دمشق، عاصمة المقتلة الجماعية
دلور ميقري
جاء إختيار دمشق ـ كعاصمة للثقافة العربية لعام 2008، نتيجة لتوافق الأحرف الأبجدية في تسلسل العواصم العربية، وليسَ لسبب آخر ؛ ثقافيّ مثلاً، والعياذ بالله! فأيّ مآثر للثقافة، أضافتها هذه المدينة، الأسيرة للإستبداد، كيما يحقّ لها الإفتخار، حقا، بذلك اللقب العتيد : أهيَ مأثرة كونها رهينة أطول فترة للأحكام العرفية، عرفها العصر الحديث؟ أم مأثرة كونها تنعم بنسبة فقر في نفوسها، لا يدانيها سوى دول متخلفة، محرومة تماماً من المصادر الطبيعية وثرواتها ـ كالصومال، مثلاً؟ أم ربما مأثرة كون الحريات العامة، من سياسية وإعلامية وفكرية، أضحتْ أكثر ندرة في سوقها من العملات الصعبة، والسهلة، المحتكرة لأهل السلطة، المحظوظين، وأبنائهم وأنسبائهم وأتباعهم وجواريهم؟ أم لكون خيرة مثقفي سورية، من كتاب وفنانين وصحافيين وأكاديميين، إما منفيين في جوانب أرض الله، الواسعة، أو رازحين خلف القضبان في سجون البلد العديدة، والمتكاثرة ـ كجراد الفساد، السلطويّ، المزمن في جوعه وجشعه؟
المقتلة الجماعية، المرتكبة مؤخراً في سجن ” صيدنايا “، قرب دمشق، وصلتنا أخبارها من محطات تلفزة عربية ودولية، فيما إعلام النظام السوريّ، الرسميّ ـ كعادته، بقيَ صامتاً بلا حياة ولا حياء! فحتى لحظة كتابة هذه الأسطر، لم يُتحفنا أبواق النظام، الممتقعو الوجوه، بإطلالتهم الكريمة، المزبدة المُرعدة، على أثير هذه الفضائية أو تلك ؛ مما يؤكد الأنباء المتداولة، غير الرسمية، عن إستمرار الأحداث المريعة في السجن المنكوب. وإذا ضربنا صفحاً عن الصمت المريب، من لدن أجهزة الحكومة السورية، فيما يخصّ الأحداث الجديدة، فالمرء لا بدّ ويُدهش من صفاقة الذهاب بكاميرا إحتفالية ” دمشق، عاصمة الثقافة العربية 2008 ” ـ كذا، لتتناهى حتى مشارف دير السيّدة، في بلدة ” صيدنايا “، الجميلة، نفسها. بينما جميع الطرق من وإلى الناحية تلك، المفضية للسجن ذاكَ، سيء الصيت، قد تم عزلها ومحاصرتها بوساطة الدبابات والآليات العسكرية، فضلاً عن وحدات الأمن والشرطة العسكرية. ولم تراعَ حتى مشاعر أمهات المعتقلين، المجهولي المصير، واللواتي دُفع بهنّ بفظاظة بعيداً عن أسوار السجن وبوابته الرئيسة.
