ثورة الشعب الليبي على نظام القذافي: هل يفرغ القذافي طرابلس قبل رحيله؟
جورج سمعان
عندما كان العقيد معمر القذافي يعنف التونسيين على ثورتهم على زين العابدين بن علي كان يشعر بأن الإعصار الذي سرعان ما انتقل من الجبهة الغربية للجماهيرية إلى الجبهة الشرقية، لن يوفر ليبيا ونظامها الذي كان يجب أن يرحل من سنوات. منذ خضوعه لعقوبات دولية إثر تفجير طائرة “بان أميركان” فوق لوكربي قبل عقدين. لكنه بخلاف ذلك عاد العقيد إلى المجتمع الدولي عودة مظفرة. لم يتأخر في تكليف نجله سيف الإسلام حل مشكلة لوكربي وطائرة النيجر. جاء فك الحصار عن الجماهيرية بمثابة هدية وتجديد لشباب النظام. وواصل تقربه من الغرب إثر الحرب على العراق عام 2003، عندما أعلن استعداده التخلي عن تطوير أسلحة دمار شامل. وتوج هذه العودة بتطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة في 2008. وفتح خزائن أسراره عن كل حركات “التحرر” التي كان يدعمها بالمال والسلاح، من أوروبا إلى أميركا اللاتينية وآسيا. وقدم القذافي نفسه بعد هذه الانعطافة، شريكاً يعتمد عليه في محاربة الهجرة غير الشرعية من أفريقيا إلى أوروبا. وعوناً في محاربة الحركات الأصولية. وعلى رغم أنه يستميت هذه الأيام في التحذير من قيام “إمارات للقاعدة” في الجماهيرية، فإنه كان من أكبر المشجعين لإرسال مقاتلين إسلاميين إلى العراق لمقاتلة الأميركيين.
المجتمع الدولي الذي يحاول اليوم المساعدة على التخلص من القذافي ونظامه، لم يبادر بوضع شروط على إعادة تطبيع العلاقات مع ليبيا. كان يمكن أن تلزمه الولايات المتحدة ودول أوروبية أخرى إجراء جملة من الإصلاحات تراعي حقوق الإنسان، وأن تدفعه إلى مشاريع تطوير لبنى تحتية تجعل البلاد تماشي العصر ومتطلباته. فالمعروف أن ليبيا تمتلك ثروة هائلة من النفط، وهي سابع أكبر احتياطي في العالم. لم يهتم الغرب بالإنسان الليبي. اهتم بتبديل طرابلس سياستها الخارجية في اتجاه الانخراط في المساعدة على الحرب ضد الإرهاب. وفتح أبوابها أمام استثمارات في مشاريع نفطية وإنشاءات.
سياسة زائفة
“المرحلة الانتقالية في ليبيا إذاً قد تطول وستكون صعبة وأكثر دموية ومختلفة تماماً عما هي الحال في تونس ومصر”
عندما كان القذافي يعنف التونسيين على تخليهم عن بن علي، كان يهجس ربما بما ينتظره. فهو أيضاً جالس على كرسيه منذ أربعة عقود، بعيداً كل البعد عما يجري في المجتمع الليبي، فضلاً عما يجري في الخارج من تغيرات وتبدلات. بل إن بلداً مثل ليبيا لم يعد ممكناً عزله عما يجري في العالم، وإن أقفل زعيمه أبوابه في وجه العالم الخارجي، ولم يرَ في مواطنيه سوى “جرذان” أو “كلاب ضالة” إلى آخر هذه الأوصاف التي تدل إلى مدى الاحتقار الذي يعامل به شعبه. القذافي يتصرف إلى هذه اللحظة أنه لا يملك البلاد وثرواتها فحسب، بل يملك ناسها أيضاً. إذا عصاه هذا الشعب فلا بأس بأن يأتي بمرتزقة من دول مجاورة في أفريقيا ليؤدب شعبه.
