مصير الحلم الجمهوري
برهان غليـون
دعيت في الرابع عشر من يونيو الماضي للمشاركة في ندوة عنوانها “جمهوريون من دون جمهورية”، نظمها “مركز الدراسات الأوروبية”
و”مركز الدراسات الدولية” في سانت إدوارد هول، بجامعة أكسفورد. شارك في الندوة باحثون وأساتذة جامعيون من بريطانيا وخارجها. وقد لخص “كنتين سكينر”، وهو من كبار المختصين بالفكر السياسي والمدافعين عن فكرة الجمهورية في العالم، معنى الجمهورية بأمرين: الفرد الحر والدولة الحرة. يعني الفرد الحر أن يكون المرء مستقلاً بنفسه، لا يخضع لأي إكراهات أو ضغوط في خياراته. وبالتالي أن يشارك في كل ما يتعلق بشؤون المجتمع حسب قناعاته واجتهاداته. وأن تكون الدولة حرة يعني أن تكون ذات سيادة لا تسمح لأي طرف خارجي أن يتدخل في تكوين إرادة المجتمع الذي تضمه أو في بناء إرادة عامة من خلال اختيارات الأفراد الأحرار أنفسهم. فسيادة الفرد وسيادة المجتمع وجهان لأمر واحد هو السياسة بوصفها مشاركة شعبية شاملة، وإطاراً يعبر عن إبداع الناس أنفسهم، أفراداً وجماعة، لحياتهم المدنية وتنظيمهم شؤون وجودهم كما يرونها. فمن دون دولة سيدة، تبقى إرادة المجتمع العامة مرتهنة لضغوط خارجية، ومن دون حرية واستقلال فرديين لا تكون هناك مشاركة حقيقية للأفراد في تكوين نظامهم السياسي والاجتماعي، وبالتالي لا حرية ولا حياة قانونية. فالجمهورية والسياسة المدنية صنوان لا انفصال بينهما.
وبهذا المعنى تشكل الجمهورية الأم الحاضنة للديمقراطية. وما كان من الممكن القضاء على إرث الملكية وأساطيرها المثيرة وتحطيم الشرعية التاريخية التي بنتها لنفسها مع مرور الزمن، من دون الحماس الذي أثارته فكرة الجمهورية، قبل الثورة الفرنسية وبشكل خاص بعدها، أي فكرة أن يكون الأفراد أحراراً ومتحررين من أي ضغط، وأن يكون لهم وحدهم حق اختيار ما يجدونه مناسباً لحياتهم المشتركة، أي أن يبنوا نظاماً اجتماعياً ومجتمعاً قائماً على العقل ومستمداً قوته من التفاهم والتضامن والتواصل والاعتراف المتبادل وبالتساوي بين جميع أعضائه.
وبالمقارنة، كانت الملكية تبدو نظاماً مشابهاً لقوانين الطبيعة، يولد الفرد فيه رعية من رعايا السلطان، وتابعاً لإرادته، وخاضعاً لإكراهات أعوانه، يؤمن بأن الملك هو صاحب الولاية والسيادة بعد الله، وأحياناً يوحد بين إرادتيهما، ولا يحلم بشيء سوى نيل رضا الله والملك والوالدين، أي أصحاب السلطة الموروثة والمكرسة. وليس هناك من يقيد إرادة الملك أو يمنعه من العمل مع ملك آخر أو تحت إمرته إذا ضعفت أحواله، متجاوزاً بذلك أي مفهوم لسيادة الدولة والمجتمع الذي يخضع لقوانينها. الملك هو الدولة والسيادة في الوقت ذاته، ولا توجد سياسة ولا سيادة خارج سلطته وصلاحياته. ولهذا ليس من المبالغة أن يربط المؤرخون بين الجمهورية والثورة السياسية، أي بين قتل الملك وتحرير الشعب أفراداً وجماعة في الوقت نفسه. ليس في تقرير ذلك أي مشكلة.
