رواية المعراج – الحلقة الرابعة
ابتسام إبراهيم تريسي
حين وصل قمة الجبل توقع أن يجدها بانتظاره، لكنّ المكان بدا له وكأنّ أحداً لم يمر به في الصباح. ألقى نظرة ناحية الوادي، فلم يجد أغنامها، إذاً لم تأت! راح يتمشى في المكان بخطوات قلقة عجلى أثارت الغبار. وبينما هو منشغل بمشاعره المضطربة سمع صوت خطوات توقفتْ قريباً منه، فارتعش قلبه من فرحة لم تطل، حين رفع رأسه وجد فتنة أمامه، قالت:
ـ كنت عم تستناها؟
وأشارت بيدها إلى الوادي وأضافت:
ـ ما رح تجي.
قال:
ـ من؟
قالت بغيظ:
ـ الرّاعية الهبلا، ما بعرف إيش عاجبك فيها؟
اقتربت فتنة حتّى التصقت به:
ـ قول، هي أجمل مني؟ بس أنتو الرجال كلّكم عميان.
دفع فتنة عنه، فقد شعر بالإهانة الموجهة لزوجها تشطر قلبه، هو الأعمى الآخر الذي انساق وراء سحرها الشّيطاني، وتركها تتمكن من ضعفه، وتستغل فضوله و…
ترك فتنة وحدها، ونزل غاضباً. لاحقه صوتها:
ـ ما رح تشوفها بعد اليوم يا مجنون، أنا حكيتلها أنك بدك ياها ما ترجع، قلت لها رح تتزوج.
أصابه كلام فتنة في مقتل، لكنّه خمّن أنّها تقول ذلك نكاية فيه لتشفي غليلها، ولم يصدق أن تُقدم على فعل ما قالته!
حين أحبَّ فاطمة ظنَّ أنّه وجد تلك المرأة، لكنّ تجربة حبه لها تمخضت عن خيبة و ألم. بعد تجربته مع فتنة ظنَّ أنّها هي، لكنّها صدمته بتصرفاتها، وأشعرته بمرارة الخيبة ثانية. خُزامَى الوحيدة الّتي تركت له برحيلها فضولاً صرفه عن البحث المضني عن وجهٍ من نور يجتاح أحلامه فيقلق منامه، ويربك نهاره.
***
لم يكن الفضول وحده ما دفع يوسف إلى أن يقصد “عين الخارجة”، جلس أعلى الربوة قرب البركة يراقب “الحنون” الذي ينبت كلّ عام في الرّبيع، وهو يقبّل خد الشّرق صباحاً، ويذكّره باللون القاني للدّم المختلط بمياه البركة، في صغره عشق هذا المكان، والده اصطحبه إليه ذات ربيع في ذكرى استشهاد داود سالم جراد رفيق الزعيم الحسيني وصديقه. وقال له إنّ الحنون ينبت وفاءً لروح داود الّتي تسكن تحت الماء.
لمح ذلك الرجل الذي أثار أعصابه بنظراته الحاقدة قادماً من الغرب. وقف حمدان قريباً منه دون أن يلتفت ناحيته ، شعر بالاستفزاز، تنحنح علَّ البدوي ينظر صوبه، لكنّه بقي صامتاً لا مبالياً، انتفض فجأة، ورمى عقب سيجارته، داسه بغضب، ومضى لا يلوي على شيء. لم يتوقع يوسف تصرفه ذاك، لكنّه لم يشعر بالاشمئزاز أو الغضب أو الكراهية، نهض بهدوء، نفض الغبار عن ملابسه، ونزل إلى القرية.
منذ ذلك اليوم صار ينتظره بقلقِ من يريد التحرر من إثمٍ ارتكبه. حتّى عاد هذا الصباح، وجلس في المكان ذاته. بحث بعينيه في أرجاء المكان، تأمل الوادي والصخور، واستقرّت نظراته على يوسف في تلك البقعة الّتي رآه فيها منذ أيام، تساءل في سرّه “تراه يعرف ؟” لم يكن لدى حمدان أدنى فكرة عن الجبل أو الشخص الذي اقترب منه بحذر ، وحيّاه، وافترش الأرض قربه، تنحنح ليجلو بلغماً علق في حلقه، وقال بصوت أفزع يوسف، إذ ضرب سمعه لأوّل وهلة كمطرقة حديدية:
ـ أردت رؤية المكان الذي أحبته، أتعرفها؟
خفق قلب يوسف بعنف ودارى وجهه عن البدوي وهو يجمع الأعواد الصغيرة ليضرم بها النّار ، وقال:
ـ من تقصد؟
قال:
ـ راعية كانت تأتي بأغنامها للرعي في هذا الجبل.
