رواية المعراج – الحلقة الثانية
ابتسام إبراهيم تريسي
كلُّ يوم يمرُّ يوسف بفاطمة، يترافقان في الدّرب المؤدي إلى مدرستها وسط القرية في دار “بولص”، قبل أن ينحرف متابعاً سيره إلى مدرسة عين كارم للبنين.
صحبته لفاطمة أثارت حسد صديقاتها، مما جعله يتشبث برفقتها أكثر. جذبته فاطمة بقدرتها العجيبة على إتقان ألعاب الصبيان، تصعد معه الجبل، وتهبط الوادي، تصطاد الفراشات والضفادع، وتعبث ببيوت النّمل، وتجاريه في تسلّق الصخور، واللعب “بالبلبل”؛ غالباً ما يبقى بلبلها يدور، حتّى يدوخ من النّظر إليه، بينما يقع بلبله أرضاً، وهو يعلن استسلامه وهزيمته، مع هذا لم يكن يشعر بالعجز أمام فاطمة، فهو يراها مساوية له في كلّ شيء، وفكّر يوماً بأن يبوح لها بسر البئر، اصطحبها إلى هناك في غفلة عن الأولاد والأهل، وقال لها:
ـ تستطيعين أن تتحدّثي معها إنّها تعيد الكلمات نفسها.
دهشت فاطمة، وهي تنحني فوق الفوهة، وتتكلم ، فيعود إليها الصدى العميق لكلماتها. فزعتْ قليلاً، وابتعدتْ عن الحافة، وهي تقول:
ـ هل أنت متأكد أنّه لا يوجد جني أسفل البئر؟
قال بثقة:
ـ إن وجد يكون جنياً طيباً، لا يؤذي أحداً، بل يتسلّى معنا بحفظ كلماتنا.
حافظت فاطمة على السّر بعد أن أقسمت، ويدها داخل فوهة الجب، أن لا تخبر أحداً بما فعلاه، وقالاه.
لم تكن تلك المشاعر الّتي يحملها لفاطمة مرتبطة بالحبّ، لأنّه لم يكن قد عرف عنه شيئاً بعد! مع هذا وجد نفسه متهماً في عيون رفاقه، ومنبوذاً منهم. فاختار العزلة في الجبل.
عشق الطيور، وتخيّل نفسه يوماً ما مسافراً على أجنحتها كما يحدث في حكايات جدته.
في أحد الأيام اتفق مع البنات على اللعب قريباً من سور دير اللاتين الشّمالي على ألا يبتعدوا كثيراً، خفق قلبه بشدّة حين عصبت البنات عينيه بمنديل، وانسحبن متضاحكات، لم يكن يهمه أن يعثر على إحداهن بشكلٍ عشوائي لتحلَّ مكانه في البحث، بل حرص على العثور على فاطمة، الّتي انسحبت دون أنْ تضحك، وحرصت على ألاّ تصدر صوتاً أو حركة تدل على مكانها.
تجاهل أصوات البنات التي التقطها سمعه، وهو يسير متخبطاً ومصراً على أن يمسك بفاطمة. سار بحذر في الأرض الوعرة، تلمّس جدران السّور حتّى التفّ معه جهة الجنوب، شعر بأنفاسها تتلاحق حين مدَّ يده ليمسكها، وقعت يده على وجهها، وانسابت برفق إلى عنقها، فاجأه ملمسها الناعم الدافئ، مدّت يدها، ونزعت العصابة عن عينيه، وهمست: البنات!
ابتعد بسرعة، وهو يرمي العصابة، ويصرخ: الدور على فاطمة.
خرجت البنات من مكمنهن، واحتجت جميلة:
ـ بس أنت ما مسكتها! لا أقبل، رح نعيد، الدّور عليك كمان مرّة.
ابتسم بخبث للفكرة، ورأى في عيني فاطمة نظرة متواطئة مع ابتسامته، على الرغم من احتجاجها الظاهر، ستختبئ البنات ثانية، وعليه أن يبحث عن فاطمة من جديد!
منذ ذلك اليوم لم يعد يطيق اللعب مع البنات إن لم تكن موجودة، وقد نصبن له فخاً ذات عصر، وهو يلعب في ساحة دار “أبو سالم”، التففن حوله بخبث، وقلن له:
ـ ستكون عريس فاطمة.
لم تمانع فاطمة، والغريب أنّ وجهها اصطبغ بحمرة خفيفة، وأطرقت خجلاً كعروس حقيقية، وهي تجلس قربه على كومة حطب، والبنات يرقصن ويزغردن.
