النفط وحكومة التجار
منصور الأتاسي
لم يحدث أن تأمن إجماع وطني كامل كما تأمن في الموقف من رفع الدعم الحكومي عن أسعار المحروقات0 فقد رفضت كل الأحزاب السياسية المعارضة والجبهة وجميع النقابات العمالية والمهنية وكل الاقتصاديين الوطنيين، رفض كل هؤلاء رفع الدعم عن النفط , وعكس الإعلام بشكل واضح وكبير مخاطر رفع الدعم وانعكاساته على شرائح واسعة تمثل غالبية سكان بلادنا في حوار واسع وجدي!
ولم يسبق أن قدمت الجهات المختلفة بدائل عديدة قادرة على تأمين الموارد اللازمة لتغطية العجز الحاصل عن ارتفاع أسعار النفط العالمية كما جرى في الحوار الفعال الهادف إلى استمرار دعم المحروقات وعدم تأثر الحكومة بزيادة أسعار النفط العالمية0 فغالبية الجهات قدمت بدائل مبررة علميا واقتصاديا في جهد سياسي ونظري لم يسبق له مثيل يؤكد مواقف الباحثين الوطنية ومعرفتهم بالمخاطر الكبيرة التي سيتعرض لها شعبنا من جراء زيادة أسعار النفط!
ولم يسبق أن أدارت حكومة ظهرها لهذا الإجماع الوطني كما فعلت حكومتنا العتيدة فهي لم تبال بالإجماع الوطني وهي أيضا لم تناقش البدائل المقترحة، فقد أصرت على رفع الدعم غير مبالية بالنتائج لهذا القرار وغير مهتمة أصلا بهذه النتائج!
فقد أعلنت الحكومة أنها غير قادرة على إيقاف الفساد أو الحد منه , وغير قادرة على إيقاف التهريب أو الحد منه، وهذه كلها بدائل تغطي العجز الناجم عن زيادات أسعار النفط العالمية, بالإضافة لإجراءات أخرى أقترحها الباحثون, ولكن الحكومة تعرف أن تدخلها لإيقاف هذه الموبقات التي تفتك بمجتمعنا يعني الحد من تراكم الثروة عند الأثرياء الجدد التي تكونت ثروتهم أصلا من اقتصاد الظل أي الفساد والتهريب والاحتكار .. وأصبحوا نافذين وأكبر من الحكومة نفسها.! والتصدي لهذه الموبقات يعني إيقاف الانفتاح الاقتصادي وتعميم سياسة السوق الرأسمالية، أي يتناقض مع مجمل سياسة الحكومة، لذلك تناقضت هذه الحكومة مع الطروحات الوطنية الجادة وأدارت ظهرها لها0
ولم تكتف بذلك بل حاولت امتصاص النقمة عندما اعتمدت سياسة إعلامية تضليلية قبل رفع الدعم فقد أعلنت:
أن رفع الدعم عن المحروقات وزيادة أسعارها لن يؤثر في زيادة أسعار النقل بكل أشكاله وهي ستتخذ إجراءات محددة معروفة لديها لاستمرار أسعار النقل كما كانت في السابق
وأن رفع الدعم لن يؤثر على الفلاحين فهي أيضا ستتدخل وستقدم التسهيلات اللازمة لتأمين الثروة الزراعية بشقيها النباتي والحيواني. وهي لم تصدق في كلا الإعلانين, فقد زادت أسعار النقل من 80 إلى 100 % وأحاط وضع كارثي بالفلاحين سيؤثر على الثروة الحيوانية والزراعية0 ومجمل الإنتاج الزراعي وسينعكس وهو بدأ ينعكس فعلا على فقراء الفلاحين الذين نزح قسم كبير منهم وخصوصا من المناطق الشرقية- الجزيرة ودير الزور والرقة إلى أطراف المدن الكبرى وخصوصا دمشق حيث تشاهد ألوف الخيم حوالي دمشق يعمل سكانها المهاجرون من هذه المناطق في جمع القمامة0 والقسم الأفقر من تأمين غذائه من بقايا القمامة0
وبالإضافة إلى النتائج الكارثية لارتفاع أسعار النفط ، بدأ التراجع المفجع في الإنتاج الزراعي والتي بدأت مؤشراته تظهر منذ سنوات فقد تراجع إنتاج الحبوب من 5.2 مليون طن عام 2000 إلى 1.5 مليون طن عام 2007 وتراجع إنتاج القطن من 1.350 مليون طن عام 2000 إلى 250 ألف طن عام 2007 .. وهكذا كان مصير بقية المحاصيل الزراعية.
وإذا كان الجفاف قد ساهم بنسبة من التراجع، وكان على الدولة أن تبني مشاريع مائية تساعد في التخفيف من نسبة الجفاف الكارثية الذي يحذر منه الباحثون منذ سنوات طويلة, وأن تستطيع استثمار المشاريع المائية التي تنجزها بدلا من أن تكون استعراضية ثم تتحول إلى مشكلة مثل إعادة إحياء نهر قويق بحلب الذي على أهميته تحول إلى مشكلة بيئية تحدثت عنها الصحافة بكلفة 1.200 مليار ومائتي مليون ليرة سورية.. وإذا كان الجفاف كما ذكرنا قد ساهم في نسبة من تراجع الإنتاج الزراعي، فإن انسحاب الدولة من تأمين مستلزمات الإنتاج الزراعي وتركها للتجار قد أدى إلى ارتفاع هائل في أسعارها خفف كثيرا من هامش الربح المتروك للفلاح والذي كان يشجعه على الإنتاج الزراعي بشقيه النباتي والحيواني.