ضبط يوسف مشاعره، وحاول أن يبدو طبيعياً:
ـ نعم، رأيتها عدّة مرّات.
قال حمدان بمرارة:
ـ إنّها زوجتي.
سأل يوسف بلهفة حاول مداراتها:
ـ وأين هي الآن؟
ردّ حمدان وهو يلف سيجارة:
ـ رحلت، يبدو أنّنا لا نفتقد الأشخاص الذين يعيشون بيننا.
قال يوسف:
ـ أنت محق، نحن لا نعرف قيمة من يحبوننا إلاّ حين نفارقهم.
نفث حمدان الدّخان من سيجارته، وقال بحيرة:
ـ نحبهم!
انتهز يوسف الفرصة، وقال:
ـ ألم تكن تحبها؟
ـ المرأة لا تبحث عن الحبّ فقط.
قال يوسف باستغراب:
ـ إذاً؟
قال حمدان بحيرة:
ـ ربّما عن الأمان، ربّما عن أشياء لا أفهمها.
فجأة نظر يوسف إلى مكان البدوي فلم يجده! ولم يستطع أن يفهم ما الذي حدث؟ رأى آثار قدميه وأعقاب السّجائر ، لكن…! هاجمه بقوة سؤالٌ صعب: تراها قتلت نفسها حبّاً؟. ولم يجرؤ على نَسْبِ ذلك الحبّ لشخصه رغم تصريحها له “أحببتك، وهذا ما جعلني أتهشم هنا قريباً من قدميك علّي أحمل من رائحتك زاداً لروحي يبقى ما حييت، وما سأحيا”. طَرقت العبارة الّتي قالها البدوي دماغه بقسوة، العبارة الناقصة: (أريد أن أحيا … ).
***
التقى حمدان بعمر والد درية في إحدى حانات القاهرة، وهو في طريقه للقاء أحد التّجار الذين يعقدون صفقات لبيع الجِمال المهربة عبر الصحراء الليبية بأسعار مغرية للبدو الذين يقومون ببيعها في صحراء النقب، وقد أغراه السّعر الزهيد لتلك الجمال لتكوين ثروة عبر مخاطرة صغيرة محسومة النتائج .
رآه في أشدّ حالات بؤسه. ولم يكن في حوزة حمدان سوى القليل من المال، جلسا معاً، حدّثه عن أحلامه الواسعة بامتلاك الأرض والثراء. قال له إنّ أباه أحد الأعيان في مصر، وأنّه يمتلك أراضيَ كثيرة، وسيحصل على إرثه قريباً!
حدّثه عن بلده البعيدة قائلاً:
ـ هناك قوةٌ خفيّة تجذبني إلى جبال “الزاوية”، لقد عشت طفولتي هناك، وطالما توغلت في أحراشه بحثاً عن أشياء لا أفهمها، كنت دائماً ألجأ إلى مدفن غريب، ألتمس من برودة حجارته أمناً وسلاماً. أوّل مرّة لجأت إليه بعد وفاة أمُّي وملاحقة رجال علي رستم لي، مدخله جميل يفضي إلى دهليز دافئ معتم، نقش عليه كتابة غريبة تقول: (وداعاً أيّها الحزن). دائماً أحن إلى ذلك المكان وكأنّه رحم أمِّي أو قبري المنتظر. أحياناً لا نفهم سر تعلّقنا بمكان ما دون غيره وحنيننا إليه، لكن حتماً هناك وشائج بين روح الأرض وروحكَ مادمتَ لا تستطيع فكاكاً من حبِّها، هذا ما يحدث لي، أجوبُ الدّنيا بحثاً عن جذوري، وأجدني أعود إلى جبال الزاوية مرغماً، وأراني في الحلم أغرق في مياه العاصي ولا يد تمتدُّ لإنقاذي. ربّما لأنّك بدوي لا تفهم هذا العشق الذي يقتلني؟
ما لم يفهمه عمر البوش والد درية، هو أنّ البدوي يفهم جوهر العلاقة مع الأشياء أكثر منه، ولكنّه رأى ظاهر التّرحال حجة على حمدان لأنّه لا يرتبط بمكان!