لم يعرف كيف انشقّت الأرض، وبرزت خالته ثنية، لتسحبها إلى البيت من ضفيرتها، وتلطمه على وجهه، طفرت الدّموع من عينيه، وهو يقول:
ـ لماذا يا خالتي؟ أنا لم أفعل شيئاً.
ردت خالته ثنية بشراسة، وصوتها يجلجل ليسمعه أهل الحارة جميعاً:
ـ أنا لست خالتك يا كلب، يا عديم التربية، انقلع من وجهي، إن شفتك قدّامي مرّة ثانية رح أكسر رجلك.
وضع يده على وجهه مكان الصفعة السّاخنة، ومسح دموعه بكمه، وراح يجرُّ قدميه إلى البيت. وجد أمُّه تعجن في فسحة الدّار، قالت دون أن ترفع وجهها إليه:
ـ أنت جائع يا حبيبي؟ روح العب مع الأولاد، بكير على الخبز.
الأولاد! كيف سينظرون إليه بعد هذه الفضيحة، سيسخرون منه، سالم سينتهز الفرصة لينتقم لخسارته في لعبة “الدُحدال” مع أنّه آخر مرّة رمى له كلّ ما في حوزته من الكرات الزجاجية الملونة، رغم يقينه من أنّه يغش، ويتجاوز الخطوط، ليقنص بكرته الكرات القابعة في المثلث.
ومحمود سيقول له: أنا لا ألعب مع أطفال، روح العب “الرَبع” مع البنات. و …
أغلق باب الغرفة، ووقف أمام مرآة أمّه ينظر إلى وجهه، لماذا قالت خالته ثنية إنّه كلب؟ لم يجد في ملامحه الجميلة ما يشبه ملامح الكلاب، تلك الملامح الّتي تتغزل بها الفتيات دائماً، ويغمزن نحو فاطمة “يا سعدك، ستأخذين زين الشباب” تلك العبارة جعلته ينتفش كديك الحبش، وهو يسير في الحارة متجاهلاً نظراتهن وغمزهن.
لا يعرف كم من الوقت مضى، وهو ينظر في المرآة متأملاً جسده النّحيل، وقامته الطويلة قياساً لسنه، وشعره الكستنائي الجعد، وتلك العينين اللتين قالت له فاطمة، إنّهما أجمل من عيني فتنة امرأة حسن الفرّان! حتّى أفاق على رائحة الخبز تتصاعد من أرض الديار، فخرج مسرعاً، رأى أمّه ترفع الأرغفة السّاخنة، وتضعها في طبق القش، ابتسمت لرؤيته:
ـ وين كنت؟ ما رحت تلعب؟
سألها:
ـ أمّي، صحيح خالتي ثنية ليست خالتي؟
حدّقت فيه مستغربة:
ـ ها! ليش؟
خجل أن يحكي لها، ضحكت فجأة، وقالت:
ـ كبرت يا ابني، خالتك ثنية أم فاطمة ليست أختي، نحن جيران من زمان ومثل الأخوة.
خطف الرغيف من الطبق، وأسرع في الخروج كي يتجنب سؤال أمّه المتوقع.
قضى بقية يومه في الجبل، يفكّر ماذا سيكون رد فعل والده إن عرف بالحادثة؟ الرجال في مقهى يوسف العرب سيجدون ما يتندرون به، أبوه سـ … !
حلّ المساء. ومع العتمة وجد الخوف طريقه إلى قلبه، وبدأ التردد يرجّح كفة العودة إلى البيت، والقبول بحكم والده على أن يفاجئه وحشٌ شارد، ويمزقه أشلاء … حين وصل إلى تصوّر جثته الممزقة، نهض دون وعي، وراح يركض بكلّ قوته نازلاً وادي “خلة الشّيخ محمود” قاطعاً شعب محمود مهتدياً بالذاكرة، فلم يعد يبصر أمامه، وتوقف قلبه ذعراً لثانية حين رأى أضواءَ قناديل، يحملها رجالٌ، يغادرون مدخل الحارة، وقبل أن يسعفه التّفكير بمكان يختبئ فيه، سمع يوسف العرب يصرخ:
ـ الحمد لله، هاهو ، هناك.
وكان أوّل الواصلين إليه حيث تسمّر من الخوف. وراحت الأسئلة تشكّل حول رأسه غمامات بيضاء، وغشي عينيه ضبابٌ كثيف، وفقد القدرة على النّطق حين وصل أبوه إليه، وقبل أن يفتح فمه بكلمة، تكوّم أرضاً!