لقد حاول سيف الإسلام القذافي، بعد نجاحه في تطبيع العلاقات مع أميركا وأوروبا، إدخال بعض الإصلاحات على النظام بما يضمن وراثته السلطة واستمرار النظام. لكنه لم يفلح على رغم كثرة المحاولات في مواجهة التيار المتشدد حول والده. لذلك غادر طرابلس أكثر من مرة محتجاً ومعترضاً. لكنه كان يعود مرة أخرى ليحاول المسعى نفسه بلا جدوى. سأل مرة كيف يختلف مع والده ويغادر البلاد ثم يعود؟ ألا يستطيع العقيد مساعدته على الإصلاح إذا كان مقتنعاً بوجوبه مثلاً؟ كان يجيب أن العلاقات بين أعضاء أسرة القذافي معقدة. إنهم أشبه بحلقة ماسونية يستعصي على الخارج أن يدرك ما يدور داخلها… لكن الابن بدا عند أول امتحان أنه من قماشة أبيه. بل سبقه إلى التلويح بحمامات دم وبحرب أهلية لا تبقي ولا تذر. لذلك لم يكن مفاجئاً أن يعرج الإعصار على ليبيا. فالواضح تماماً أن غياب أي أطر أو مؤسسات دستورية تكون حاضناً للتعبير الديموقراطي، ومكاناً لمناقشة مشاريع الإصلاح السياسي، ومنبراً يحتكم إليه المواطن. فضلاً عن وضع اقتصادي مترد وغياب تام لمشاريع تنموية تمتص فئات الشباب العاطلين من العمل… كلاهما عاملان أساسيان في تفجير الغضب الشعبي. فكيف إذا أضيف إليهما هذا الشعور بالمهانة والاحتقار لكرامة الناس من قبل الحاكم الذي يعاملهم على أنهم ليسوا موجودين. فكيف يجرأون على الوقوف بوجهه. ألم يتوجه القذافي إلى جموع الغاضبين متسائلاً “من أنتم”؟!
المخاض عسير وطويل
المرحلة الانتقالية في ليبيا إذاً قد تطول. وستكون صعبة وأكثر دموية ومختلفة تماماً عما هي الحال في تونس ومصر. ففي البلدين مؤسسات عسكرية وأمنية وهياكل دستورية ومجالس، وإن كانت تحت سطوة نظام ديكتاتوري. وكذلك هناك مؤسسات وأحزاب وهيئات ومجتمع مدني. ويمكن هذه كلها أن تفرز طبقة جديدة تأخذ بيدها خطوات التغيير والإشراف عليها. أما في الجماهيرية فلا مؤسسات ولا مجالس ولا دستور ولا مجتمع مدني ولا أحزاب ولا هيئات يمكن أن تمد أبناء الثورة بالخبرات التي تحتاج إليها… هذا النقص يمكن أن تسد بعضه عودة الليبيين المنفيين من ديار الاغتراب. في أي حال إن المرحلة الانتقالية في ليبيا قد تستغرق وقتاً لإزالة مخلفات الهياكل التي أقامها القذافي حول شخصه، ثم التقدم نحو بناء مؤسسات ديموقراطية من عدم.
بالطبع إن الولايات المتحدة ومعها بعض الدول الأوروبية يهمها ألا يعرقل دفن نظام القذافي استمرار تدفق النفط الليبي إلى الأسواق. سكتت هذه الدول طويلاً على جرائم القذافي في الداخل والخارج. بل بدت في الفترة الأخيرة تتسابق لخطب وده على حساب كل الشعارات التي تنادي بها، من الإصلاح إلى حقوق الإنسان… لم تضع عليه أي شرط في مقابل عودته إلى المجتمع الدولي بعد كل ما فعل في العالم. وهي تحاول اليوم بالتأكيد ضمان أن تكون لها كلمة مسموعة أو يد طولى في النظام الجديد ورسم سياسته. فالواضح أن هذه الثورات الثلاث التي خرجت من قلب الشارع لم تبلور قيادات جاهزة. بمعنى أنها منظمة ولديها برنامج واضح لإعادة بناء المؤسسات وإدارتها، باستثناء القوى الإسلامية التي ليست بالتأكيد “القاعدة” لكنها أيضاً لن تكون قريبة من السياسة الغربية كما كانت الحال مع مبارك وبن علي… والقذافي!
وإذا كان الليبيون يعارضون اليوم بوضوح أي تدخل عسكري أجنبي، أميركي أو أوروبي للمساعدة في إطاحة النظام ووقف حمام الدم، فإن هذا الموقف لا يعفي المجتمع الدولي من مسؤولياته. وإذا كانت العقوبات لا تكفي، وهي لن تكفي، وهناك تجربة نحو عقد من العقوبات مع النظام لم تترك أي أثر. المطلوب استعجال قيام منطقة حظر طيران فوق طرابلس، آخر معاقل العقيد والضغط على بعض دول الجوار لمنع وصول المرتزقة الذين يمكن أن يطيلوا عمر النظام، ويدخلوا البلاد في تجربة تهدد وحدتها… الجماهيرية إلى أفول والمهم ألا يطول الانتظار. أحد أبطال الروايات التاريخية لابراهيم الكوني، الكاتب الطوارقي الليبي، كان حاكماً على طرابلس في القرن الثامن عشر يخرج في جولة على شوارع المدينة، فيجدها خالية من الناس. يتساءل بأسف ما معنى أن يكون حاكماً ذا سلطان وجاه في مدينة بلا شعب!؟ هل يحول القذافي طرابلس مدينة بلا شعب قبل أن يرحل؟
الحياة