منهم الحقوق.
‘ كاتب وباحث سوداني مقيم في لندن
القدس العربي