مضى على تلك الحادثة أسبوع، وأمُّه ترابط عند رأسه، جاؤوا بجانيت الممرضة البريطانية، رطنت بالعربية ما معناه أنّه مصاب بالحمى نتيجة خوف شديد، ويجب أن يرتاح، وألا يُعرِّضوه لأيِّ مساءلة، حتّى يتكلم وحده.
في الفترة الّتي ابتعد فيها أصدقاؤه عنه، تعرّف على”إيليا الدبسي” وتصاحبا.
تقع دار إيليا على يمين الطريق العام النازل إلى البلد بعد “اللوية”، يمرُّ عليه كلّ يوم، على الرغم من بعد المسافة، يخرج مبكراً، فيراه في انتظاره في شرفتهم المطلة على الطريق.
يتحدّثان طيلة الوقت بأمور الدّراسة والشّعر، ويخبره عن الكتب الّتي يحضرها له والده من القدس، ومنها الرّوايات المترجمة، ثمّ يفترقان، يذهب إيليا إلى مدرسة الآباء الفرنسيسكان، وهو إلى مدرسته.
لم يجرؤ يوماً على دخول بيتهم رغم إلحاح إيليا كلّما أوصله في طريق العودة، خشي أن يعرف أبوه بأنّه لا يعود بعد انتهاء الدوام إلى البيت مباشرة.
إيليا فاجأه اليوم بزيارته، وقد جلب معه هدية أخفاها تحت وسادته، حتّى نام الجميع، أخرج رواية “الفضيلة”، وراح يقرأ على ضوء القنديل حتّى فرغ من الزيت. خبّأ الرّواية جيداً، وكفكف دموعه على فرجيني، تخيّل فاطمة مكانها، ولم يهدأ طيلة الليل، وتحرّق ليرى ضوء الفجر حتّى يسرع إليها، ويخبرها بالسّر. لكنّ الصباح الذي طلع، حمل إليه النبأ المحبط، لقد خُطبت فاطمة، قالتها أمُّه بفرح، وهي تضيف:
ـ عقبال شهادتك، لما تصير حكيم قد الدّنيا.
أمُّه تريده أن يعالجها عندما تصبح عجوزاً، لا يستطيع تصوّر أمُّه الجميلة عجوزاً مثل الحاجّة أمونة الّتي تكنس أمام الباب، وتجلس طيلة اليوم، تراقب العابرين، وتوبخ الأولاد، وتطردهم ليلعبوا بعيداً، وتكره العصافير الّتي ترمي فضلاتها كيفما اتفق . لا يمكن أن تكون أمُّه مثل الحاجة أمونة أبداً، بل ستحتفظ بشكلها هكذا طيلة العمر. ارتاح لهذه الفكرة الّتي أنقذته من المصير المنتظر “دراسة الطب”. لكنّ خاطراً كدَّره “كيف تتزوج فاطمة، وتتخلّى عنه؟ لمن سيبوح بأسراره؟ لمن سيحكي ما حدث في تلك الرّواية الرّهيبة؟”
سأل إيليا:
ـ هل فرنسا بعيدة جداً؟
ضحك، وردَّ هامساً:
ـ جداً، أبي يقول بيننا بحار وجبال ووديان يصعب تجاوزها.
سأله باستغراب:
ـ ولكنّك قلت لي إنّ أباك زارها وأنّه يعرف “بول” شخصياً.
ردَّ بارتباك:
ـ نعم، أبي كبير ولكنّها صعبة على الصغار مثلنا، أبي يمتلك قوة خفية.
قال باهتمام:
ـ عنده طاقية الإخفاء؟
يبدو أنّ إيليا وجد ما ينجيه من تساؤلات صديقه فقال بسرعة:
ـ نعم، هي هذه، لكن لا تخبر أحداً، ذلك سر، إن عرفه أحد تحدث كارثة.
لم يبح بالسّر، خبّأه في قلبه، كما خبّأ سر الرّواية وفاطمة… اعتقد وهو في سن الثالثة عشرة، أنّ كلّ ما تضمُّه صفحات الكتب حقيقة لا مجال للشك فيها! بعد سنة ونصف أثقل السّر قلبه، ورافقته خفقاتٌ في القلب، وغليان في الدّم، أحسَّ أنّ لا شيء يزيح ذاك الثقل عن صدره غير وجود فاطمة، أراد إشراكها معه بحمل عبء القلق والحزن والأسرار، فدسَّ في يدها ورقة، وهي في طريقها إلى المدرسة، لتوافيه إلى الجبل. صعد الطريق مسرعاً حتّى وصل مكانه المفضل، وراح يراقب الطريق قلقاً، أيعقل أن تخذله فاطمة؟ أخيراً رآها تطلُّ من الدّرب التّرابي الضيّق، وقفتْ قبالته، وهي تلهث، ووجهها يبدو شاحباً، قالت، وهي تتلفت حولها:
ـ أخاف أن يرانا أحد.
طمأنها:
ـ راقبتُ الطريق جيداً، اطمئني.
وقفت فاطمة كمهرة شُدَّ شعرها الكثيف على شكل ذيل حصان، وبدا جبينها ناصع البياض، وقد أرخت أهدابها الطويلة فأخفت عينيها الواسعتين، وأطرقت خجلاً، وهي تقول:
ـ ما السّر الذي تريد أن تبوح به لي؟
أخرج الرّواية من قميصه، وقدّمها إليها:
ـ اقرئيها، واذكريني.
قالت، وهي ترسل نظراتها عبر أشجار السّرو الشاهقة:
ـ فقط؟
دون أن يفكّر بكلماته قال لها:
ـ لا، استدعيتك لنهرب سوية، ما رأيك؟
وكأنّما أفزعها صوته، جفلتْ قليلاً، ثمّ استكانت، وعبراتها تغسل خدها، وهي تقول:
ـ مستحيل.
قال متجرأ ً:
ـ ألا تحبينني؟
اعتقدت فاطمة في تلك اللحظة أنّها يجب ألا تتهور، فصمتت طويلاً قبل أن تجيب:
ـ ألا تعرف؟
وفرّت من أمامه.
***
بينما هو واقفٌ أمام دكان حسن الفرّان، لمح فتنة آتية من رأس الحارة، ابتسمتْ حين رأته، وقالت:
ـ حبيبتك رح تتزوج.
اضطرب لوقاحتها، وارتعش قلبه، ولكنّه تساءل كيف عرفت فتنة ذلك؟ هل…
نظرتْ إليه بفضول، وهي تقول:
ـ عم تسأل حالك كيف عرفت سرّكَ؟
قرّبت رأسها من وجهه، حتّى لامس شعرها الجميل أنفه، وهمست:
ـ أنا بعرف كلَّ شي. بدّك قلّها شي لفاطمة؟
لم يفكّر في غاية فتنة، ولم يعرف كيف أخبرها أنّه يريد رؤية فاطمة، أعثر الارتباك كلماته فبدت مضحكة، لكزته، وهي تمضي إلى شأنها:
ـ ما تهتم، أنا ما عندي أغلى منك ـ وأضافت ـ ومن فاطمة…
حينها وجد نفسه يعتزل الوجود في الجبل محاولاً اكتشاف ما وراء ذلك الأفق، يسافر في المخيّلة، ويجوب بلداناً لا يعرفها، ويلتقي أناساً لا يفهم لغاتهم.
سيطر عليه هاجس بضرورة أن تكون فاطمة له. فتنة لم تكذب، لقد أتت بفاطمة إلى قمة الجبل، ووقفت تحرس الطريق. لم يصدق عينيه حين رآها تقف أمامه، وقد نحلت كثيراً، ونهد صدرها، وشحب لونها، قالت بارتباك:
ـ فتنة أقنعتني أنّ هناك أمراً خطيراً تريدني لأجله، أرجوك لا أستطيع أن أتأخر.
خرجت كلماته متعثرة بصوت لم يألفه سَمْعُه، خشن وحيادي، قال:
ـ أريدك، لن تكوني لغيري يا فاطمة، سنهرب معاً.
ابتسمت بسخرية، وهي تشيح بوجهها:
ـ أ لهذا جئت بي؟ يوسف، أنت لا تدرك ما تقول، إنّه جنون، ثبّت الله عقلك عليك.
واستدارت جهة فتنة، ونادتها:
ـ هيا بنا.
لم تنتظر ردها، بل هبطت الدّرب التّرابي دون أن تلتفت. كبرت فاطمة إلى حد لم يعد يعرفها، هل هذه فاطمة حقّاً. وهل تعني ما قالته؟ ردّت فتنة عن سؤاله في اليوم التالي: فاطمة عاقلة، وبتخاف عليك، أنت مجنون، ياريت جنونك إلي!
لم تستوقفه عبارة فتنة مع أنّها أرفقتها بغمزة من عينها، ولكزة من مرفقها، وأتبعتها بضحكة مجلجلة. هل حقّاً فاطمة تحبه؟ لماذا ترفض إذاً أن تكون له؟.