قال حمدان موضحاً:
ـ أنا على يقين أنّ أبي في مكان ما في هذا العالم الواسع، و هو الذي يجعلني في تنقّل دائم.
والد حمدان أخبره، وهو صغير، أنّه يجب أن يتركه، ويلحق بوالده، قال له إنّ الله اختاره ليحمل الرّسالة. لم يفهم ما يعنيه لصغر سنه لكنّه فيما بعد عرف أنّ جده كان من الأبدال الذين خصّهم الله بحمل رسالته، وحين مات وجب على أبيه أن يحمل الرّسالة! لذا ترك العمل في بناء برج عسقلان، واتّجه شمالاً.
طلب عمر ـ وبدون مقدمات ـ من حمدان أن يعطيه المال الذي يملكه، فرصة واحدة أمامه لاستعادة ماله الذي خسره في القمار، تردد حمدان، ما الذي يضمن له عودة المال، قال عمر بيأس “ليكن مهر ابنتي، سأعطيك إياها مقابل ما معك.”لعبت الخمرة برأس حمدان، وتذكّر وصف عمر لابنته بأنّها حورية من حوريات الجنّة، فدفع إليه ما معه. بعد أن خسر عمر النقود، ندم حمدان ، ماذا لو لمْ يصدق في وعده؟
لكنّه حين رآها، شقّت قلبه صاعقة، جعلت أطرافه ترتجف، فهي أجمل من وصف والدها. لكن لا مبالاتها أثارت غيظه وغضبه وحقده، لاحظَ والدها تلك الجفوة، فقال له معاتباً “يكفيك أنّها صادقة، تخدع المرأة الرجل بثنائها عليه، ربّما لن تفهم كلامي، لكن ثق بما أقول”.
تزوجا، ورحلا فوراً، أراد حمدان أن يبتعد بها عن مسرح جريمته المشتركة مع أبيها، لم يستطع أن يبقى هناك، لكنّه ندم بعد الرحيل، وشعر باليتم وغربته عن المكان. لاحظ أنّها لم تعد تخرج إلى المرعى، مضغت زهوراً وأعشاباً، عرف فيما بعد أنّها تأكل اليَنْبُوتُ حتّى عراها الهزال لكثرة ما تقيأتْ، فلفظت أحشاءها. لم تعد تهتم لشيء، ما يحيّره أنّه سمعها تردّد: ( أريد أن أحيا … !). لا يعرف لمَ اعتقد أنّها لا زالت حيّة! هناك هاجس يدفعه للرّحيل جنوباً، فقد خُيّل إليه أنّها هناك في…
عتبة للممكن … عتبة للمستحيل
كانَ أبي صوفيّاً يدّخرُ التّسبيحَ
وحُبَّ النّاسِ ،
ويبذُرُ كلَّ فَلاةٍ
كنبيٍّ موكولٍ بنباتِ الأرضِ وطيرِ البرِّ ،
وكانَ يُخبّئُ ما شاءَ من الأنجُمِ والأقمارِ
لسوسنةِ الرّوحِ ؛
فتأوي لعروقِ يديْهِ ينابيعُ الأُلفةِ
والصّلواتُ
ونوّارُ اللّوزِ
وأزهارُ الرّمّانْ .
كانَ أبي بحراً من نعناعٍ وشمندرْ
فلماذا حينَ تعلّمْتُ العومَ تبخّرْ ؟!
ورماني بالملحِ .. وكبّرْ ؟! ..
ولماذا حين لجأْتُ إلى الملحِ .. تبعثرْ ؟!
وتذرّى ذرّاتٍ ذرّاتٍ
كيما يتماهى في كلِّ صنوبرةٍ
تنطحُ بطنَ اللّيلِ
لينسابَ اللّيلُ نعاساً وكوابيسَ ،
فأنساب نعاساً وكوابيسَ :
***
لم تكن لفرحة إسماعيل ما يوازيها بنجاح يوسف في امتحان المتريكوليشن ، فقد حصل على علامات عالية، وتفوق في الامتحان بشكل لفت نظر أساتذته، وأثار حسد رفاقه، إيليا وحده الذي فرح لنجاح يوسف من قلبه، فقد نجح هو الآخر بمعدل جيد و قرر السّفر إلى بيروت لإكمال دراسته. تلاشت فرحة يوسف بالنّجاح فور تفكيره في المصير الذي رسمه له أبوه منذ طفولته، وأسرَّ لأمّه بمخاوفه.
