صفحات العالم

مشاكسات حول حسابات المستفتين ومصادرهم

محمّد الحدّاد
بعد الاستفتاء الشعبي حول المآذن في سويسرا، شهدت أوروبا استفتاء شعبياً آخر، أقل قيمة من الناحية القانونية، لكنه أكثر أهمية في نتائجه السياسية المتوقعة مستقبلاً، أقصد استفتاء «شعب» كاتالونيا حول الاستقلال عن الوطن الإسباني الجامع. والجواب متوقع في منطقة شهدت على مدى السنوات الماضية تراجع اللغة الإسبانية وتحوّل اللافتات والاستمارات الإدارية وأسماء الشوارع إلى اللغة الكاتالانية، وأصبحت مؤسسات الجهة أقوى من مؤسسات الدولة المركزية بفضل ما يتمتع به الإقليم من إمكانات مادية هائلة. والنتيجة أن دعم الجهات على حساب مركزية الدولة، وهو مسار ينخرط في صلب فكرة الوحدة الأوروبية، أصبح يهدّد جدياً في أوروبا وحدة بعض دولها الوطنية.
رأينا ذلك منذ سنوات في بلجيكا المنقسمة بين الوالون والفلامان، مع العلم أن بلجيكا نشأت عام 1831 بسبب الانفصال عن هولندا، وكان الدافع دينياً آنذاك، بلجيكا كاثوليكية بمجموعتيها اللغويتين وهولندا بروتستانتية بأكثريتها. لكن الظاهرة تهدّد اليوم بلداً أكبر في المساحة وعدد السكان والوزن الاستراتيجي. الهوية الكاتالونية أصبحت قوية بفضل الازدهار الاقتصادي الاستثنائي للمنطقة، فتضخم الشعور بأن من غير العادل أن يتقاسم أصحابها ثرواتهم مع الآخرين. وقد مُنحوا على مدى العشرين سنة الأخيرة شتى أشكال التسيير الذاتي إلا في مجال السياسة المالية والضرائبية، وذاك كان بيت القصيد.
نفهم حينئذ لماذا كانت إســـــــبانيا البلد الأوروبي الأكثر تمنعاً للاعتراف بانفـــصال كوســـوفو عن صربيا، ويمكن أن نذهب بعيداً في تصور النتائج المــــترتبة على الاستفتاءات الشعبية في كل مكان من العالم. لماذا قبل استفتاء سكان كوسوفو على الانفصال ورفضت الانتخابات الأخير في أبخازيا؟ ولماذا رفض قبل ذلك استفتاء مسلمي قبرص بالانفصال عن الوطن القبرصي الجامع؟ وفي إسبانيا نفسها هل يتجرأ أحد على استفتاء الباسكيين حول رغبتهم بالاستقلال؟ وهل يمكن أن تسمح فرنسا باستفتاء الباسكيين المنتمين إليها حول الموضوع نفسه؟ أو أن يترك سكان جزيرة كورسيكا يحددون طبيعة العلاقة التي يرغبون فيها مع فرنسا؟ وإذا انفصم التحالف السياسي بين رابطة الشمال الإيطالية وحزب الســـيد بيرلوسكـــوني فهل تطرح مجدداً فكرة انفصال الـــشمال الإيطالي المزدهر عن الجنوب، وهل ينظم استفتاء في ذلك وهل تقبل نتائجه أو تعتمد؟ ولماذا يصبح إجبارياً استفتاء الإسرائيليين حول كل اتفاق سلام ممكن مع الفلسطينيين، بحسب القانون الذي مررته أخيراً الحكومة اليمينية الإسرائيلية، بعد أن رفض «المجتمع الدولي» نتائج الانتخابات الفلســـطينية التي رعاها عندما أوصلت «حماس» إلى السلطة؟ وهل يمكن تصور اســـتفتاءات على مواضيع أخرى، مثل اســـتفتاء الشـــعب الـــسويسري حول الاحتفاظ بسرية الحسابات المصرفية، أو استفتاء بعض الشعوب الأوروبية عن رأيها في استقبال المصارف الإسلامية، علماً أن العديد من البلدان الأوروبية قد عمدت منذ الأزمة الاقتصادية الأخيرة إلى تعديل متخف ومتستر لبعض قوانينها لتستقبل هذه المصارف، في الوقت الذي فتحت فيه نقاشات علنية صاخبة حول حضور المآذن أو الملابس الإسلامية.