لم تكن فكرة الهرب من المدرسة تخطرُ بباله قبل الآن، عاد أدراجه ملتمساً الطريق الذاهب إلى عين الخندق، مضت ساعة، وهو يقطع الطريق ماراً بمقهى يوسف العرب، التجأ إلى جذع شجرة التوت زمناً، شعر خلالها بعيني يوسف تلسعه بنظرات مرتابة، خاف حينها أن يخبر أباه، فتسلل إلى “خلة الجنان”، اختار مكاناً قريباً من دار “آسين” وتربص هناك. لا يدري كم من الوقت مرَّّ، وهو يراقب نوافذ بيتها، تخيّل كل ّ طيف وراء النّافذة طيفها، حتّى أطلّت أخيراً، فركض يعبرُ الخندق ليفاجئها بحضوره، ابتسامة فاطمة وصرختها لا زالتا تشقّان جدار الصمت والسّكون، وتقتحمان وحدته. لا يعرف كيف تعثر ، وسقط في قناة المياه، كلُّ ما يذكره أنَّ النسوة قرب العين تصايحن، وركضن صوبه، وبقي وجه فاطمة بعيداً، ذهبتْ جهوده للحديث معها ذلك اليوم هباء، وبّخه أبوه لهربه، وبكت أمُّه بصمت!.
يومها لمح في عيني أمُّه عتباً صامتاً، ثمّ راحت تبكي، وهي ترى “كحة الذيبة ” تكاد تذبحه، وأصرّت على وضع “عظمة الديك” قلادةً في عنقه لتبعد عنه شرّ الكحة، ورغم اعتراض أبيه وسخريته منها، إلاّ أنّ أمُّه آمنت أنَّ شفاءه مرتبط بتلك العظمة العجيبة!
أحبَّ مرضه، وتمنّى أنْ لا يشفى منه حين رأى فاطمة تزورهم بصحبة أمِّها، لكنّه يومها أضاع صديقة الطفولة لم يرَ فاطمة رفيقته، كانت أنثى مختلفة، بثياب جديدة مرتبة، جلستْ بأدب، ولم تتكلم أبداً، ردت على مجاملات أمُّه لها بهز رأسها مع ابتسامة خفيفة؛ حينها شعر أنّ الذبحة في القلب!
بعد ذلك الحادث صار يلمح فاطمة من بعيد، وكأنّها كائنٌ آخر غير الذي يعرفه، كائنٌ له مواصفات لا يحبُّها.
***
القمر في المحاق، وعلى الرغم من معرفة النّسوة للدرب جيداً، إلاّ أنّ شيئاً من الرهبة والخوف، تسلّل إلى قلب صفية، وهن يقطعن المنطقة المعتمة الخالية من البيوت إلى بيت العريس في “وعر سارة”، شعرت بخطواته، وهو يتبعها من بعيد، وأدركت بحدسها أنّه غائص في الحيرة والحزن. أحسّت بالمرارة تترسب في حلقها، وحاولت أن تضحك للنكتة الّتي تلفظت بها ثنية، لكنّ الضحكة الباهتة تلاشت على شفتيها. سألتها ثنية بقلق:
ـ مالك؟ مريضة؟
لم ترد، واكتفت بأن ضغطت على يدها، وهي تعبر حوش الدار، وتقرع الباب وجمع النسوة يزغردن” أي وها وافتحوا باب الدار / أي وها وخلوا المهني يهني”.
لمْ تعرف صفية لمَ غصّت الزغرودة في حلقها، ودمعت عيناها، وهي تراقب مَنْ حولها، وتتأمل قريبات العريس اللواتي بحت حناجرهن من الزغاريد، وهن يحملن “الكسوة” التي أحضروها من القدس، لكنّ قلبها لم يطاوعها للاقتراب والفرجة، عندما عرضت أم العريس أمام أعين النسوة ما جلبته وهي تعدد مزاياه وثمنه، وتتحدّث عن التّعب في اللف على المحلات والأسواق. تصوّرت نفسها مكان أم محمّد، والفرحة تغمر قلبها، وهي تعرض الملابس الجميلة، وتغني وترقص طرباً ، لمَ كتب عليه أن يحبَّ فاطمة؟ استغفرت ربَّها بعد هذا الهاجس، واستسلمت لفكرة القسمة والنصيب، وحاولت أن تخرج من بئر أفكارها لتشارك أهل الفرح غناءهم ورقصهم. لكزتها ثنية:
ـ شفتِ صندوق عرسها؟ الصندوق يأخذ العقل، خشب سرو متين، ألوان خضراء، ولاّ الزخرفة بالنّحاس؟ تأخذ العقل، شفتِ ثوب عرسها؟ بس فأل سيء، أم محمّد أخطأت، أي والله، ما كان لازم يشوفه حدا.