قبل أن يحل المساء، امتلأ بيت إسماعيل بالمهنئين من الأصحاب و الجيران وأهل الحارة. فوجد يوسف فرصة للاختفاء عن عيني أبيه باستقبال الضيوف الذين بدأوا ينسحبون إلى بيوتهم قبل صلاة العشاء، واقتربت المواجهة، أسرعت خفقات قلبه في إظهار حذرها وقلقها، وقرر أن ينسحب إلى غرفته مؤثراً تأجيل الأمر.
راقب إسماعيل ارتباك ابنه بنظرة حانية، وبدأ الكلام كي لا يحرجه أكثر:
ـ لماذا لا تريد دراسة الفرع العلمي؟
ردَّ يوسف، والكلمات تتعثر في حلقه:
ـ لا أحبه … أودُّ دراسة الأدب…
ابتسم إسماعيل، وهو يقول بثقة:
ـ دراستك للفرع العلمي لا تتعارض مع رغبتك وهوايتك، لا تظن أنّي أفرض عليك الدّراسة فقط لأنّ لي سلطة عليك، أبداً، ولكنّي أرى المستقبل ـ ربّما ـ بشكل أوضح، قديماً قالوا: أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة… هل تعتقد أنّي لا أحبّك؟
فوجئ يوسف بالسّؤال، خرس تماماً. فقد ظن في غمرة غضبه وحزنه، أنّ والده يريد أن يشكّله على مزاجه دون اعتبار لرغباته وأحلامه. تدخلت صفية وهي تبتسم مشجعة:
ـ بإيش إيليا أحسن منك؟ أبوه أفضل من أبوك؟ ولاّ أغنى؟ ولا إيش؟
يعرف كيف تزن أمّه الأمور ، لذا لم يعقّب، وانسحب إلى غرفته.
تلك الليلة لم يغمض له جفن، بحث عن منفذ إلى عقل أبيه وإرادته الصلبة، يستطيع إقناعه من خلاله، أنّه لا يصلح لدراسة الطب، وأنّه يخاف منظر الدّماء والجثث و … لكنّه لم يهتدِ إلى وسيلة، ولم يحبّ اللجوء إلى عمه “أبو محمود” لاقتناعه أنّ وساطته ستجعله مديناً له، وتلزمه بالزواج من ابنته الّتي يتطلّع للفكاك من ارتباطه بها.
قبل طلوع الصباح امتلك اليقين بأنّ دراسة الفرع العلمي، والسّفر إلى الشّام أو بيروت أرحم من الارتباط بجميلة، لعلّّ الأيام تجد له مخرجاً، وتحله من ذلك الوعد الذي قتل حلمه بامرأة من نور. لكنّ الحصار حوله ضاق أكثر حين وافق على اقتراح أبيه بالسّفر إلى دمشق، لقد طلب منه أن يعقد على ابنة عمه قبل السّفر . ! حاول أن يبدي اعتراضاً بسيطاً، لكنّ إسماعيل ابتسم بحنو، وقال:
ـ لم نتعود في عائلتنا مخالفة آبائنا مهما كانت قناعتنا الشّخصية على صواب، ستقول إنّي مختلف بحكم دراستي وظروفي، سأقول لك إنّ والدي رحمه الله هو الذي وضع اللبنات الأولى في تربيتي تلك.
شعر أنّ تلك الكلمات تخنقه ، تمسك بحلقه، وتضغط حتّى انفجر بالبكاء عندما غادر الغرفة. دخلت أمّه فزعة:
ـ إيش صار؟ إيش قال لك، حبيبي قل لأمّك، لن يكون إلا ما تحبّ أنت، أهي جميلة؟
قال بهدوء:
ـ كلّ شيء، الدّراسة وجميلة، أبي يعاملني بقسوة، أكاد أنفجر، ألم يدرس هو المحاماة كما يرغب ويحب؟ لماذا يريدني أن أدرس مالا أحب؟
ـ ومن قال لك إنّه درس ما يحب؟ والدك درس المحاماة لأنّه يحبُّ مساعدة النّاس، و لا يرضى الظلم لأحد، ولأنّه يرى ما يفعله اليهود بنا. لقد عانى في حياته الكثير، وناضل ليدرس ويتفوق.
