صفحات من مدونات سورية

حينَ نُلبِسُ الفقرَ قناعاً…

null
منذ أيّام, بينما كنت أتسكّع في إحدى الشوارع المركزيّة محاولاً قضاء الوقت بالتفرّج على واجهات المحلاّت ريثما يحين موعدي مع أحد الأصدقاء, وجدتُ أمامي رجلاً في حدود نهاية العقد الرّابع أو بداية الخامس من العمر قد افترش أرض رصيف أحد الفنادق المطلّة على هذا الشارع المركزي. كان نحيفاً دون أن يكون نحفه خارجاً عن الطبيعي أو المألوف, حنطي الجلد, يوحي شكله بأنه من الغجر الرومان الذين قدموا إلى اسبانيا تدريجياً خلال السنوات العشر الأخيرة, و قد زاد عددهم بشكل كبير مؤخراً نتيجة نزوحهم من إيطاليا هرباً من سياسة المتصابي الوقح برلسكوني و حلفائه الفاشيين الجدد, ذو شعرٍ أسود قد بدأ الشيب ينتشر فيه كتلك الأعشاب ذوات الأزهار الصفراء الصغيرة التي تظهر في حقول القمح بين السنابل أوائل الرّبيع, يرتدي قميصاً ذو لونٍ داكنٍ و بنطلوناً رمادياً مرفوعٌ عن رجله اليسرى إلى ما فوق الرّكبة كاشفاً عن ساقٍ نحيلة جداً بجلدٍ محروثة بعلامات القطب و آثار خياط الجروح, و تحت الرّكبة مباشرةً انتفاخٌ كبيرٌ يبدو و كأنه أثر كسرٍ رديء الجبر, و أسند على رجله الأخرى لوحةً كرتونيّة ذات بياضٍ عجوزٍ مكتوبٌ عليها بالأسود بخطٍّ سيء حاول كاتبه أن يكون واضحاً بتكبير حجمه و مباعدة حروف كلماته:” أنا معوّق دون دخل و لديّ عائلة أطعمها, أفضّل التسوّل على أن أسرق”, و بجانب الكلام صورة الطفلين, و قد جلّد اللوحة و الصّورة بورقٍ بلاستيكي شفّاف من ذلك الذي يستخدم في تجليد الكتب, و أمام تلك اللوحة النمطية (أقول أنها نمطيّة لأن الكثير من المتسوّلين و خصوصاً من الغجر الرّومان يستخدمها, بعبارات متشابهة و دائماً برفقة صور أطفال) وضع قبّعةً صوفيّة ملوّنة مقلوبة, بداخلها بعض القطع النقدية من الفئات الصغيرة.
لم يكن ذلك الرّجل ينادي شيئاً أو يستجدي إحسان المارّة أو يشكر من يعطيه شيئاً و يدعو له بالتوفيق و السعادة و العمر المديد على عادة المتسوّلين, بل لم يكن ينظر إلى المارّة إنما إلى الأرض, دون أن يحرّك نظره. وقفت بالقرب منه دقيقتين أو ثلاث أنظر إلى واجهة محل تصوير, ثم بحثت في جيوبي عمّا أحمله من “صرافة” أو “فكّة” على رأي الإخوة المصريين و وضعت قطعتين صغيرتين في القبعة المقلوبة. ربما أعطيته لأنني كنت أريد أن أدفع له ثمن “الفرجة”, و حاولت أن أرى عينيه بينما كنت منحنياً لأضع النقود لكنني لم أفلح, فقررت عندها أن أتركه و شأنه و وقفت في زاوية الشارع بعيداً عنه بأمتار عديدة.
لم تكد تمرّ دقائق خمس حتى ظهر عنصر من الشرطة المحلّية بزيّه الأزرق المميّز و وقف أمام المتسوّل ينظر إليه دون أن يقول له شيئاً, فرفع المتسوّل رأسه و سرعان ما فهم من وقفة الشرطي أن عليه أن يغادر المكان, فحمل أغراضه ببطء و انطلق يعرج بمشيته في الاتجاه المعاكس لمكان وقوفي, و عندما رأى الشرطي أنه استطاع تنفيذ مهمته بنجاح غادر هو الآخر المكان, و حين أعدت النظر في الاتجاه الذي كان قد مشى المتسوّل فيه رأيته قد افترش الأرض مرّة أخرى في مكانٍ لا يبعد عن مكانه السابق أكثر من عشرين أو ثلاثين متراً, و كان قد وضع اللوحة و القبعة أمامه و عاد بنظره إلى أحجار الشارع و كأنه يقرأ خطوط شقوقها.