وعموماً، يبدو أن لعنة الانقسامات والرغبات «الشعبية» في الانفصال لم تعد لعنة عثمانية بحتة، بمعنى أنها لا تقتصر على الولايات العثمانية القديمة في منطقة البلقان والشرق الأوسط، فأوروبا الغربية تواجه مشاكل من النوع نفسه بدأت تطفو على السطح، وهي التي ظنت أن الحل الديموقراطي قد قضى نهائياً على شبح الانقسام والصراع من أجل التقسيم. لكن الحقيقة أن التصويت ليس إلا عملية تقنية تفقد محتواها إذا غابت القواعد المتفق عليها حول العيش المشترك. ومن الغريب أنّ الخبرين السارين في مجال الممارسة الديموقراطية جاءا في نهاية هذه السنة من مصدرين غير متوقعين، أولهما لبنان الذي شهد أخيراً تشكيل حكومة يبدو، ظاهراً على الأقل، أنها مهيأة للاستمرار فترة ما، وأنها نجحت في تحقيق حدّ أدنى من الوفاق الذي كدنا نفقد منه الأمل، وثانيهما العراق الذي نجح في تجاوز أزمة القانون الانتخابي، وفي الحالين كانت ضريبة النجاح باهظة من خلال ثمن العنف الذي أحاط بها والخسائر البشرية الهائلة التي ذهبت هدراً، من المرحوم رفيق الحريري الذي لم تعرف إلى حدّ الآن على وجه رسمي الجهة التي اغتالته، إلى الآلاف من المدنيين العراقيين الذين ذهبوا ضحايا التفجيرات التي لا يعرف أيضاً على وجه التدقيق الجهات التي تقف وراءها. وفي الحالين نجحت ديموقراطية «المحاصصة»، وهي معجزة لبنانية أساساً يعتبرها اللبنانيون شراً لا بدّ منه، لكنهم قد يتحولون إلى موقف الافتخار بها بعد سنوات إذا ما أصبح التوريث الجمهوري القاعدة «الديموقراطية» لدى العرب بمقتضى الاستفتاءات الشعبية.
هل تنجح ديموقراطية المحاصصة في العراق أيضاً؟ شرط ذلك أن لا يقدم الأكراد على استفتاء شعبي حول الاستقلال في مناطقهم لقطع الخيط الأخير الذي بقي يربطهم ببغداد، لكن الأمر ليس مستبعداً، بخاصة أن المشكلة الكردية في تركيا قد عادت إلى نقطة الصفر، هناك أقدمت الحكومة الإسلامية المعتدلة على خطوة جريئة لحل المشكلة بطريقة ديموقراطية من خلال إدماج المكون الكردي في الفضاء السياسي، لكن قرار المحكمة الدستورية ذات التوجه العلماني الصارم بحلّ الحزب الكردي المعتدل أجج الصراع من جديد بين الدولة وأكرادها.
وفي المحصلة يبدو احترام الإرادة الشعبية قضية شائكة في كل مناطق العالم، والسبب هو أن جوهر المثل الديموقراطي يفترض أن يعيش المواطنون في فضاء سياسي معين بصفتهم أفراداً أحراراً ومستقلين، منفصلين عن هوياتهم الدينية والعرقية والثقافية إذا تعلق الأمر بالعمل السياسي الذي يقتصر على العيش المشترك، لكن البشر يحتاجون إلى هويات، وعندما تضعف الهويات الوطنية تنمو فرص ظهور مجموعات قوية قائمة على هويات ثقافية، أو فرص استعمال الهوية لتحقيق مآرب مجموعات قوية، فتتعطل قواعد اللعبة الديموقراطية من الأساس. والاستفتاءات الشعبية التي تعتبر شكلاً من الديموقراطية أكثر مباشرة وأقل بيروقراطية للتعبير عن الإرادات الشعبية قد تتحول مستقبلاً عامل تهديد للديموقراطية لدى أكثر من جهة وطرف. بينما قد يتسع اعتماد طريقة المحاصصة خشبة نجاة لصون أرواح البشر.
الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى