ملك الملوك
بقلم محمود الزيباوي
لُقّب العقيد معمّر القذافي حين تسلّم الحكم في ليبيا بـ”أمين القومية العربية”، وبويع بعد أربعة عقود “ملكاً لملوك وسلاطين وأمراء وشيوخ وعمد أفريقيا”، ثم نصّب نفسه “قائداً أممياً” و”عميداً للحكّام العرب” و”إماماً للمسلمين”. إلى ذلك، تقلّد “الأخ القائد” مناصب أخرى، وحمل العديد من الألقاب، فهو “قائد القيادة الشعبية الإسلامية العالمية في نصرة قضايا الإسلام والمسلمين في أرجاء المعمورة كافة”، وهو “أمغاز الصحراء الكبرى وصقر أفريقيا الأوحد وصانع الإتحاد الأفريقي العظيم”، و”مؤسّس الولايات المتحدة الأفريقية”.
في نهاية شهر آب من عام 2008، التقى أكثر من مئتين من ملوك أفريقيا وزعمائها في مدينة بنغازي الليبية في أول تجمع من نوعه، وبايعوا العقيد معمر القذافي ملكاً عليهم، وألقوا بتيجانهم الذهب وأزيائهم الملونة أمامه، وأعربوا عن دعمهم لرؤيته الداعية إلى دمج سلطاتهم في حكومة واحدة. جاء هؤلاء الزعماء التقليديون من مختلف أنحاء القارة السمراء، مثل موزمبيق وجنوب أفريقيا وساحل العاج والكونغو، ونقل مراسل الـ”بي بي سي” عن الشيخ التنزاني عبد المجيد قوله “إن الحكام التقليديين يمكن أن يلعبوا دورا مهما”، و”إن الشعوب تؤمن بزعماء القبائل والملوك أكثر من الحكومات”.
تسلّم الملك القذافي صولجانه بعدما توّجه رئيس مجلس ملوك ساحل العاج الملك شيفينه جان جرفيه ورئيس مجلس ملوك غانا الملك أودينو جابونغ أبابيو، وجاء في البيان الصادر في ختام هذا الملتقى الاستثنائي: “نعلن مبايعة الأخ القائد معمر القذافي ملكاً لملوك وسلاطين وأمراء وشيوخ وعمد أفريقيا، ويسمّى اعتبارا من هذا التاريخ ملك ملوك أفريقيا”. وأضاف هذا البيان أن المجتمعين قرروا “تأسيس ملتقى الملوك والسلاطين والأمراء والشيوخ وعمد أفريقيا ليكون إطارا اجتماعياً ينظم العلاقة في ما بيننا، ويعتبر القائد القذافي رئيساً له، وينعقد مرة سنوياً على الأقل وأن يكون موعد انعقاده في اليوم التاسع من الشهر التاسع من كل عام”. كما قرر المجتمعون تشكيل أمانة دائمة للملتقى، مقرها مدينة سرت الواقعة في وسط الساحل الليبي، بين طرابلس وبنغازي. من جهته، دعا “ملك ملوك أفريقيا” الزعماء المجتمعين من حوله إلى تحمل مسؤولياتهم في الضغط على حكومات بلدانهم من اجل توحيد أفريقيا وتشكيل “الولايات المتحدة الإفريقية”، على غرار “الولايات المتحدة الأميركية”، وأكّد انه سيضع كل الإمكانات في تصرف العاملين من اجل تحقيق هذه الغاية.
العميد والإمام
في نهاية آذار 2009، استعاد الزعيم الليبي لقب “ملك الملوك” في مداخلة له خلال انعقاد القمة العربية الحادية والعشرين في العاصمة القطرية الدوحة حيث قال: “أنا قائد أممي، أنا عميد الحكّام العرب، وملك ملوك أفريقيا، وإمام المسلمين. مكانتي العالمية لا تسمح لي بأن أتنازل لمستوى آخر، وشكراً”. هو “عميد الحكّام العرب”، كونه يتزعّم حكم ليبيا منذ أكثر من أربعة عقود. وهو “ملك ملوك أفريقيا”، بعدما خاب أمله من العروبة، مع العلم بأنه حمل لقب “أمين القومية العربية” عند توليه السلطة، وهو لا يشغل رسمياً أي منصب رسمي في بلاده منذ تفرغه لقيادة الثورة، لا السلطة، في آذار 1979. تكرّست زعامة القذافي على أفريقيا مع حصوله على لقب “رئيس الاتحاد الأفريقي” في الثاني من شباط 2009، خلفاً للتنزاني جاكايا كيكويتي. “الاتحاد الأفريقي” منظمة دولية تتألف من إثنتين وخمسين دولة، مقرّ أمانتها العامة في العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، وهي في الأصل “منظمة الوحدة الأفريقية”، وقد تم حلّ لجنتها بعد إعلان القذافي رئيساً لها، وتبع هذا الحلّ قرار يقضي بإنشاء “سلطة الإتحاد الأفريقي”.
قبل تولّيه رئاسة “الإتحاد الأفريقي”، ترأس القذافي “تجمع دول الساحل والصحراء” الذي تأسس في شباط 1998 في العاصمة الليبية طرابلس إثر مؤتمر القمة الذي شارك فيه رؤساء مالي وتشاد والنيجر والسودان، إلى جانب مندوب عن رئيس دولة بوركينا فاسو وممثل عن رئيس الـ”فاو”، أي “منظمة الأغذية والزراعة العالمية”، وذلك بناء على مبادرة من الزعيم الليبي نفسه. ويسعى هذا التجمع إلى تحقيق اتحاد اقتصادي شامل، كما يهدف إلى إزالة المعوقات التي تحول دون وحدة الدول الأعضاء. في السياق نفسه، مُنح القذافي لقب “أمغاز” أي “قائد الطوارق”، وذلك في اجتماع ضمّ شيوخ الطوارق وسلاطينهم في نيسان 2007 في مدينة أغاديس النيجرية، و”الطوارق” شعب من الرحّل والمستقرين الأمازيغ يعيش في الصحراء الكبرى، ويُعرف بـ”رجال الصحراء الزرق”، وهم من أهل السنّة المالكيين، ويتحدثون اللغة الأمازيغية بلهجتها الطارقية. مع العقيد الليبي قائداً عليهم، بات لـ”شباب الطوارق” مهرجان يُعقد “تحت شعار أمغاز واحد، وطن واحد”. عند تسلمه منصب رئاسة “الإتحاد الأفريقي العظيم”، بعثت “فاعليات قبائل الطوارق بالجماهيرية” بتهنئة الـ”أمغاز”، قائد الثورة الذي سلّم السلطة والثروة الى الشعب، فـ”لا ثورة بعد ثورة الفاتح العظيم، ولا نظرية بعد النظرية العالمية الثالثة”، وهي النظرية التي تجاوزت “النظريتين السابقتين الرأسمالية والماركسية”، وباتت “جميع أدوات الحكم التي نشاهدها في العالم اليوم هي عبارة عن حلول تلفيقية وزائفة للديموقراطية”.
أهدت هذه الفاعليات الى قائدها درع “الصحراء الكبرى” تعبيراً عن اعتزازها به “أمغازاً قائداً لكل قبائل هذه الصحراء، مدافعاً عن قيمها الأخلاقية الإنسانية العظيمة وحقوق أبنائها في أن يكونوا هم سادة هذه الصحراء”. وأكّد شباب قبائل الطوارق “أن المجد الذي تحقق بفعل الأخ القائد ما كان ليتحقق لولاه”، وقدموا التهنئة الى “أمغاز الصحراء الكبرى وصقر أفريقيا الأوحد وصانع الإتحاد الأفريقي العظيم”، وجاء في خطاب التهنئة: “رأيتَ المستضعفين في الأرض فقمتَ بالثورة من أجلهم وحضنتهم، وساندت كل من كان يحلم بالحرية، وجعلتها حقيقة بعدما كانت بالنسبة اليهم شيئاً من المستحيل وضرباً من الخيال. جمعتَ الإخوة الأشقاء المتناحرين والمتقاتلين في ما بينهم في القارة السمراء، فصالحتَ بينهم، وعملتَ دوماً من أجل الأمن والاستقرار في أفريقيا. حملتَ لواء التصدّي لكل مستعمر أراد بنا وبقارتنا السمراء سوءاً، وأقمتَ إتحاد دول الساحل والصحراء نواة الإتحاد الأفريقي العظيم الذي سيؤول بنا إلى إقامة الولايات المتحدة الأفريقية. بنيتَ لنا مجداً لولاك ما كان ليتحقق”.