شرحت صفية لابنها أنّ والده عمل في السياسة في السر وساعد الثوار، لكن زميله اليهودي “أبراهام بوركن” لاحظ نشاطه ووشى به للإنجليز فاعتقلوه، وبقي سنتين يتنقل بين سجن عكا وأسدود وعتليت، حتّى جاءت الحرب العالمية فأطلقوا سراحه، وقتها حاول الإنكليز استرضاء العرب حتّى لا يدعموا ألمانيا. بعد حصوله على حريته اكتشف أنّ شهادة دار المعلمين وشهادة الحقوق الّتي حصل عليها من دراسته المسائية لا تكفيان للعمل بالمحاماة، ولم يكن أمامه غير بيروت ليأخذ منها الشهادة.
توقف يوسف وصفية عن الكلام حين دخل إسماعيل الغرفة ثانية. وقال محاولاً إقناع يوسف:
ـ ما أردت قوله لك يا بني إنّ بإمكانك أن تمتلك الحلم حين تمتلك إرادة القيام بواجبك نحو وطنك ومَن حولك. لم أكن في البداية أحبّ المحاماة، لكنّي فضلّتها على كلِّ الأحلام لأنّها تخدم قضية آمنت بها. وحين اخترت لك دراسة الطب، اخترت لك مهنة إنسانية يحتاجها النّاس بمختلف أطيافهم، لا أريدك أن تدرس ما لا تحب، أريدك أن تحبّ الآخرين أولا ً.
حرّك إسماعيل بحديثه أحلاماً أخرى في نفس يوسف، فتذكّر حين رأى مكتب والده الواقع أمام سجن المسكوبية، وقد غصّ بالمراجعين، وامتلأ فخراً بسؤال الرجال عن اسمه، والدّعاء لأبيه، معظم هؤلاء قضاياهم تتعلق بأراضيهم الّتي سلبها اليهود منهم بوثائق مزورة! وكانت أوّل قضايا إسماعيل الرابحة إعادة بعض تلك الأراضي إلى أصحابها.
***
لم يكن لاقتران الفرح بالألم طعم الفجيعة يوماً بقدر ما ليوم ارتباط يوسف بجميلة. النّسوة في حركة دائبة يحضّرن مستلزمات العرس، وهو في غرفته يحاول ترويض نفسه على قبول الواقع، وكأنّه منحة من السّماء دون جدوى!
تقتحم صفية عليه الغرفة كلّ ساعة من الزمن لتغمره بزغاريدها وفرحتها وغبطتها، لكنّها لم تستطع أن تنقل إليه ولو جزءاً من تلك الفرحة، فقد تبلدت مشاعره، راح يطلقُ الزفرات مع أنفاس الدّخان، ويحاول القبض عليها. سحبٌ كثيفة ملأت الغرفة حتّى صرختْ صفية وهي تفتح الباب:
ـ بدّك تقتل حالك؟ إيش بتساوي؟ يالله قوم، كلّ هذا بيتغيّر، وبتقول أمُّي قالت.
ولكزته بكوعها وهي تبتسم:
ـ اسأل مجرب.
لم تتحدّث صفية يوماً عن علاقتها بإسماعيل من قريب أو بعيد ولو عن طريق التلميح، وقد فوجئ يوسف بقولها؛ لأوّل مرّة تتمزق تلك القشرة الرّقيقة من القداسة الّتي نَسجتها مخيّلته حول أمُّه، ورآها لأوّل مرّة امرأةً كباقي النّساء! قالتْ والابتسامة لا تفارق شفتيها:
ـ صرت رجّال يا حبيبي، ورح تفهم في يوم من الأيام إيش عم قول، رح تحب مرتك وبيتك، والله يرزقك ولد، وتضحك من حالك لأنك حسيت بالحزن، وبتقول أمّي قالت. يالله يا حبيبي، ربْعَك عم يستنوا.
توقف قليلاً وقال لها غامزاً:
ـ أمّي حدّثيني عن زواجك بأبي.
ضحكت بصوت خافت، وهي تقول:
ـ عيب يا ولد.