بما أننا ما فتأنا، بعدُ، في وارد الإعلام، فلنذكّر بحقيقة تنطع الفضائية السورية، اليتيمة، وأخواتها الثلاث من الصحف الرسمية، الصفراء، بفيض غزير لا ينضب من الثرثرة ليلاً نهاراً عن ” إنتهاكات قوات الإحتلال الصهيوني في سجون الأرض المحتلة “، أو ” تدنيس جنود الإحتلال الأمريكي للمصحف في معتقل ” أبو غريب ” الخ.. فماذا عن سورية، نفسها : هل ما جرى، حتى اللحظة، في معتقلات النظام من وحشية تفوق الوصف والخيال، إلى تدنيس للمصاحف في سجن ” صيدنايا “، أخيراً، هوَ بفعل قوات إحتلال أجنبية، أم وطنية؟ وهل يملك بضعة ألوف من أبناء ” الجولان ” السوريّ، المحتل من قبل إسرائيل، حظوة إيصال معاناتهم لوسائل الإعلام من محلية وإقليمية ودولية، فيما يُنكر هذا الحقّ، بتاتاً، على عشرات الملايين من السوريين، الموضوعين على مائدة اللئام، الطواغيت، منذ خمسة وأربعين عاماً؟
مقامُ الإعلام، العربيّ، لا ينسَلخُ عن المقامات الديمقراطية، الأوروبية، التي تنافح عن حقوق الإنسان في العالم الثالث ومن منطلق مصالحها السياسية والإقتصادية، في أحيان كثيرة. هذا النفاق، الموصوف، صار ضرباً من المسلك اليوميّ، خصوصاً في تعامل الغرب مع الحالة السورية. ولن ندخل هنا، بطبيعة الحال، في متاهة هذه الحالة، الحاليّة، إن كان لجهة تقاطعها مع ملفات التفاوض مع إسرائيل أو الوضع المأزوم في العراق ولبنان وفلسطين. على أنه لا يمكننا، أيضاً، غضّ الطرف عن المحاولات الغربية، المغطاة إسرائيلياً، والساعية لفكّ العزلة عن النظام من خلال ” فكّ حبل ” المحكمة الدولية، الخاصّة بقضية الرئيس الحريري، المشدودة إليه عنقه. وليس سرّاً، طبعاً، أنه وبمجرّد الإعلان عن نجاح ” المساعي الحميدة ” للجيران الأتراك في المفاوضات بين دمشق وتل أبيب، أن نرى ” العقدة اللبنانية “، التي كادت تفجّر حرباً أهلية جديدة في موطن الأرز، وقد حلت على حين فجأة بيسر وسلاسة وشفافيّة!
بعد إخباتٍ متطاول، إعتدنا خبث مراميه، هوَ ذا بيان الناطق الرسمي، السوري، يتبجّح أخيراً بالقضاء على ما يسميه عصيان : ” عدد من المساجين المحكومين بجرائم التطرف والإرهاب في سجن ” صيدنايا ” العسكري “. نحن هنا، أيضاً، أمام واحدة من أوراق النظام السوريّ، التي دأبَ على اللعب بها في ” بوكر ” السياسة الإقليمية ؛ وأعني بها، مسألة الإرهاب. فبدون أن يرفّ لهذا النظام جفن خجل، يُسمّي أولئك المغرر بهم بـ ” المتطرفين والإرهابيين ” ؛ وهوَ نفسه من قام بتجنيدهم عبرَ أزلام التكفير، المرتبطين مباشرة بأجهزته الأمنية، الأخطبوطية، بهدف زرع الفوضى في دول الجوار، وكانت أبواقه الإعلامية تدعوهم حتى الأمس القريب بـ ” المجاهدين والمقاومين “! الآن، إذاً، تصحّ رؤية بعض المراقبين إلى ما كانت تقوم به أجهزة الأمن، بين حين وآخر، من حملاتٍ على أوكار أولئك المغرر بهم ؛ وهيَ الرؤية، التي كانت تصمُ تلك الحملات الأمنية بالتمثيليات، الدرامية، الهادفة إلى إمتصاص نقمة الغربيين، والأمريكيين خصوصاً، من تناهي دعم السلطة السورية للإرهاب في المنطقة. هكذا، وبضربة جديدة ـ كمجزرة سجن ” صيدنايا “، الحالية، تكون هذه السلطة قد قدّمتْ عربونَ صداقةٍ آخر للغرب، المُصاب بوسواس التطرف الإسلامويّ، الأصوليّ، تتوافق مع دعوتها إياه ليكون ” إشبين ” عرسها مع إسرائيل، والذي عقدَ نكاحه شرعاً فضيلة الشيخ أردوغان.
خاص – صفحات سورية –