ويذبح القطيع في هذه الأيام دون أي تدخل من الدولة التي من المفروض أن تؤمن وبسرعة الأعلاف التي تعوض مربيي المواشي عن المراعي القاحلة بفعل الجفاف بهدف الحفاظ على الثروة الحيوانية التي تشكل في حال تطوير إنتاجيتها إحدى روافد القطع الأجنبي, فغنم العواس مطلوب عالميا وبأسعار جيدة0
وأيضا فإن الحكومة تبيع القطن لخارج البلاد بسعر أقل مما تبيعه للمصنعين مما يفقد الخزينة موردا هاما. فلو شجعت الدولة صناعة الغزول لأمنت ضعف ثمن القطن الذي يباع خام دون تصنيع، ولأمنت أكثر من مئة ألف فرصة عمل لعمال سوريين هم بأمس الحاجة إليها وهذا يتطلب تشجيع الصناعة السورية عن طريق تخفيض أسعار القطن للمصنعيين، وتشجيع بناء معامل لغزل ولحلج وتصنيع الأقطان .. ففي مصر مثلا تبيع الدولة القطن للمصنعين المحليين بنصف سعره العالمي لتشجيع الصناعة ولتأمين قطع أجنبي يساوي ضعف القطع لو باعت القطن خاماً، وتؤمن العمل لنسبة كبيرة من العمال. هذه كلها يخسرها الوطن وعماله.
وفي الصناعة تعمد الدولة على عدم تجديد الآلات لمعامل القطاع العام مما يضعف من إنتاجية المعامل ويزيد من تكلفة المنتج ويخفف من قدرته على التنافس في السوق الوطنية التي أصبحت مفتوحة للبضائع المختلفة التي غزته وبأسعار منافسة جدا فآلات ومعدات معمل الأصبغة بحمص مثلا هي أقدم آلات في العالم وهي موجودة دون تجديد منذ بناء المعمل. وبنيت بجانبه العديد من المعامل المماثلة الخاصة تملك أفضل الآلات. ويطلب من العاملين تأمين إنتاجية عالية بنوعية ممتازة أي يطلب منهم المستحيل! وتتراجع إنتاجية معمل الأسمدة بشكل مأساوي وتعكس الصحافة مطالب ألوف عمال وشركات القطاع العام الذين لم يستلموا رواتبهم منذ شهرين وثلاثة. بهدف الضغط الذي يجبرهم هم ونقاباتهم لخصخصة وتأجير مؤسساتهم حين تضع أمامهم ثنائية الجوع أو الخصخصة.
إذا كانت زيادة أسعار النفط قد ساهمت في زيادة تكلفة الإنتاج الزراعي والصناعي والنقل .. وكل مناحي الحياة ، وإذا أدت السياسة الزراعية للحكومة إلى تراجع كارثي في مجال الإنتاج الزراعي، وإذا كانت مؤسسات القطاع الصناعي مخسرة في جزء كبير منها، وإذا كانت الصناعات الوطنية الرئيسية تتراجع في القطاع الخاص أيضا، وإذا كانت الخدمات الرئيسية من مياه وكهرباء وطرق تتراجع، فمن يستفيد من سياسة الحكومة ؟!
إنهم التجار الذين يستفيدون من كل ما ذكرنا فهم يحتكرون الاستيراد والتصدير وقطاع الاتصالات وقطاع الخدمات . وأصبحت أسماؤهم معروفة للجميع، ففي كل محافظة كبش منهم أو لنقل غول يتزعمهم كبيرهم وشركاتهم التجارية تجني المليارات سنويا ويربح المتوسطون منهم مئات ألوف الليرات السورية يوميا.
وتتشكل طبقة جديدة مترفة ستهيمن قريبا ، وهي بدأت تهيمن على القرار السياسي وعبر هيمنتها على الثروة الوطنية. وبالمقابل يزداد فقر أكثرية السوريين وتسحق الطبقة العاملة وجماهير الفلاحين, وتحطم الفئات الوسطى ويتم استبدالها بطبقة وسطى أخرى تنسجم ومصالح التجار. ويهاجر الصناعيون إلى بلاد تحترم الصناعة..
وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فإن مزيدا من الإفقار سيحصل، وإن وضعا اقتصاديا واجتماعيا كارثيا سيظهر في سورية..
وبسبب منع الحكومة لأي نشاط سياسي وطني ولأي تحرك احتجاجي عمالي أو فلاحي، فإن الاحتجاج سيأخذ أشكالا مختلفة ستزيد من تأزم الوضع الوطني العام.
وحتى تتهيأ القوى السياسية القادرة على النهوض بالنشاط السياسي العام المؤثر فإن الوضع سيزداد سوءا وهذا يتطلب منا أن نزيد من فعاليتنا ومن وحدتنا ومن التزامنا الحقيقي بمصالح كادحي بلادنا وبالنضال من أجل الديمقراطية التي تسهل نشاط الكادحين وتزيد من فعاليتهم.
حاص – صفحات سورية –