نصّب القذافي نفسه في نهاية آذار 2009 قائداً أممياً وإماماً للمسلمين، وهو كذلك صاحب “القيادة الشعبية الإسلامية العالمية”، وهي “تجمع دولي للعاملين في الحقل الإسلامي من نحو أربعين بلداً حول العالم ويهدف إلى مواجهة المشروع الأميركي والحفاظ على الثوابت الإسلامية”، وتضم قيادات من “أفريقيا، وأوروبا، وآسيا، والأميركتين، والوطن العربي”، كما تضمّ مكتباً يسمّى “مكتب التصوف العالمي”. ونقلت وكالات الأنباء في طرابلس في حزيران 2010 خبراً مفاده ان أعضاء “القيادة” في أفريقيا” حيّوا الدور الذي يضطلع به القذافي قائد القيادة الشعبية الإسلامية العالمية في نصرة قضايا الإسلام والمسلمين في أرجاء المعمورة كافةً”.
قبل السقوط
استقبل قادة العالم الحر في ديارهم “ملك ملوك أفريقيا” الذي نصب خيمته في كل مدينة يحلّ فيها، وكان لكل منهم خلوة معه في هذه الخيمة الفريدة. حرص القذافي على ارتداء أجمل الأثواب الأفريقية في رحلاته من دون أن يكشف عن هوية مصمّم هذا الأزياء كما يبدو، وبات يتنقل مع طاقم نسائي للحراسة الشخصية يتكون من أربعين امرأة مجنّدة. في تتبع صور هذه اللقاءات، يخال المرء أن الأكثر سعادة عند استقباله الزعيم الليبي هو رئيس وزراء المملكة المتحدة توني بلير، ثم المبعوث الدولي للجنة الرباعية الدولية الخاصة بالشرق الأوسط. في المقابل، تتحدث الصحافة الإيطالية عن “قصة حب” تجمع بين معمر القذافي ورئيس الحكومة الإيطالي سيلفيو برلوسكوني. تكررت اللقاءات بين “الحبيبين” في السنوات الأخيرة، وتجاوز الزعيم الإيطالي كل الحدود في العام الفائت حين انحنى وقبّل يد “الملك” الليبي بعدما تبادلا التحية قبل اجتماع القمة العربية في مدينة سرت، وكان برلوسكوني يومذاك الغربي الوحيد الذي دُعي الى حضور افتتاح هذه القمة. ظهرت هذه القبلة بشكل جلي في شريط مصوّر نُشر على موقع “يوتيوب” شاهده أكثر من مئة ألف زائر للموقع خلال يومين، وعادت صورة القبلة إلى الواجهة مع تواصل الانتفاضات في أنحاء ليبيا، وترافق نشرها مع تعليقات ساخرة تشهد لوضاعتها.
تجدر الإشارة هنا الى أن اسم القذافي برز حديثاً في فضيحة جنسية جديدة تُضاف إلى مسلسل فضائح برلوسكوني، وتُعرَف بـ”قضية روبي”، وهو الاسم الفني للراقصة المغربية كريمة المحروق، وكانت الشرطة الإيطالية ألقت القبض عليها في العام الماضي بتهمة السرقة، فسارعت الى الاتصال ببرلوسكوني الذي زعم وقتذاك أنها حفيدة الرئيس المصري حسني مبارك. اتهم القضاء الإيطالي برلوسكوني بممارسة الدعارة مع قاصر في السابعة عشرة، ونفت روبي الأمر، غير أنها اعترفت بتلقّيها مبلغا يقارب عشرة آلاف دولار في أول مرة التقيا في حفل بمنزله، كما أنها أقرّت بأنها حضرت عدداً من الحفلات الماجنة التي كان ينظّمها الرئيس للترفيه عن نفسه، وقالت إن هذه الحفلات عُرفت باسم “بونغا بونغا”، وإن برلوسكوني أخبرها بأن القذافي هو من أطلعه عليها وعلّمه إياها.
دافع برلوسكوني وحده عن حسني مبارك حين اندلعت ثورة الخامس والعشرين من يناير، ثم عاد وتراجع عن دفاعه. ودافع عن القذافي حين انطلقت ثورة السابع عشر من فبراير، ثم صمت، وتخلّى عن محبوبه. تهاوى “ملك ملوك وسلاطين وأمراء وشيوخ وعمد أفريقيا”، وأضحى صورة كاريكاتورية على جدار في بنغازي، عنوانها “قرد قرود أفريقيا” ¶
النهار