لم أعرف لحظتها ما كنت أفكر و أشعر و أنا أنظر إلى هذا المشهد, فكرت بدايةً بتصرّف الشرطي و رأيت فيه إنسانيّة جديرة بالذكر, فهو ينفّذ الأوامر بمنع التسوّل في الشوارع, و قد حاول تنفيذ عمله دون قسوة أو حزم مبالغ بل اكتفى بالوقوف أمام الرّجل و إفهامه بوجوده أنه لا يستطيع المكوث هنا, و صبر على الرجل حتى رآه و وقف و لملم أغراضه قبل أن يمضي. لكنني في الوقت نفسه لم أفهم ما هو المزعج في وجود ذلك الرجل هناك, فلم يكن يزعج أحداً, و كان قد اعتنى بالجلوس أمام حائط أصم و ليس أمام محل أو مدخل بناية, لكن القانون يمنع التسوّل و يجب تنفيذه.. لكن لماذا هذا القانون؟
الإجابة الطبيعية في هذه الحالات, على الأقل في هذه البلاد, هو القول أن هناك خدمات اجتماعية أساسية تقدّمها البلدية أو الحكومة الإقليمية أو بعض الجمعيات الخيرية الدينية منها و غير الدينية, و من ضمن هذه الخدمات الأكل و بعض الملبس و أحياناً المبيت, بالإضافة إلى السعي لمنح مساعدات اجتماعية مالية و خدمية, نعم هذا صحيح و هذا العمل الاجتماعي ملموس و تحت بصر الجميع, لكن حتى بوجود هذه الخدمات ما المشكلة في المتسوّل؟ هل المشكلة في أنه فقير أم أنه يتسوّل؟ أم أننا بطبيعتنا ندافع عن نفسنا أمام هجمات تأنيب الضمير و نرفض أن نقبل التسليم بأن المتسوّل فقير محتاج و ننظر إلى اتجاه آخر بتقوية احتمال أن يكون نصّاباً و محتالاً.
أذكر أنه منذ سنوات عديدة ألقت الشرطة في سوريا القبض على متسوّلة عجوز, و عثروا بحوزتها على مبلغ مالي كبير لا أذكره الآن, و كتبوا عنها أنها كانت تقود عصابة من المتسوّلين و تدير انتشارهم في المناطق الحسّاسة, و كانت تستأجر الأطفال حتّى كي تجول بهم بعض النساء باحثات عن عطف المارّة و مساعدتهم, و قد انتشر هذا الخبر في عدد كبير من وسائل الإعلام و كأنه خبر انتصار أكثر من كونه طرفة أو حادثة خارجة عن المألوف, و أعتقد أن أي خبر كشف عملية نصب و احتيال في المستويات العالية لم يكن ليحظى بكل هذه التغطية و الاهتمام من الإعلام, و أتساءل في هذا الخصوص إن كان تلّهف الإعلام لنقل هكذا حادثة أو حوادث مشابهة ناتج عن حاجة لدينا, في عقلنا الباطن, لإقناع أنفسنا أن هؤلاء المتسوّلين الذين نراهم كلّ يوم هم لصوصٌ محتالون و بالتالي يحق لنا أن نشمئز منهم و أن نتجاهلهم أو نطردهم من أمام منازلنا و محلاتنا شرّ طردة دون تأنيب ضمير, بل أننا نسدي للمجتمع معروفاً بمكافحة هؤلاء النصّابين.