لكنّه ألحَّ:
ـ قبل قليل قلتِ إنّي أصبحت رجلاً، لماذا تغيّرين أقوالك؟
تنهدت وهي تقول:”كنت صغيرة كثيراً، ألعب في الحاكورة مع صديقاتي لمّا صاحت عليّ أمّي: تعالي يا صفية سلّمي على الضيوف. دخلت فرحانة، وسلّمت، شدّتني جدتك لحضنها، وقبّلتني، وقالت “ما شاء الله مثل البدر، اللهم صلي على النبي”. والتفتتْ إلى والدك، اللي ما رفع نظره من الأرض، ولكزته “سلّم على صفية”. ما بعرف إن نظر في وجهي وقتها ولا لأ، اللي بعرفه أنّه قال كلمات ما فهمت منها شيئاً، ورديت عليه مرحبة، وطلعت على البستان، كانت صديقتي وجيهة وأختي الأصغر مني صدّيقة عم يستنوني لنكمل اللعب . بعد أيام أخذوني إلى القدس ، واشتروا لي ثياباً جديدة أفرحتني كثيراً، وقالوا لي رح نروح إلى عين كارم، فهمت أنّي رايحة إلى عرس، وكنت طايرة من الفرح، كانت المرّة الأولى اللي بطلع فيها برّا “لفتا”، ولمّا صار المساء، عرفت أنّي العروس، وأنّ جدتك قد خلعت ثياب الحداد، ولبست الثياب الملونة! واجتمع الأقارب، ما كان العرس كبيراً، ولم يزدحم البيت بالنّاس، بتذكّر أنّهم بعد العشاء، سكّروا علينا باب الغرفة، وقالوا إنّنا صرنا زوجين! إيش يعني؟ رح تضحك، حتّى والدك ما كان يعرف إيش يساوي! كان وقتها عمره 16 سنة، كان في السّنة الأولى من المرحلة الثانوية في المدرسة الرشيدية. فرحتُ بعد أيام لما خبّرني أنّه رح يروح إلى القدس من أجل دراسته، حسيت وقتها أنّي رح يكون عندي وقت أختلي بنفسي، وأفكّر بأهلي وصديقاتي، وقريتي، وشجرة الخروب اللي فوق المرتفع وراء بيتنا، قديش بحن إلها، وللاختباء في أحضانها. بس اللي صار أنّي افتقدت إسماعيل بعد غيابه، وللأمانة كانت جدتك أم إسماعيل تعاملني بلين، و تتركني أنام مثل ما بدي، بس منظر بطني الفاضية تسبب لها غصة، وتنزل من عينيها دمعة وهي عم تقول “الله يطوّل بعمري وأشوف خلفتك يا صفية يا غالية”. ها الكلمات كانت تحز في نفسي، وتذبحني مثل السّكاكين، فأختلي في غرفتي، وأبكي حتّى يهدّني التّعب. ما كانت تقصد أذيتي، أعترف أنّي ما فهمت ها الشي، بس هي فعلاً ما كانت تقصد أذيتي بكلماتها، أبوك كان وحيدها من جدك إبراهيم ـ ولها أولاد من زواج سابق ـ بس هي كانت تفضِّل إسماعيل دائماً، فهو الوحيد بين أخوته اللي دخل المدرسة، وتعلّم إلى المرحلة الثانوية، كانت تناديه دائماً: يا مهجة قلبي. ممكن ما فهمت منيح سبب تعلّقها بإسماعيل دون أخوته، بس عرفت بعدين أنّها ترى فيه المرحوم والده. حكت لي مرّة أنهم كانوا ساكنين في القدس لما دخل جيش الاحتلال الإنكليزي إليها عام 1917، وفي مقدمتهم الجنرال ” اللنبي” بعد يوم قصف شديد، هُدمت فيه مساجد وكنائس والكثير من البيوت والمدارس، وكان أبوك طفلاً وقتها، أمرهم جدك أن يبقوا في غرفة في وسط الدّار لتحميهم، وطلع ليلتقي وجهاء البلد للتشاور في الأمر. بعد ما طلع بمدة، خرجت جدتك وأولادها من الغرفة، ليتفرجوا على القصف مخالفين التعليمات الصارمة لجدك، فنزلت قذيفة في تلك اللحظة فوق بيتهم، ودمّرته. وما رجع جدك في تلك الليلة. جدتك فضّلت ترجع لعند أهلها في عين كارم. بقيت جدتك مرتدية ثياب الحداد عليه، وحلفت ما تخلعها إلا إذا تزوج إسماعيل! وهيك تزوجنا.)
قال يوسف بلهفة:
ـ كم هو جميل حديثك يا أمّي، أي وبعدين؟
قالت متصنعة الغضب:
ـ بعدين إيش يا ولد ، قوم روح حضّر حالك للتعليلة.
بقي جالساً، وقال:
ـ لن أنهض قبل أن أعرف، ماذا فعلت جدتي حين لم تنجبي لها الصبي، أعرف أنّك أنجبت بعد سنوات سبع أختي المرحومة نجيّة، حدّثيني، ماذا حدث وقتها؟
قالت ضاحكة:
ـ ما صار شي، حزنت جدتك فترة قصيرة، وسلّمت أمرها لله.
قال باستغراب:
ـ ألم تخطب لوالدي واحدة غيرك؟ سمعت أنّها أرادت تزويجه ابنة أختها بعد أن وجدتك أرضاً بوراً. وسمعت أيضاً أنّها لم تخطبك لأنّك جميلة، ولأنّها أحبتك، بل لأنّ والدك شيخٌ جليلٌ وصديق جدي.
تنهدت:
ـ صح، بس أحبتني بعدين، وما خطبت بنت أخيها لأنّ والدك ما وافق يتزوج مرّة ثانية، واستنى حتّى عوّض الله صبره خيراً فيك، والدك مثقف ومؤمن ويعرف أنّه مالي ذنب في التأخر بالحمل ولا في ولادة البنات ولا في موتهن. قُوم ، حاج أسئلة، ربعك رح يقلقوا عليك.
قبل أن تكمل صفية احتجاجها على تقاعس ابنها، سمعا ضجيجاً في الخارج وأصوات أولاد تنادي: يا يوسف، يا يوسف.
خرج راكضاً ليجد الحارة تغص بالنّاس، واختلط عليه الأمر قبل أن يسمع مكبرات الصوت تطالبهم بإخلاء المنازل القريبة من “الدخلة” خلال ساعات. لم يكن إسماعيل قد وصل بعد، صرخت صفية وقد انجلى الموقف:
ـ دوّر على “أبوك” بسرعة، اسأل عنه في مقهى زعتر، روح لعند يوسف العرب، بسرعة.
لم يكن بحاجة للبحث عن والده فالوقت مبكرٌ لوصوله من القدس، ولم يستطع الانتظار، خطر له أن ينادي عمه “أبو محمود”، فوجده أمامه، وقد خرجت عائلته أيضاً، لم يستطع اتخاذ قرار، البعض اقترح عليهم أن يُخرجوا أغراض البيت، والبعض عرض المساعدة بإيوائهم، في تلك اللحظة وصل إسماعيل، ورفض أن تخرج أسرته من البيت. لكنّ الرجال سحبوه عنوة حين بدأت الآليات المحروسة من الجنود، تقتحم الدخلة، وانطلق الرصاص بشكل عشوائي.
لن ينسى يوسف ذلك اليوم طيلة عمره. لم تكن الحجارة هي الّتي تهاوت، بل قلبه وأحلامه وأشياؤه الحميمة الّتي لم يستطع أن ينقذ منها شيئاً. قضوا بضعة أيام في ضيافة أقاربهم ريثما يتدبر إسماعيل الأمر ويجد سكناً في القدس . لكنّ إسماعيل غاب أياماً، امتدت إلى أسابيع، وصلت منه خلال تلك الفترة رسائل شفهية تصبّر زوجته وابنه على البعد، وتطمئنهم إلى أنّ الأمور تسير على خير.
استيقظ يوسف هذا الصباح، وهو مضطرب إثر كابوس، رأى أمّه خلاله، تنوح بحرقة ، وغرابٌ ينعق على شجرة التّوت في ساحة بيتهم. كانت خيوط الشّمس تتسلَّل من الباب الموارب لبيت الجيران، ولم يجد أمّه!