قالت مجاملة:
ـ فاطمة تستأهل، ربّنا يسعدها.
تابعت ثنية ثرثرتها بفرح:
ـ شوفي فتنة، يخرب بيتها على ها القوام مثل الجنيّة، ما بقى تهمد وتقعد، صار إلها ساعة عم ترقص.
حاولت أن تبتسم، وقالت بصوت خافت:
ـ اتركي النّاس بحالهم، خليها ترقص، الدنيا ماضية.
سألت ثنية باستغراب:
ـ الظاهر ما سمعتِ آخر قصصها؟ الله ما بيني وبينها، قال حطّت عينها على شاب أصغر منها، بيروح لعندها وقت زوجها ما بيكون في البيت.
خفق قلبها، وقالت بارتياع:
ـ حرام، لا تحكي عليها عندك بنات…
وسكتت، تذكّرت ـ وهي تحدّق بفتنة ـ تلك الصبية اليتيمة الخجولة ابنة الخامسة عشرة، وهي تساق إلى رجل يكبرها بثلاثين عاماً، تسع سنوات مرّت على زواج فتنة، ولكنّ التفاصيل حاضرة في ذهنها، جميع النسوة في القرية كن فرحات في تلك الليلة، كلّهن تبرَّعن بإقامة الحفل، وشراء الجهاز والرقص والزغاريد، لكنّ أحداً لم يفكّر بمصير الصبية التي زفت إلى رجل عزف عن الزواج طيلة حياته كي لا يدفع مهراً لعروس، رجل عُرف عنه البخل، وتناقلت القرية قصصاً غريبة عن الطرق والأماكن التي يخبئ فيها أمواله. تنهدت صفية، وترحّمت على والد فتنة الطيب، الذي عمل أجيراً عند حسن الفرّان، يعمل في الأرض، ويخدمه في البيت، وفي الدّكان مقابل سكنه في “خربوش” في مزرعة حسن وطعامه وكسوته. تعرف جيداً أنّ الطمع هو الذي جعل حسن الفرّان يتزوج فتنة بعد وفاة والدها، فهي لم تكلفه قرشاً واحداً، بالإضافة إلى عملها في الأرض والدّكان والبيت! وجدت نفسها تقول همساً:
ـ مسكينة فتنة، لو رزقها الله بولد لتغيّر حالها.
فتحت ثنية فمها دهشة، لكنّها لم تعلّق على قول صفية الطيبة، بل نهضت لتتحدّث مع حماة ابنتها على انفراد.
في الليلة التالية، خرج يوسف من البيت مضطرباً، وحاول الابتعاد عن الحارة، لكنّه فشل في ذلك، لم يهتم لعيون المارة، قطع الدّرب ذهاباً وإياباً، وقد فقد قدرته على التّركيز، وهو يسمع أصوات النّسوة تلعلع بالزغاريد في بيت فاطمة، إنّها ليلة الحناء!
صوت فتنة أوضح تلك الأصوات وأعلاها، وقد انفردت بالغناء “سبل عيونه ومد ايدو يحنونه / غزال صْغيّر في المنديل يلفونه / يا أمّْي، يا أمّْي حني لي دياتي وطلعت من الدار ما ودّعت خياتي / يا أمي ، يا أمي طوّلي المناديلي وطلعت من الدار ما ودعت أناديلي، وامبارحة يا فاطمة كنت أنا وأنت شو جرى يا فاطمة تا تغربت؟
تبعتها إحدى النساء بزغرودة “أي وي ها بحنة مكة جيت أحنيك، أي وي ها يا بدر ضاوي والحلا كله فيكي / أي وي ها وما بتلبق الحنة إلا لأيديكي/ أي وي ها يا فاطمة يا زينة العرايس لمحمّد جيت أوديكي / … كأنّ النساء كنّ يُعددن حفلة لتعذيبه وقتله ببطء. انتظر أن تنتهي ليصحب أمّه إلى البيت دون كلام، كأنّهما تآمرا معاً على البقاء صامتين، فهل كان السّبب واحداً؟
حين استيقظ في صباح يوم الخميس، لم يجد أمّه في البيت، وعرف أنّها ذهبت لمساعدة النّساء في إعداد وليمة العرس. لم يعرف كيف أمضى سحابة النّهار في قمة الجبل دون طعام أو شراب، حتّى حان المساء، تردد كثيراً قبل أن يتخذ قراره في حضور عرس فاطمة، لم يذهب إلى ساحة دار المختار حيث يحتفل الرجال، بل قصد دار أهل العريس حيث النّساء مجتمعات هناك، جلس على سطح بيت صديقه زيد، يتأمل المشهد الأخير من رحيل فاطمة عن عالمه. غصَّ صحن الدار بالنساء على الرغم من اتّساعه، جاءت فاطمة، تحيط بها النسوة من أهل العريس وأمّها والزغاريد، حملت بيدها مصحفاً ملفوفاً بقماش مُطرّز تزيّنه الورود، وقد غطّت وجهها بالطرحة، وراحت الصبايا يغنين لها أغاني التجلاية ” يا ناس صلوا على محمّد نقرأ ونصلي على الحبيب”
تأمل الطرحة البيضاء وجانب وجهها المضيء، قامتها المتوسطة قد طالت! وشعرها الأسود السبط مرفوعٌ على شكل كعكة عيد! حتّى لون بشرتها وشفتيها! كأنّها ليست تلك الّتي لعبت معه في الحارة، وضفيرتها تتراقص على ظهرها المستقيم، وهي تحجل على قدم واحدة، وعيناها الواسعتان تنظران إليه بود! اكتشفت فاطمة وسط الزحام مكانه فبان الخوف جلياً على محياها. راحت يد عريسها ترفع ذلك الحجاب بفرح. رأى يوسف من مجلسه الدّمع في عينيها، بكت فاطمة، وأبكته، بكت طفولتها المغتالة، وبكت حلمها الذي طوت عليه القلب.
لا يمكنه أن ينسى ذلك الإحساس حين رآها تبتعد بثوبها الأبيض ليُغلَق خلفها باب حجرة أطبقتْ على روحه كالسّكاكين…
فتنة كانت تلهج بالزغاريد دون توقف ثمّ راحت تغني “أمو يا أمُّو يخليلو أمُّهُ وسبع كناين تعبر على أمُّهُ / جابتلي بصل وما باكل بصل وع شهر العسل لحقتني أمهُ / جابتلي فقوس وما باكل فقوس حية بسبع روس تقرصلي أمه …
أدرك أنّها في طريقها للذبح، لذا توقفتْ النّسوة عن الزغاريد والتّحفن الصمت والتّرقب. لاحظ بلا مبالاة انسلال فتنة من بين النّسوة في فسحة الدار الملاصقة لدار صديقه زيدان حيث مكانه على السطح، ورآها تصعد الدّرج إليه، اقتربت منه. فتنة “الشّيطانة”ـ كما تُسميها النّسوة في حارة “الحارة”ـ تتمتع بجمال وحشي، بعضهن كنّ ينسبنه للجن، عيناها الخضراوان الواسعتان ـ كعيني قطة تتحفز لأكل أولادها ـ تجمعان الشّراسة والغموض، وثوبها “الرهباني ” مثار غيرة الفتيات، لأنّ “القالب غالب” كما يقولون، ولم تكن الطاقية الحريرية المزينة بصف ذهب عصملي هي الّتي تزيدها جمالا ً فتلفت نظر الرجال وخوف النّساء، بل ذلك الشّعر الكثيف الكستنائي الذي تتفنن في تسريحه، وتزيينه بالورد.
حدّقتْ فيه بشكل غريب، وهمستْ في أذنه وهي تلكزه:
ـ بدي خبرك سر، الحقني.
ونزلتْ مسرعة، واتّجهت صوب الجبل. توغلا في الطريق التّرابي وهي تتقدّمه، توقفتْ لاهثة حين وصلا قريباً من الدغل. سألها مرتاباً:
ـ ألا يمكن أن تخبريني السّر ونحن هناك؟
وأشار إلى القرية، فقالت متضاحكة:
ـ ما بدي حدا يسمعنا!.
جلس القرفصاء يلتقط أنفاسه، ويلملم شتاته، شدّته بقوة، وطرحته على العشب. رأى عينيها تلمعان في العتمة كعيني قط متوحش، تسارعت ضربات قلبه، وشعر كأنّ مصيدة من الحديد أطبقت على ذراعيه، فصرخ بضيق، حينها أفلتت إحدى ذراعيه، وقالت بما يشبه الفحيح:
ـ بعرف أنّك مجنون، ما بدك تعرف إيش عم يصير ورا الباب المسكّر تحت؟
غلب فضُوله حذرَه وريبته. امتدت يدها تداعب شعره وأسندتْ رأسه إلى صدرها، أحسَّ به يعلو ويهبط بسرعة مثيرة، وأنفاسُها تلهثُ قرب أذنه، وهي تهمس:
ـ رح يعجبك، صدقني.