على سيرة “مكافحة”.. من المصطلحات التي تثير اهتمامي, و ربما استهجاني, هو مصطلح “مكافحة التسوّل”, الذي تستخدمه السلطات المحلّية عادةً كنايةً عن تسيير دوريات لطرد المتسوّلين من الشوارع و ربما تقبض عليهم و تودعهم السجون, و يحتاج هذا المصطلح وقفة مطوّلة باعتقادي لأن طريقة استخدامه لا تتعدى السطح الخارجي لمعضلة اجتماعية عميقة جداً: عندما تكافح التسوّل بمنعه و طرده من الشارع فأنت تكافح النتيجة و ليس السبب الأساسي الذي هو الفقر, و الفقر معضلة اجتماعية مزمنة و خطيرة, ذات نتائج مدمّرة على المستوى الفردي و الجماعي, و هو مرض اجتماعي ذو علاج صعب جداً خصوصاً عندما يكون لأصحاب الشأن أولويات أخرى مختلفة عن صحّة المجتمع الذي يديرون و رفاهيته, و لأن علاج الأصل صعب يتّبعون أسلوب إخفاء أقل كلفة و أسهل بكثير و هو مسح النتيجة, و التسوّل نتيجة من نتائج الفقر قطعاً, و لولا وجود الفقر في المجتمع لما وُجد التسوّل, حتى لو كان تسوّلاً مزيّفاً أو شبه مزيّف لأنه لو لم يوجد الفقير الحقيقي لما وُجد الفقير المزيّف (في حال وجوده أساساً) و بالتالي فإن تصوير التسوّل فقط كأسلوب نصب و احتيال بدل اعتباره نتيجة للفقر هو أسلوب يرضي الجميع لأنه يناسب آلية دفاعنا عن نفسنا و إراحة ضمائرنا… فلا نقع في الشفقة و الحزن لرؤية متسوّل عجوز أو متسوّلة تحمل طفلاً لأننا لا نصدّق أن هذا فقر حقيقي.. و نستطيع أن ننظر في اتجاه آخر بكل أريحية.
إن هذه المعادلة الاجتماعية هي التي تجعلنا, كسكّان و مارّة و أصحاب أعمال, نرى باستحسان أن تمر الشرطة و تطرد المتسوّلين بدل أن نتساءل عن مسؤولية الدولة و مسؤوليتنا كمجتمع عن وجودهم أساساً.
تحدّثت عن هذه المسألة مع أحد الأصدقاء في سوريا منذ فترة, و ناقشنا إمكانية أن يكون للنظرة الدينية للتسوّل أثر فيما نتحدّث, فالإسلام يحرّم التسوّل, و بالتالي ربما من الطبيعي أن تنظر مجتمعاتنا ذات الأغلبية المسلمة إليه كظاهرة مشينة, و هذا برأيي نصف حقيقة, و نصف الحقيقة هو نصف كذبة أيضاً. من الصحيح أن الإسلام قد حرّم التسوّل, لكنه ربط هذا التحريم بشكل منطقي بوجود نظام تكافل و تضامن اجتماعي متماسك كنظام الزّكاة, و نظام التكافل الاجتماعي هذا غائب في مجتمعاتنا أو شبه غائب, فأنشطة الدولة الاجتماعية صغيرة جداً و ذات إمكانيات ضعيفة, و المبادرات الأهلية أيضاً لا تكفي لسدّ و لو جزء بسيط من متطلبات الفئة الفقيرة في مجتمعاتنا, و هي فئة تكبر عاماً بعد عامٍ بسرعة مخيفة جداً, ربما بنفس الوتيرة التي يزداد فيها ثراء الأقلية الثرية.. و يزداد جشعهم أيضاً.
تناقش هذه السطور مسألة اجتماعية معقّدة و خطيرة, و أعتقد أن علاجها مسؤولية عامّة تمسّ كل شخصٍ فينا كما تمس المنظومة الاجتماعية بالكامل و الجهة التي تديرها: الدولة. و ربما لا يكون الإحسان إلى المتسوّلين فقط حلاً ملائماً لها.. لكن المؤكد هو أن ارتداء درع التجاهل و الدفاع عن الضمير بنفي الواقع ليس حلاً أبداً… بل هو جزء من المشكلة, و لعلّه الجزء الأساسي فيها.
ختاماً, و دون أن أبغي إعطاء دروسٍ لأحد.. أتمنى لو ننتبه إلى أنه هناك عيدٌ على الأبواب.. و بادرة إحسانٍ من قبلنا قد لا تكلّفنا شيئاً, لكنها ربما تكون صانعة بسمة العيد لطفل.. و ما أجمل بسمات الأطفال !
و كل عام و أنتم بخير..
..
مع جزيل الشكر لمدوّنة طباشير على مساهمتها بالصّورة المدرجة أعلى المقالة.

http://www.syriangavroche.com/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى