ما ينجزه شباب العرب كحـدث تاريخـي
سليمان تقي الدين
ما ينجزه شباب العرب الآن هو حدث تاريخي كبير. الثورة السياسية بأشكالها المختلفة تتفاعل من المحيط إلى الخليج. يتردّد المطلب نفسه من أجل التغيير والإصلاح ولو أنه يتحدّد حسب ظروف كل مجتمع ودولة. المشترك أكبر بكثير من اختلاف
الوسائل. هي «ثورة العرب» لإعادة تشكيل هويتهم الحديثة كمواطنين أحرار في أمة حرّة.
لا أحد يستطيع أن يهندس الثورة. هي فعل تجتمع فيه الكثير من العناصر الملهمة والمحرِّضة ويخرج كما لو أنه نشيد واحد. أهمية الحدث العربي الذي يعصف بالمنظومة السياسية التي كانت تبدو راسخة إما لقوتها وإما لاستكانة الشعوب، أنه يعكس وعياً وإرادة فيهما نقض لصورة العرب في نظرة الغرب ونظرة الكثير من العرب لأنفسهم. يريد شباب العرب التغيير ويريدونه بأفق معاصر. لا يقلّدون نموذجاً ولا يخضعون لشروط إيديولوجية. في كل مكان يحصل فيه حراك هناك لغة واحدة رغم تنوّع مكوّنات هذا الحراك. ما تقوله الثورات العربية أهم من أي نظرية عن التحرير والوحدة والاستقلال والتقدم. هي بذاتها فعل تحريري وحدوي استقلالي تقدمي. الثورة فعل صدام مع الماضي، فعل قطيعة مع الحاضر وبداية مسار نحو المستقبل.
يواجه شباب العرب أنظمة هي من ركائز السيطرة العالمية وأدواتها. لا نعرف بدقة وجوه الإدارة الغربية بتفاصيلها لاحتواء هذه الثورات وتطويعها، لكننا نعرف على وجه اليقين وما هو معلن من مراكز القرار الدولي، إن هذه الإدارة الغربية لا تحتمل أكثر من إسقاط الواجهات السياسية والرموز الفاقدة لصلاحية القيادة. خلال عشر سنوات من الحرب الأميركية المفتوحة على المنطقة وبعض تبريرها نشر الديموقراطية، حرص الغرب بكل دوله على حماية أنظمة الاستبداد والفساد ولم يستخدم لمرة واحدة معاييره الديموقراطية في التعامل مع هذه الدول. كان الاستبداد والفساد والتبعية في حلف طبيعي، وكانت أولوية هذا الحلف مواجهة أشكال المقاومة والتمرّد على إرادة الغرب. تمايزت مواقف الدول الصناعية المتقدمة بمقدار ما تنافست على بعض المصالح ومواقع النفوذ. لكننا لم نعد نسمع خطاباً متماسكاً في حق تقرير المصير والحرية والديموقراطية ولا حتى في المصطلح الجديد الرائج عن العدالة الدولية والقانون الدولي. لم يحترم المجتمع الدولي قراراته في فلسطين، ولا قرار محكمة العدل الدولية حول جدار الفصل العنصري، ولا حتى القوانين الإنسانية المنظمة للاحتلال. استبدل الغرب كل هذا التراث الإنساني بمقولة «صراع الحضارات» ليبرّر حربه على العرب والمسلمين بذريعة ثقافتهم المتخلّفة النازعة إلى العنف وعدم قبول الآخر وعدم الاستجابة لقواعد الحرية السياسية والديموقراطية.
هذه المفاهيم نفسها جرى تبنّيها من معظم النظام الرسمي العربي ومن الكثير من النخب المرتبطة به وبأوليائه، فصار العقل العربي قاصراً والإنسان العربي عاجزاً والمجتمع العربي مجموعة من الهويات الفئوية المتنافرة. لا شيء طبعاً يأتي من فراغ، فقد بنى مركز السيطرة العالمي على معطيات «التأخر العربي» ولو كانت مسؤوليته الأساسية تنبع من استلاب وعي المجتمعات وإرادتها.
هنا حاكم مصري يعلن عدم نضوج الشعب لممارسة الديموقراطية، وآخر يمني يرفع راية صندوقة الاقتراع وهو يدير حزبه القبلي في اليمن، وثالث يدّعي أنه يقيم جماهيرية بلا سلطات سوى سلطات الشعب ولا يُحجم عن استخدام المرتزقة لقمع شعبه في ليبيا وقهره، وآخرون من ملوك وأمراء يرفعون راية الشريعة ضد مطلب الحرية والعدالة والمشاورة والمشاركة، وجميعهم يهوّلون بتطرّف الحركات الدينية.
أما لبنان الذي استخدمه الغرب لافتة ديموقراطية فلم يترك له سبيلاً لإدارة شؤونه وفق ما تمليه مؤسساته ومكوّنات شعبه التي هي السلطة الشرعية الوحيدة. لم يحترم الغرب تعددية لبنان التي حاول تكوين مثالها في العراق ولو على نهر من الدماء. ولم يحترم حقه في خياراته السياسية الوطنية وشرعية مقاومته لعدو يتمادى في الحرب عليه كلما سنحت له فرصة. بل أن هذا الغرب عبث بأمن لبنان واستقراره بقرارات دولية فرضت عليه جدول أعمال لا يحتمله في وحدته وفي علاقته بجواره العربي. لكن التحديات ليست محصورة في الرغبات السياسية والمداخلات الأمنية التي لم تغب عن ميدان التحرير في القاهرة، ولا عن تونس واليمن وليبيا والبحرين، من سيارات السفارة الأميركية إلى استنفار الأسطول وتحريك الأدوات السياسية والإعلام والمواقف، فهناك السقف الاقتصادي الذي يتحرّك ويمارس فعله الخبيث على أي خيار سياسي، الذي يبدأ بالعقوبات والحصار ولا ينتهي عند التلاعب بأسعار النفط والتهديد بمصادرة الأموال ومراقبة حركتها.
إن تنمية ذات بُعد عربي أولاً وشرق أوسطي ثانياً هي الأفق الوحيد المتاح للجواب على أزمة البطالة وغياب فرص العمل وتدني مستويات التعليم والهجرة شمالاً ونزوح الثروات النقدية العربية إلى الأسواق الغربية واندراجها في أهداف التبعية والهيمنة الغربية. نحن في عالم عربي يجمع إلى جغرافيته الواسعة وتنوّع مناخه وثرواته ميّزات تفاضلية تتعلّق بالقدرة على الاندماج والتكيّف الاجتماعيين. إن حجم العمالة بين البلدان العربية وتنميتها هي جزء من مردود تنمية الهوية العربية المشتركة والتضامن بين مكوّناتها الإقليمية والكيانية الراهنة التي تواجه تحديات كبيرة في نطاقها القطري أو الجهوي الآن.
يبدو التغيير السياسي رغم التحديات والأهوال التي تفرضها أنظمة الاستبداد أكثر سهولة من معركة بناء البديل الذي يحفظ قيم التغيير وأهدافه. بدأ شباب العرب معركة لا تكتمل إلا بالمزيد من تجذير فعل النهضة بوجه عالم الهيمنة الذي يحكم ويتحكّم بمصائر الشعوب بواسطة الفوارق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. فهل تندرج الثورة العربية في مشروع بناء عالم جديد!؟
السفير