ضحكتْ بصوت أخافه، خَالَ أنّ شيطاناً سكن جسده، فتمدد، وكبر حتّى فاق فتنة قامةً، وشعر أنّ ساعديه ينتفخان بعضلاتٍ وهمية قادرة على حملها والطيران بها، وللحظة شعر أنّ السّماء ابيّضت بنورٍ غمره، فأغمض عينيه مرغماً!
أفَاقَ من غيبوبة خيّل إليه أنّه دخلها، لسعَ الهواءُ البارد جسده العاري، حاول الابتعاد عنها لكنّه فقد كلَّ مقاومة، وعادت ضحكتها تملأ سكون الغابة الموحش. نهضتْ بسرعة، ومضت دون أن يلحظ ذلك، لملمَ تلك المشاعر الغريبة الّتي غزت جسده، وحرّض ساقيه على النّهوض، ثمّ راح يعدو بكلّ قوته، حتّى وصل مشارف القرية دون أن يلتفت إلى الخلف. دخل غرفته جَزعاً، ودفن رأسه في الفراش، وهو يرتجف. خشي أن يراه أحد، وتوقع في كلّ لحظة أن يفتح أبوه باب الغرفة ليقول له: …
لم يستطع ليلتها النّوم، كلّما أغمض عينيه يرى ذلك الكابوس الرهيب لختانه، نساءٌ يزغردن، ورجال يضحكون، دماءٌ تنزف منه، وأناسٌ غرباء يأكلون بشراهة وكأنّهم يحتفلون بعذابه! دقات قلبه تتسارع، لونه يشحب والدّلال “أبو حسن” يردفه على الحصان، ويدور به في حارات القرية، كان يخاف ركوب الحصان، ويشفق على ذلك الحيوان من ثقل البشر وأنانيتهم، لا يدري هل الخوف هو الذي أرعش يده؟ أم الحصان شدّ الرسن فأوقعه أرضاً؟ تلوث الثوب الجديد الذي أُعدَّ خصيصاً للاحتفال! وانتهكتْ الأوساخُ بياضه وخطوطه الزرقاء والحمراء الجميلة، ووقع الطربوش المزيّن بالذهب، وتدحرج بعيداً عنه، حفلُ التعذيب ذاك بقي مرتبطاً في ذاكرته بالفرح والزغاريد، كلّ الأفراح ترتبطُ بالألم، تصوّر أيّ عذابٍ ينتظر فاطمة، وهي ترتدي ثوباً أبيضَ! وبقيتْ صورتها وهي تُذبحُ من مكان ما في جسدها، تطغى على تلك الصورة، الّتي حاولتْ فتنة أن تقنعه أنّها الحقيقة المختبئة وراء ذلك الباب، الذي أُغلق في وجهه إلى الأبد.
لاحقته عينا فتنة حين رآها في اليوم التّالي عند العين، اقتربت منه وهي تشتم النّساء والزحام وحظها الأغبر، وقالت بصوت عالٍ:
ـ الرجّال عن حق ما بيترك امرأة تحمل الماء وبيمشي فارد طوله ؟
حين وصلا دكّان زوجها، ضحكت، وهي تشكره، وقالت:
ـ بإيش بدي أكافئك؟
قال متلعثماً:
ـ قمت بواجبي.
غمزته:
ـ ما في شغل من غير أجر، وأنت قمت بعمل طيب، لسه معتزل بالجبل؟
قبل أن يفضحه ارتباكه، مشى دون أن يدع لها فرصة لإكمال الحديث.
خوفٌ من نوع آخر صار يغزوه، تصوّر أنّ زوجها “عم حسن الفرّان” يعرف ما جرى بينه وبينها، فصار يتجنب المرور أمام دكّانه. مع هذا أصبح شبحه يلاحقه في وحدته، فحبس نفسه أياماً في البيت، عينا أمّه كانتا تراقبانه بقلق، وسألته ذات مساء بحذر:
ـ شايفتك قاعد بالبيت؟ ما عم تحبّ تروح على الجبل؟ إيش الحكاية؟
تعلل بالمرض. أوّل حجة خطرت بباله ليهرب من نظرات أمّه الّتي أدركتْ ما بنفسه من خوف، فحاولت أن تخرجه إلى الدّنيا من جديد.