صفحات ثقافية

فورة الفن التشكيلي السوري:

null

اللوحة السورية من 1600 ليرة الي مليون

دمشق القدس العربي ـ من أنور بدر : ربما يتذكر أغلب مثقفينا قصة الفنان العالمي فان كوخ الذي قايض إحدي لوحاته مقابل وجبة غداء في مطعم رخيص، لكن أغلبنا لا يعرف أن هذه القصة تكررت مع الكثير من جيل الرواد في الحركة التشكيلية السورية،
وربما بشكل مأساوي في بعض الحالات كرحيل لؤي كيالي، أو قصة الفنان السوري عمر حمدي الذي أحرق كل أعماله الفنية حين لم يجد زائراً في أحد معارضه، وذلك قبل أن يهاجر إلي ايطاليا، ويصبح أحد نجوم التشكيل في العالم والمعروف حالياً باسم مالفا .

استعدت الكثير من هذه التفاصيل وسواها وأنا أجوب في المعرض الاستعادي لمقتنيات وزارة الثقافة من أعمال جيل الرواد، والذي أقيم في المتحف الوطني في دمشق، حيث يمر الزائر أمام أعمال ميشيل كرشة، ناظم الجعفري، محمود حماد، لؤي كيالي، نعيم اسماعيل، ألفريد حتمل، فاتح المدرس وعشرات الأسماء الأخري التي غصت بها قاعات المتحف الوطني بدمشق، علماً بأن أغلب أعمال هؤلاء الرواد الذين رحل معظمهم، لم تكن تجد مشترياً لها خارج وزارة الثقافة في ستينات القرن المنصرم، حتي أن فناناً كبيراً كفاتح المدرس أهدي من لوحاته أكثر مما باع منها.

لكننا الآن وبالانتقال من المتحف الوطني في دمشق إلي غاليري الأيام في المزة فيلات سنكتشف المفارقة مع معرض مهم للفنانة أسماء فيومي والتي توزعت أسعار لوحاتها ما بين (25) ألف ليرة للوحة الصغيرة، وصولاً إلي (750) ألف ليرة للوحات الكبيرة، بل قبل أيام من ذلك بيعت إحدي اللوحات في الكاليري ذاته بسعر مليون ليرة سورية، وهو مبلغ كاف لشراء كل أعمال الرواد في خمسينات وستينات القرن الماضي، حيث بيعت أهم لوحة للؤي كيالي بمبلغ (1600) ليرة سورية وكان رقماً مهماً في ذلك الحين.

ما بين 1600 ليرة وبين المليون مساحة من الزمن امتدت لقرابة أربع عقود، شهدنا خلالها إحداث كلية الفنون الجميلة بدمشق، والتي رفدت الحركة التشكيلية السورية بمئات الخريجين الجدد، وفي كافة الاختصاصات التشكيلية، كذلك زاد عدد المعاهد التطبيقية، ومراكز الفنون التشكيلية في المحافظات والتي ساهمت بتخريج أعداد متزايدة من هواة الفن وبعضهم انضم إلي قوافل المحترفين.

لكننا نلاحظ رغم التطور الهائل في أعداد الفنانين أن دمشق ظلّت تتكيء علي صالة الشعب الوحيدة والتابعة لنقابة الفنانين، لتقدم فيها المعارض الفردية والجماعية وحتي المستضافة من خارج سورية، مع محاولات للخروج بالمعرض السنوي باتجاه خان أسعد باشا أو متحف دمشق الوطني وأخيرا في المتحف التاريخي.

لكن يبدو أن حركة القطاع الخاص لم تنتظر قرارات نقابة الفنانين أو مديرية الفنون الجميلة في وزارة الثقافة، فشهدنا في العقود الثلاثة الأخيرة تكاثراً انشطارياً متسارعاً في صالات العرض الخاصة داخل دمشق وفي بيوت ومقاهي دمشق القديمة أيضاً. وهو مؤشر علي أهمية وتطور المشهد التشكيلي في حياتنا الثقافية، كما أنه مؤشر أيضاً علي تنامي قيمة اللوحة الفنية وتنامي الطلب عليها كسلعة ثقافية وجمالية. حتي أن مدينة دمشق شهدت في الأسابيع الأخيرة افتتاح أكثر من عشرة معارض تشكيلية، وكثيرا ما نحار في بعض الأيام حين نكون أمام افتتاح ثلاثة معارض في التوقيت ذاته.

إلا أن ما شهدته دمشق في العام المنصرم شكل قفزة نوعية في أسعار اللوحات والتي تعدت رقم المليون ليرة سورية، وهو رقم قد لا يبدو كبيراً في سوق اللوحات العالمية، لكنه بالتأكيد رقم أكثر من مهم في سورية قياساً لمتوسط دخل الفرد السوري والمستوي المعيشي للناس. وإذا كان الكثير من النقاد والمهتمين بالحركة التشكيلية السورية يربطون هذه الظاهرة بافتتاح صالاتي عرض آرت هاوس و غاليري الأيام فإننا نشير إلي وجود إرهاصات مبكرة، لكنها ظلت فردية لم تشكل حالة في المشهد التشكيلي السوري، من هذه الإرهاصات الأولي عندما طلب الفنان أحمد معلا ثمناً لإحدي لوحاته في معرض ضمن المركز الثقافي الفرنسي ومنذ خمسـة عشر عاماً تقريباً مبلغ مليون ليرة، لكن الشارية كانت زوجة السفير الأمريكي، وبالتالي كانت صفقة خارج سياق السوق المحلية إن صح التعبــير، ومنذ ثلاث سنوات تقريباً فوجئت بمعرض الفنان العراقي جبر علوان في غاليري الأتاسي وكانت أسعار اللوحات تصل إلي المليون ليرة تبعاً لحجم اللوحة، مع أن السيدة مني الأتاسي صاحبة الغاليري أبدت استياءً من ظاهرة التضخم الحالي في أسعار اللوحات وبشكل خاص مع افتتاح غاليري الأيام للمصرفي السويسري من أصل سوري خالد سماوي.

