المعاهدة» بين بغداد وواشنطن: بوادر عراق جديد وسط تهديدات هائلة
حازم الأمين
ما يردده مسؤولون عراقيون هذه الأيام، عن قضية المعاهدة الأمنية لتنظيم وجود الجيش الأميركي في بلدهم، يتجاوز تفاصيل هذه المعاهدة والنقاش بين طرفيها حول بنودها. فحديث هؤلاء يشمل أيضاً المواقف العربية والإسلامية من تلك المعاهدة. وهم عندما يشيرون الى هذه المواقف تستيقظ فيهم مرارة سوء التفاهم الشديد الالتباس بينهم وبين العرب والمسلمين. فالمعاهدة التي يسعى الجانب العراقي فيها الى انتزاع حق فعلي في إدارة الوجود الأميركي في العراق وضبطه بالقانون العراقي، وضمان عدم تهديده دول الجوار وغير الجوار، دخلت الى الوعي العربي والإسلامي مجدداً بصفتها انتكاسة لـ «السيادة» العربية، وهضماً لحق العراقيين في إدارة شؤون بلدهم، وفي هذا الافتراض والإدعاء تعسف وافتراء لطالما أصاب العرب والعجم بهما العراقيين.
المعاهدة في مضمونها العام هي نقل للعراق من الوصاية الدولية، عبر الوجود الأميركي فيه، الى وصاية عراقية دستورية تتولى إدارة الوجود الأميركي وتثبت علاقة بهذا الوجود يرعاها مجلس نواب منتخب وتتولى حكومة، منبثقة من هذا المجلس، تطبيقها. أما تفاصيلها، فالشيطان الذي في التفاصيل هو شيطان عراقي أيضاً. المفاوض العراقي أنهك المفاوض الأميركي لجهة تحديد ثوابت وطنية وإقليمية في بنود هذه المعاهدة. رئيس الوزراء الشيعي نوري المالكي تسلح في مفاوضته الأميركيين بالتحفظات الإيرانية عليها، وكذلك بتحفظات أطراف سنية عراقية وغير عراقية. فعل ذلك أيضاً وزير الخارجية هوشيار زيباري، إذ أن كردية الرجل دفعته الى تبني التحفظات العربية وإدخالها في حسابات المفاوضة حول المعاهدة. ونجم عن ذلك كله تأخير واضح في إقرارها، إذ أن الأميركيين اكتشفوا ان المهمة ليست سهلة وانهم أمام خبرات عراقية مستجدة في مجال فهم المصالح الداخلية والإقليمية لبلدهم.
كل هذا لا يبدو مهماً في طريقة استقبال النخب السياسية العربية والإسلامية سواء الحاكمة أو المعارضة. ومن الواضح ان إيران شكلت رأس حربة المواجهة مع المعاهدة العراقية – الأميركية، وحساباتها في هذه المواجهة إيرانية صرفة على رغم سعيها الى إعطاء المواجهة بعداً عراقياً أحياناً وشيعياً في أحيان أخرى. الحساب الإيراني الفعلي يتمثل بالمخاوف من استعمال الأراضي العراقية في أي مواجهة بين إيران والولايات المتحدة الأميركية، وهو أمر حاول المالكي خلال زيارته إيران تبديده من خلال التعهد بأن تتضمن المعاهدة بنوداً تمنع الولايات المتحدة من استعمال قواعدها في العراق في أي مواجهة خارج حدود ذلك البلد. لكن التحفظ الإيراني لم يقف عند حدود هذه البنود، وهو ذهب بعيداً الى حد رشوح أخبار عن خروج المسؤولين الإيرانيين عن لياقات الاستقبال خلال زيارة المالكي طهران. اذ يبدو ان الطموحات الإيرانية في العراق لا ترتبط فقط بضمانات من هذا النوع، فالعراق مدخل النفوذ الإيراني الى المنطقة العربية برمتها، والمعاهدة قد تؤدي الى الحد من هذه الطموحات، خصوصاً إذا ما قرن هذا الافتراض بما جرى في العراق في الأشهر القليلة الفائتة من حملات على الجماعات الموالية لطهران والتي نفذتها قوى نظامية عراقية مدعومة بأحزاب شيعية يقودها رئيس حكومة لا يمكن لطهران ان تشكك في «شيعيته».
استحضرت طهران كل أدوات المواجهة مع الرغبة العراقية في توقيع معاهدة تنظم الوجود الأميركي في العراق. فأطلق حملة المواجهة الأمين العام لـ «حزب الله» في لبنان السيد حسن نصرالله، فاستفادت (طهران) من ما يمثله الرجل في ما يسمى «الصراع العربي – الإسرائيلي»، فصرف الأخير من هذا الرصيد وضم «المقاومة العراقية» الى جنة المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، مغامراً بما قد يلحقه هذ الضم بـ «مقاومته» من سمعة وشبهة ارتباط «المقاومة العراقية» في الوعي الشيعي العراقي بأعمال طائفية وقع عراقيون كثر ضحاياها.
لكن التحفظ على المعاهدة العتيدة لم يقتصر على طهران، فقد تولت منابر إعلامية عربية و «قوموية» التلويح بمواجهة هذه المعاهدة، وهنا تنتقل المرارة العراقية من ميدانها الإيراني الى عمقها العربي، فيستحضر المسؤولون العراقيون في جلساتهم تجارب دول ترعى هذا الإعلام في استقبالها قواعد أميركية من دون ان يكون لمؤسساتها الدستورية دور في تنظيم هذا الوجود. فالمفاوض العراقي درس عدداً من تجارب استقبال قوات أميركية في الكثير من الدول، والمفاوض الأميركي واجهه بحقيقة «ان دولاً شقيقة لكم» لم تواجهنا بشروط لإقامة قواعد على أراضيها. وأشار أحد المفاوضين العراقيين أثناء حديث مع صحافي في قناة «الجزيرة» القطرية الى الفارق بين الوجود الأميركي في العراق بعد المعاهدة والوجود في قاعدة السيلية في الدوحة، مؤكداً ان تهديد أي دولة مجاورة من قبل القواعد في العراق سيكون منعدماً بفعل المعاهدة، في حين ان الوجود في السيلية لا تحده أي ضوابط أو معاهدات.
المتحفظون «السياديون» على توقيع المعاهدة يرمون العراقيين ببديل يمثل انتحاراً بالنسبة للأخيرين، إلا وهو «انسحاب أميركي فوري من دون قيد أو شرط». وأول من شعر بخطورة هذه الدعوى وعدم منطقيتها هم السنة العرب العراقيين الذين لطالما استند «السياديون» أو «الممانعون» الى ظلامتهم في رفض التجربة العراقية الجديدة. وأدى رفض ممثلي السنة العراقيون هذه الدعوى الى تأسيس بيئة مصالح عراقية في مواجهة الطموحات الإقليمية في العراق، فأُدخلت حساباتهم في المفاوضة، وأعطوا دفعاً وطمأنينة من خلال الحملة على النفوذ الإيراني، وعقدت مصلحة عراقية لطالما تعثر عقدها في السنوات الخمس الأخيرة.
المشكلة بالنسبة الى العراقيين تتمثل بقناعتهم بأن مصادر التحفظ العربي والإسلامي لإقدامهم على توقيع المعاهدة ليست بطبيعة الحال نابعة من حرص على السيادة العراقية التي لم تبد معظم دول المنطقة حرصاً عليها، بل هي ناجمة عن مصالح معقدة تفضي جميعها الى رغبة في عدم استعادة العراق عافيته، وفي بقائه ساحة تصفية حسابات بينية أولاً ومع الولايات المتحدة الأميركية ثانياً. ويترافق الشعور العراقي هذا مع تبلور ميل لدى النخب الحاكمة في العراق اليوم الى توظيف التناقضات العربية والأميركية وعدم الانخراط فيها. يعكس ذلك براغماتية تمتعت فيها الديبلوماسية العراقية في الأشهر القليلة الفائتة، وتجنب الحكومة الانزلاق في اصطفافات إقليمية قد تطيح التجربة الجديدة في هذا البلد. على هذا النحو مثلاً يمكن تفسير زيارة المالكي طهران ثم عمان وإعلانه من الأخيرة عن طبيعة الصعوبات التي تواجه حكومته في المفاوضات مع الأميركيين. وفي نفس الوقت إعلان زيباري من نيويورك ان المفاوضات حول المعاهدة مستمرة وتحقق تقدماً وان بطيئاً. فالسنوات الخمس من عمر التجربة العراقية أكسبت الإدارة الحكومية المركبة والمعقدة خبرات لا شك أنها توظف اليوم على نحو إيجابي في مستقبل العراق.
كل هذا لن يبعث على الراحة في نفوس كثيرين في دول الجوار. تجربة عراقية لا تعوزها البراغماتية، ومن الصعب الطعن في تمثيلها الطائفي والوطني، وأثبتت في المفاوضات مع الأميركيين مدى تعبيرها عن مصالح العراق في استعادة سيادته، كل هذا يشكل تهديداً للكثير من المصالح الإقليمية التي تحيط بذلك البلد، خصوصاً اذا ترافقت مع صعود هائل في أسعار النفط ومع احتمالات ازدهار وتقدم.
تلوح هنا مرحلة في التاريخ العراقي عقدت فيها مصالح الجماعات المحلية حول حسابات وطنية. انها المرحلة التي سبقت تحويل الانتداب البريطاني في عشرينات القرن الفائت الى وجود عسكري بريطاني خاضع للحكومة العراقية عبر معاهدة لتنظيم هذا الوجود وإخضاعه لشروط تقترب أحياناً من الشروط التي تضعها الحكومة العراقية اليوم للوجود الأميركي. وهنا تتعزز ملاحظة حازم صاغية المتمثلة في التشابه بين دوري النوريين (نوري السعيد ونوري المالكي) على ما في بين الرجلين من فروقات، فنوري السعيد الذي كان عقيداً في الجيش العراقي في حينها كان أحد المفاوضين الذين أرسلهم الملك فيصل الى لندن للمشاركة في المفاوضات. وفي حينها بدا ان العراق تقدم على مصالح طوائفه وجماعاته وباشر تجربة دستورية لم يُكتب لها عمر طويل، اذ افتتح عبد الكريم قاسم زمن الانقلابات والـ «ثورات» التي أوصلت لاحقاً البعث الى الحكم.
طبعاً لا يمكن القول اليوم إن الجنة توشك ان تحل على العراق، ومن المؤكد ان التجربة ما زالت مهددة، خصوصاً في ظل المصالح الهائلة التي تحيط بها. الفساد مستشرٍ من دون شك، والاحتقان الطائفي لم يُطفأ بعد، والارتباط بدول الجوار أمر تُقدم عليه كل يوم جماعات وأحزاب. لكن ثمة ما يلوح وسط كل هذا الدمار. السنة العرب تولوا تصفية تنظيم «القاعدة»، والشيعة باشروا حملة على النفوذ الإيراني، والأكراد يديرون ملف الأزمة مع تركيا بقدر من العقلانية والهدوء، والخلاف بين الجماعات الثلاث حول معاهدة تنظيم الوجود الأميركي ليست شاسعة ومن الممكن حسمها في البرلمان. انها بوادر قيام عراق جديد… من دون إغفال التهديدات الهائلة من مصادر مختلفة.
الحياة – 06/07/08