لكن، وكما ذكرت في مداخلتي، ينبغي التمييز بين ما هو من باب الوعي والمثال والحلم، وبين الواقع التاريخي العملي. فليس هناك فكرة يمكن أن تفصل عن شروط إنتاجها. وقد تقود أحياناً في شروط أخرى إلى عكس ما كانت ترمي إليه. وفحص حقيقة الجمهورية اليوم، أي بعد أكثر من قرنين على ولادتها، يشير إلى أمرين متناقضين. الأول هو قوة الفكرة وانتشارها بحيث لم تعد هناك إمكانية للتفكير في السياسة، وبالتالي في قيام المجتمعات واستقرارها، من دون مراعاتها أو استلهامها والتوافق معها. والثاني هو تراكم الدلائل على استهلاكها وتفريغها من مضمونها، بل واستغلالها لإقامة نظم تهدف بالضبط إلى عكس ما كان يقصد منها. فمن أصل 194 بلداً، تحكم النظم الجمهورية 135 منها، بينما لا يزيد عدد النظم الملكية اليوم عن 22 نظاماً، وتضم التسعة الباقية نظماً اتحادية متنوعة. لكن بالمقابل لا نبالغ إذا قلنا إنه لا يوجد هناك ما يجمع اليوم بين النظم الجمهورية التي أطلقت على نفسها اسم النظم الاشتراكية، كما في دول الكتلة السوفييتية السابقة، أو نظم الديمقراطيات الشعبية التي سادت في أوروبا الشرقية وبعض بلدان آسيا بما فيها الصين وبعض الدول العربية والأفريقية، والتي أصبحت تصنف جميعاً، بعد انهيار جدار برلين عام 1989، كنظم شمولية، والنظم الليبرالية على اختلاف أنواعها. وحتى داخل هذه الأخيرة ليس هناك ما يجمع نظم أوروبا الغربية وما شابهها من الديمقراطيات الحديثة ونظم ليبرالية اقتصادياً، لكنها بعيدة كلياً عن الأخذ بمعايير الحرية والمشاركة الشعبية.
وبشكل عام، أعتقد أن تطبيق فكرة الجمهورية في مجتمعات لم تتوفر فيها شروط الحرية الفردية، أي لا تزال ثقافة الإمعية القرسطوية والاتكالية والتسليم للقوى الخارجية، الإلهية (القدر) أو العالمية (الدول الكبرى الراعية والوصية)، أو المحلية (الزعماء الملهمين من كل الأنواع)، ولا تملك عملياً شروط السيادة الجماعية، أي لا تملك دولها صفة السيادة الفعلية، ولا تستطيع بمواردها أن تضمن تلك السيادة… لعبت الجمهورية دوراً معاكساً تماماً لما قامت به في مجتمعات ولادتها الأصلية. فقد قادت إلى أمرين متضامنين: تسريع وتيرة مراكمة السلطة والقوة وتعظيمها لدى النخب أو الفئات الحاكمة، وتعميق تلاحم هذه النخب والفئات وتفاهمها واتحادها مع القوى الدولية السائدة. وكانت النتيجة تقليص حرية الأفراد، أكثر مما كان في المجتمعات الملكية بكثير، وانتزاع ما بقي منها من حريات مدنية ودينية قديمة، وإحلال مفهوم الدولة التابعة والعاملة في نطاق استراتيجية الدول الكبرى محل مفهوم سيادة الدولة أو الدولة السيدة الحرة. وكان من الطبيعي أن تتحول الجمهورية في العديد من البلدان التي طبقتها، بل في معظمها، إلى ملكية مقنعة، يحتل فيها الزعيم الخالد محل الملك، سواء نجح في توريث أولاده السلطة أم لم ينجح، ويتحكم فيها أصحاب الملكية والمال والسلطة، أي النخبة السائدة، بمصير البلاد وسيادتها ويتفاوضون عليها مع الدول الكبرى ذات المصالح والاستراتيجيات الكونية من أجل تعزيز موقعهم، أو انتزاع الاعتراف لهم بما يشبه حق الملكية الإقطاعية في بلدانهم وقبولهم بسياساتهم تجاه شعوبهم، مهما كانت المعايير التي يطبقونها في حكمها مخالفة لمبادئ الحق والعدالة والمساواة والقانون. وهذا ما يفسر كون النخب المحلية لا تتردد في رفض تطبيق معايير الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتعتبر أنها ليست معنية بها وأن مجرد التذكير بها يشكل تدخلاً في شؤونها الداخلية، وانتقاصاً من سيادتها الوطنية. فالسيادة هنا لا تنطبق على المجتمع والشعب وإنما على النخب الحاكمة وحدها، والانتقاص منها لا يتم ولا يدرك إلا عندما يتعلق الأمر بقضايا الحرية وتطبيق القانون والعدالة والمساواة الداخلية. أما عندما يتعلق الأمر بتوقيع تفاهمات وأحياناً معاهدات حماية أو وصاية وصفقات مع الدول الكبرى، أو عندما تحتل أراضي هذه الدولة أو تلك وتضطر إلى التخلي عنها، فليس هناك انتقاص من السيادة ولا تهديد لأمن الدولة ولا لاستقرارها.
ليست الفكرة الجمهورية هي المسؤولة عن ذلك بالتأكيد. فكل أفكار التحرر والانعتاق الكبرى تتحول إلى طوبى وتصبح أداة استلاب للأفراد والإرادات عندما لا تجد في التاريخ شروط تحقيقها العملي.
الإتحاد