سورية: صيدنايا بين جمالية المكان وقباحة الممارسة
د. عبد الباسط سيدا
من المفارقات الكبرى بالنسبة إلى مدينة صيدنايا الشهيرة بطبيعتها الخلابة، وطيبة أهلها الذين ما زالوا يتحدثون اللغة التي يعتقد أن السيد المسيح قد تحدث بها، أنها أجبرت على القبول بإقامة أكبر سجن في تاريخ سورية الحديث على أراضيها. ومن الواضح أن الزمرة المتحكمة بسورية قد أرادت بذلك بلوغ أمرين في الآن نفسه؛ أولهما، تغليف ممارساتها القبيحة بجمالية المكان. أما الثاني، وربما هو الأخطر، فهو الاستهزاء بذاكرة الناس نفسها التي كانت صيدنايا بالنسبة إليها عنوان التلاقي بين روعة الطبيعة والصفاء الروحي؛ حتى باتت صيدنايا من بين الأماكن المختارة التي يحرص كل مواطن أو سائح على زيارتها – في حال توفر الفرصة- وذلك للاستمتاع بمعايشة التاريخ السالف حاضراً يجري في شوارع وأزقة المدينة، وبيوت أهلها الكرام.
الفارق بين جريمة سجن صيدنايا وغيرها من الجرائم التي ترتكب في السجون الكثيرة العلنية منها والسرية التي أنشأتها الزمرة الحاكمة في سورية، خاصة ما يسمى بسجن فرع فلسطين، هو وصول أنباء جريمة السجن الأول إلى الإعلام، بعد أن فقد زبانيته زمام السيطرة، وعجزوا عن كتم الأفواه بالقوة، كما كانوا يفعلون دائماً؛ الأمر الذي دفع بهم إلى طلب عون قمعي من خارج السجن، مما تسبب بدوره في وقوع العشرات من الضحايا بين قتيل وجريح؛ ولعل اللافت في الموضوع هو الإصرار السلطوي على اعتماد الحل الأمني دون غيره في حل القضية التي تُعد السلطة – الحاكمة بالقوة- ذاتها أساس نشوئها وبروزها أصلاً؛ فالسجن المذكور يضم بالدرجة الأولى المعتقلين السياسيين من سائر أطياف المجتمع السوري واتجاهاته، المناهضين لعلمية اغتصاب السلطة، والمطالبين بالشرعية الوطنية عبر اعتماد مشروع عقد وطني، يتم بموجبه اختيار السلطة من الشعب الحر مباشرة؛ سلطة لا تكون فوق القانون والمحاسبة؛ بل سلطة شفافة، مستعدة للمساءلة في أي وقت كان أمام برلمان منتخب وفق نظام نسبي عادل، بعيداً عن قوائم الفرض والظل وغير ذلك من الألاعيب الأمنية التي تستهدف إفراغ جميع المؤسسات من مضامينها الفعلية، والاكتفاء فقط بالأسماء، من باب التبجح والتشدق. إن ما يجري اليوم في سجن صيدنايا إنما هو صورة مركّزة لما يحدث في الداخل السوري بأكمله. سلطة مدججة بالسلاح، تمتلك المال والإعلام، تقف في مواجهة ضحايا لا حول لها ولا قوة سوى الإصرار على الكرامة، والرغبة في منشود أفضل. سلطة تمارس التجويع، وتنزع الحرية، وتقتل وتهدد بارتكاب المزيد من الجرائم. تذكّر الناس بسجلها الأسود في تدمر وحماة وجسر الشغور وقامشلي، وغيرها من المدن السورية.
إن ما يحدث اليوم في سجن صيدنايا يؤكد بما لا يقبل الجدل أن السلطة السورية قد حزمت أمرها؛ وباتت قريبة أكثر من أي وقت مضى من صفقة جديدة مع دوائر القرار الاقليمية والدولية، للحصول على عقد سلطوي جديد يطلق يدها في الداخل، مقابل التزامات تتناسب مع طبيعة المرحلة، والمتغيّرات المستجدة في المنطقة والعالم.
ولعل هذا ما يفسر استخفاف السلطة بإرادة الشعب السوري المغلوب على أمره منذ ما يزيد على أربعة عقود. فالسلطة المعنية هنا لا تتوانى عن اعتقال أي كان (عارف دليلة- ميشيل كيلو- كمال اللبواني- فداء الحوراني- رياض سيف وغيرهم من أحرار سورية ونبلائها القابعين في سجون الزمرة السوداء)؛ وتغييب أي كان أو قتله إذا اقتضى الأمر (الشيخ معشوق الخزنوي- غازي كنعان- عماد مغنية- والشباب الكرد في قامشلي والجيش السوري، وغيرهم من أبناء سورية. أما في لبنان فحدّث ولا حرج). سلطة أفقرت الناس حتى العظم، وفرضت عليهم الغلاء الفاحش، ليكون الجميع في انشغال دائم بحثاً عن اللقمة الكريمة؛ مما يمكّن الزبانية من إحكام القبضة على سورية دولة ومجتمعاً، وسد منافذ الأخطار المحتملة التي ربما وضعت حدا لسطوتها وتفرعنها.
والأكثر ايلامية في اللوحة السورية القاتمة هو ما يتجسد في مواقف المعارضة السورية -بتياراتها المختلفة- غير القادرة حتى الآن على تحديد أولوياتها، لتتمكن بعد ذلك من تنظيم صفوفها وتوحيد جهودها. فهي معارضة ما زالت تلتزم ثقافة الاختلاف والتنافر؛ تقتات من المنظومة العقائدية ذاتها التي تتكئ عليها الزمرة الحاكمة في سورية في عمليات تسطيح العقول وتعمية الناس. شعارات هلامية ايهامية، كانت وما زالت مجرد ستار الغرض منه هو الانقضاض على المشروع الوطني.
تُرى هل ستكون أحداث سجن صيدنايا مقدمة لنهوض وطني كما نتمنى؟ أم أنها ستكون حلقة في سلسلة تمعن في إنهاك شعبنا السوري العزيز بكل انتماءاته كما نخشى؟!