إلا أنه يجب الاعتراف بأن لهذه الظاهرة جذراً عالمياً بدأ في العقدين الأخيرين، إذ بيعت في الغرب بعض اللوحات بعشرات ملايين الدولارات، وظهرت علي اثرها أكبر شركتي مزادات متخصصتين في بيع التحف الفنية واللوحات التشكيلية، مركزهما نيويورك، ولهما فروع في أوروبا والعالم، هما مؤسسة كريستنيز وشركة سوثبيز والتي تضاعفت أرقام أعمالها في العام 2006 أربع مرات عما هو معتاد.

وكان من الطبيعي أن تتمدّد هذه الظاهرة باتجاه الشرق والدول الإسلامية ضمن إطار العولمة، فذهبت مؤسسة كريستنيز إلي الهند وإيران أولاً ثم فتحت فرعاً لها في دبي عام 2005، ووصل أحد مندوبيها إلي دمشق في العام المنصرم. ولمعرفة تأثير العولمة وبورصة الفن التشكيلي في سوق اللوحات العالمية نقول أنه في عام 1995 بيعت في الهند مئة لوحة بسعر إجمالي (600) ألف دولار، بينما بيعت في عام 2006 مئة لوحة أيضاً في الهند بسعر إجمالي وصل إلي (18,2) مليون دولار. في سورية كان بعض الفنانين يسوقون لوحاتهم عن طريق أبو نعيم صانع إطارات وبراويز في حي الزاهرة ، ولم يتجاوز سعر اللوحة بضعة آلاف من الليرات. بينما لجأ البعض الآخر إلي مقهي النوفرة مثلاً لعرض وتسويق لوحاته إلي السياح الأجانب، فكان سعر اللوحة يصل إلي عشرين أو ثلاثين ألف ليرة، وكان المقهي يتقاضي ثلاثين بالمئة وأحياناً أكثر من ذلك، وحتي صالات الفن الحديث التي انتشرت في ثمانينات القرن الماضي وأثرت علي أسعار اللوحات بشكل ملحوظ، لم تستطع الصمود أمام الفورة الأخيرة التي تجاوزت كل ما هو متوقع.

هذه الظاهرة التي تبدو في أحد أوجهها إنصافاً للفنان السوري وللفن التشكيلي السوري في السوق العالمي للوحات، إلا أنها تترك الكثير من علامات الاستفهام، فمن هو مشتري هذه اللوحات أصلاً؟ وهل يستطيع المواطن السوري اقتناء أي لوحة مستقبلاً؟

وهل مشتري هذه اللوحات يستطيع تقدير قيمتها الفنية والجمالية حقاً ؟ أم أنه يتعامل معها من باب التجارة والمراهنة علي زيادة السعر في سوق الفن التشكيلي؟ وهل سيؤدي ذلك إلي خلق بورصة محلية لهذا الغرض تسهم بتحديد قيمة وسعر اللوحة؟ أم أنها ستبقي مجالاً مفتوحاً للمغامرين؟ وهل سيؤدي ذلك إلي هجرة هذه اللوحات أو تهريبها خارج سورية؟ كما يتخوف الناقد الدكتور ميشيل مقدسي مدير دائرة التنقيب في مديرية الآثار والمتاحــــف، والأخطر من ذلك أن تكون هذه اللوحات بأيدي تجار لا يهتمون بالســوية الفنــية والجمالية، بل يسعون وراء كل ما هو تقــليدي ومنسوخ أو فلكلوري مما سينعكس سلباً علي تطور الحركة التشكيلية في ســورية مستقبلاً، أو يتركها مجالاً لتبييض الأموال في أسوأ الحالات كما يقول الدكتور حسان موازيني.

الفنان السوري نذير نبعة يعتبر هذه الظاهرة مؤشراً في المنحي الطبيعي لتقدير الجهد الإبداعي للفنان السوري أسوة بفناني العالم، وهي جزء من العولمة التي نعيشها شئنا أم أبينا ذلك، فيما أبدي الناقد والدكتور حسان عباس تخوفه من الانعكاسات الاجتماعية لهذه الظاهرة، إذ أنها بقدر ما تشكل إنصافاً للفنان السوري فإنها تشكل حاجزاً بينه وبين جمهوره الذي يقف فاغراً فمه أمام مبلغ مليون ليرة مثلاً كثمن للوحة فنية.

الفنانة أسماء فيومي رفضت التعليق علي هذه الظاهرة، لكنها لم تخف أهمية هذا المعرض في سياق مسيرتها، حيث شكل مفصلاً مهماً في حياتها الفنية. وقد أشادت بما تعتبره نهضة تشكيلية تمت بفضل أناس يقدرون الفن، ويعرفون أهمية اللوحة، لكن الكثير من الفنانين أبدوا تخوفاً من العقود الحصرية أو art dealer التي أبرمتها غاليري الأيام مع البعض فيما شكلت إحساساً بالغبن للبعض الآخر ممن لم يحظَ بعقود مماثلة.

ويبقي السؤال الأخير ما هي المعايير التي يمكن الركون إليها في ضبط جودة العمل الفني بما يتناسب مع سعره؟
23/02/2008

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى