«أنفلونزا الفتيشية الوطنية»: نتمنى لكم الإصابة العاجلة
أحمد عمر
خصمي القارئ العزيز: هل يمكن أن تقع في غرام علم بلدك بغزوة إعلامية، أو بحملة وطنية حتى لو كانت «مسعورة» وملوثة بفيروس الحب؟ لو كان العَلَم قادرا على إثارة العواطف واللواعج والحب والحنين لاختارت الدول لوحات تشكيلية علَمَا لها لأنها أولى بالتعلق وادعى إلى الإعجاب؟ هل يمكن للحب أن يخضرّ بحملات وغارات و»تأليف قلوب» ومسابقات مثل مسابقة «أكبر علم وطني»، جائزتها رحلة مع المنتخب الوطني في تنقلاته الرياضية، ومسابقة أحسن عمل إذاعي بعنوان «علم وقصة» ، ومسابقة «أفضل نص حول العلم»، ومسابقة «أحسن صورة للعلم» موجهة للمصورين المحترفين والهواة، إلى جانب مسابقة «أحسن عمل فني حول العلم»، وإلقاء محاضرات حول موضوعي «تاريخ العلم» و»المواطنة والعلم»؟
لم يكن لقبيلة للشاعر الجاهلي غير ثابتة الوطن علم معلوم ولا لعشيرته بيرق يبرق سناه و لعصبته راية تروي الظمأ، وكان- مع ذلك – يستهل قصيدته منشدا بالوقوف على الأطلال. تلك الوقفة التي اصطلح عليها النقاد بالنسيب. النسيب كان انتسابا لديار و«هوية» و«توقيعا» للشاعر في بداية القصيدة.
خبر «العربية نت» كان كالتالي: «في أول مبادرة من نوعها حملت شعار «علم في كل بيت»، الجزائر تطلق حملة لتوزيع 5 ملايين علم لبث الوطنية بين السكان المشروع حملة رفعت اسم «علم في كل بيت»، قامت بها الإذاعة الجزائرية، تهدف إلى تقوية «الروح الوطنية» وإعادة بعث «الحب القديم» الذي تراجع وهجه بين المواطن الجزائري والعلم الوطني، بسبب المشاكل الاجتماعية والأزمة الأمنية، برأي مراقبين».
الخبر الصحافي عاملَ العلم الوطني وكأنه ضحية عاقلة أو وليف زعلان ، ولو انه تدارك فذكر أسبابا مختلطة فمزج حابل المشاكل الاجتماعية بنابل الأزمة الأمنية، وعهدنا أن المجتمع في الدول العربية غير الأجهزة الحكومية. وان علم السياسة غير علم الاجتماع. وان المجتمع ضحية… السياسة.
تظن إذاعة البهجة – صاحبة الفكرة «الوطنية» – أنّ الفتيشية – بمعناها التقليدي العاطفي لا الحداثي القائل بعشق السلع- قابلة للنقل و التطبيق والزرع، وأنها يمكن أن تجاوز متاع الإنسان إلى رموز الأوطان، وتلك بدعة جديدة فالعلم ليس منديلا لحبيبة أو وشاحا أو حتى سروالا أو قميصا يلقى على قلوبنا العمياء فترتد بصيرة بالحب والوطنية؟
تتمة الخبر: «وستشارك العديد من وسائل الإعلام المختلفة في الحملة الترويجية كما يمكن أن تساهم الصحف في الحملة بإدراج صورة للعلم في صفحاتها الأولى…». لاشيء عن حقوق الإنسان أو تطبيق القانون أو تجميل المدن وتنظيفها أو رفع مستوى المعيشة أو خفض نسبة الموت أو البطش ولا عن ترغيب العقول المطرودة أو الهاربة إلى ظلال أعلام الفرنجة «الصليبية» بالعودة إلى أهلّة علمها المعشوق أو نجومها الذابلة أو الحرية التي أثمرت عن التحرير. مهما يكن في الخبر من جرعة «فانتازيا» أو سكرة طموح فالتعلق برمز يرفرف مع الريح أفضل من التعلق بصورة زعيم ثابت على الكرسي. كما انه من الصعب تجريد زعيم وجعله رمزا – بالقوة ولكن إلى حين – حتى لو كان نبيا معصوما، وقد انتبه الخليفة الأول أبو بكر، رضي الله عنه، باكرا إلى خطورة شخصنة العقيدة عندما قال: «من كان يعبد محمدا فإنّ محمدا قد مات…».
العلم شيء ورمز و ليس للرمز سيف أو زنازين أو عشيرة أو فئة، إنه ألوان وإشكال مجردة صماء لا تضر لكنها قد تنفع.
وقد ذكرني الخبر برسم كرتوني ضاحك لفنان فرنسي وفيه مرحاض يتدلى فيه من بكرة المناديل الورقية العلم الفرنسي! هل أراد الرسام الفرنسي السخرية من مناهج بلاده السياسية أم انه أراد اهانة المقدس الوطني متحيزا لمقدس اكبر هو حرية التعبير، أم انه قصد أن العَلَم يجب أن يكون «نافعا» ومنظفا.
صديقتي السويدية ميشيل التي تتعلم لغة أبي حيان التوحيدي بكتب المرحلة الابتدائية التي أهديتها لها، انتبهت إلى افرطنا في التركيز على «علمنا المرفرع» وسألت عن تاريخ استقلال البلاد التي ظنت انه قريب؟! وشكت في أننا لا نصدق أن التحرير قد وقع، فلم أحلها إلى فقيه سياسي وحقوقي اسمه منصف المرزوقي صنّف الاستقلال إلى مراتب: استقلال أول واستقلال ثان… وإنما إلى كاتب سوري ( موقع ألف تودي) صور أعلاما سورية غير صحيحة ترتيب الألوان على مباني مؤسسات نقابية!
كان يمكن تحبيب «السكان» بالعِلم بأن العَلم يجعل من السكان مواطنين لهم حقوق كما لهم واجبات أو بإنفاذ انتخابات نزيهة، أو تدريب الشرطة السرية والعلنية، التي تقيم في أبنية صريحة أو التي تقيم في أقبية وسراديب، على احترام المواطن وإفهامه انه يقبض راتبه من جيب المواطن وانه لولا هذا المواطن لم كان وطن ولا تحرير ولا علَم أو أبنية وصروح أو أقبية ودهاليز؟
حتى يكون علم بلادنا محبوبا ومرفوعا يجب أن يكون المواطن مرفوع الرأس لا مجرورا، سواء باليد، أو بهاتف «نداهة» أو ببرقية سرية؟ «فالمؤسسات» التي ترفرف عليها الأعلام الوطنية هي أكثر الأماكن إهدارا لكرامة المواطن؟
وقد لفتني جواب الكاتب المغترب خليل النعيمي (المنشور في حوار مع جريدة «الحياة») عن السؤال عن الشوق إلى مسقط الرأس ومرابع الصبا، وكان جوابه مختلفا عن الأجوبة النمطية التي عرفناها عندما قال: الوطن هو كل مكان اشعر فيه بكرامتي، وليس المكان الذي ولدت فيه. وهو يذكر بقول القائل الغنى في الغربة وطن.
أضيف إلى النعيمي الذي انعم الله عليه بوطن و«علم»: يمكن لعود اخضر أو أصفر،لحبة زيتون أو حبة ليمون أن تثير الشوق و الحب إلى الوطن أكثر من علم… لا يخفق إلا بالهواء الصناعي و أعاصير الحملات «العسكرية» الإعلامية… الصرصر؟
كاتب سوري مقيم في السويد
الحياة