استلقى ثانية، أحسَّ أنَّ خدراً لذيذاً سرى في جسده، وشعر بأنفاس خُزامَى قريبة تلسع خده، لم يجرؤ على الالتفات مع أنّه سمع صوتها يهمس “وإن ذهبتَ بعيداً عن هذه الأرض يا يوسف، وإن تركتني وحيدة هنا، ستنمو أجنحتي، وسأطير مع السنونو في مواسم الهجرة، وألحق بك. ستتزوجها؟ ستعود إليّ وفي ثيابك رائحة أنثى! لكنّي سأبقى أحبك، وأنتظرك، متى ستأتي يا يوسف؟” فتح عينيه، ونهض مسرعاً، وهو يلهث متطلعاً في أرجاء الغرفة… كلُّ شيء كما هو باردٌ، ساكنٌ وحيادي، لمح فراشةً تتسلّّّّل مع النّسيم من النّافذة المفتوحة!
تنهد بعمق، وزفر أنَفَاسه ليطردَ كلَّ الأفكار المُرّة الّتي رافقته في الليلة الماضية. وسرقه التأمل من نفسه فتركها عند النّافذة، وحلّق بروحه بعيداً.
انتشلته من جموده أصواتٌ قادمة من الحوش الغربي، تحوّلت إلى صراخ، بعدها لم يكن بحاجة إلى الوعي ليخرجَ من ذهوله وارتباكه، ركضَ مذعوراً ليراه هناك، يستند إلى ذراع سالم داود والدّماء تغطي جسده.
صاعقة شقّت القلب والرأس، ودارت الدّنيا، دارت، ولفّت به مراراً قبل أن يقع مغشياً عليه، ليفتح عينيه بعدها على وجه الممرضة جانيت، الّتي ابتسمت بعذوبة، وهي تقول:
ـ كان موته مشرّفاً!
لقد قاتل هذه المرّة كعادته قتالاً سلمياً لأجل قضيته هو، ودفع حياته ثمناً لها، فهل خسرها بالموت؟
اضطروا للمغادرة بعد أن سيطر اليهود على القرية وبدؤوا بهدم بعض بيوت الحارة ليشقوا طريقاً إلى “الحرجة” بدل مدخلها الضيّق القديم.
نزح معظم السكّان إلى عمّان، ونزل يوسف عند رغبة أمُّه في الذهاب إلى أختها في جنين، وقد أصرّت صفية على اصطحاب صندوق عرسها معها، حمل يوسف الصندوق، وهو يرى جدته تضحك، و تقول:
ـ انزل يا نص نصيص، ستخرب الصندوق.
فيردّ عليها:
ـ يا جدتي، أريد أن أصبح كبيراً، انظري كم أنا طويل!
فتنهض من مكانها لتضمّه، وهي تقول لأمّه:
ـ ديري بالك عليه يا صفية ما شاء الله مثل النقطة في المصحف.
حرصت صفية على الصندوق حرصها على يوسف فهو من رائحة المرحومة أمّ إسماعيل، أوصتها به، وطلبت منها أن تكون محتوياته من نصيب يوسف عندما يجيء إلى الدّنيا، خبّأتْ فيه ما تملكه من مصاغ وأشياء خاصّة وكسوة إسماعيل الّتي أهداها إليه الملك فيصل حين ذهب مع الكشافة في وفد إلى دمشق للتهنئة باعتلاء الملك للعرش. اختطفها الموت قبل أن ترى يوسف يرتدي الكسوة كما ارتداها إسماعيل من قبل! على الرغم من تعلق يوسف بجدته أم صفية، إلاَّ أنّه يحنُّ إلى رؤية جدته أم إسماعيل دائماً، يرسم لها صوراً متخيلة حسب مزاجه، تحدّثه، وتضمّه، وتحكي له حكايات جميلة قبل النّوم في ليالي الشّتاء الطويلة. كثيراً ما رافقته إلى الجبل دون أن تلهث، أو تستند إلى عصا، تركض معه في الدّروب، وتعتلي الصخور، وتسابقه بخفة أرنب، وحين ماتت جدته أم صفية أصيب بكآبة، منعت عنه الحلم، وغيّبت جدته أم إسماعيل، وكأنّها خاصمته! لم تعد تزوره في الحلم، لم تعد تصعد الجبل معه، قليلاً ما يراها تسير ببطء في الأزقة محنية الظهر مستندة إلى عصاها، ثمّ تتلاشى، وكأنّها لم تكن! لكنّ الصندوق بين يديه يقول “إنّ الأثر يدل على وجود صاحبه!”
وجد نفسه يتوجه إلى الشّمال، وبوصلة القلب تشير إلى الجنوب!.