صفحات العالمعلي الشهابي

باريس تشيّع برشلونة في المتوسط

null
علي الشهابي
دعا الرئيس الفرنسي قادة بلدان المتوسط إلى باريس لعقد مؤتمر “الاتحاد من أجل المتوسط” في الثالث عشر من الشهر الجاري. وأهم ما في هذا الاتحاد أنه بات يعبر عن حقيقة العلاقة الراهنة بين ضفتي المتوسط، بعيداً عن أوهام برشلونة. لا بل إن هذه الدعوة بمثابة مراسم تشييع لعملية برشلونة.
انطلق الاتحاد الأوروبي في مؤتمر برشلونة 1995 من تصور أنه يسعى إلى إقامة شراكة حقيقية بين الاتحاد الأوروبي وباقي بلدان المتوسط، يستفيد منها هو وهي. وكان منطلق تصوره بداهة أن الحياة الاجتماعية، بعد الحرب الباردة، باتت للديموقراطية والحرية والتنمية المستدامة. وبعد حوالي ثماني سنوات، من المخاسر في الجهد والمال، أدرك الأوروبيون وهم هذا التصور، فكفوا حتى عن تسميتها شراكة أوروبية متوسطية ليسمّوها “سياسة الجوار الأوروبي”.
ركّز الأوروبيون في مؤتمر برشلونة على موضوعات السلام في منطقة المتوسط، خصوصاً بين العرب وإسرائيل، وعلى التنمية والديموقراطية والشفافية وحقوق الإنسان وسيادة القانون. ورهنوا التوقيع على اتفاقية الشراكة مع كل دولة بمدى تقدمها بالمسار المطلوب منها. وحددوا عام 2015 تاريخاً تبلغ به عملية التطور الاقتصادي عندنا مرحلة المرور الحر للبضائع بين هذه البلدان، أي بيننا وبينهم.
ولما لم تسع إسرائيل إلى السلام، ولم تنتهج الأنظمة العربية النهج المطلوب لتطوير بلداننا. ولما كانت مجمل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بيننا وبين الاتحاد الأوروبي (على الأقل بحكم الجغرافيا) لا يمكن إلاّ أن تتواصل، وخصوصاً في ظل العولمة المباشرة، فلابد من إعادة صياغة هذه العلاقة على أسس جديدة، لذا كانت الدعوة لهذا المؤتمر.
ومع أن المؤتمر واحد، إلا أن الأطراف المشاركة فيه ليس لها نفس الهدف. الأقل اهتماماً بهذا المؤتمر، لا بل المنزعجة قليلاً منه، هي تركيا. لكنها لا تأبه بأوهام ساركوزي الرامية إلى جعل هذا الاتحاد إطاراً مناسباً لعلاقتها الأوروبية. فالاتحاد الأوروبي تسيّره الحقائق، ومن منطقه أن يلفظ الأوهام. وهي ماضية في انضمامها للاتحاد الأوروبي الذي فتح لها الشهر الماضي ملفين جديدين من مجموع الملفات المطلوبة منها. أما إسرائيل، فعلاقتها بأوروبا مستقرة. ومن الطبيعي ألاّ تفوت فرصة لإقامة علاقات مع العرب، من أي نوع، كجزء من خطتها للتطبيع معهم على أساس الوضع الراهن.
إذا كان الأمر كذلك، وهو كذلك، فالطرفان المعنيان أساساً بالمؤتمر هما الاتحاد الأوروبي وبلدان المتوسط العربية.
1ـ الاتحاد الأوروبي:
بعد زوال الوهم، وهم الآفاق التي كانوا يعتقدون أنها ستنفتح أمامهم جنوباً في بلدان المتوسط، وأمام بلدان المتوسط فيهم ومن خلالهم. وبعدما ضم هذا الاتحاد أغلب بلدان أوروبا الشرقية، بدأ يسعى إلى علاقات تخدم تطوره بشكل أفضل، فاتجه شرقاً إلى روسيا. وهاهو يتباحث معها على اتفاقية شراكة استراتيجية، لابد أن تفضي مستقبلاً إلى دمج الاتحادين الروسي والأوروبي، كما تطالب روسيا منذ سنوات.
إذن كانت الأولوية الأوروبية في برشلونة لبلدان المتوسط العربية، فتراجعت هذه الأولوية بعد ثلاثة عشر عاماً لصالح روسيا. لست بصدد البحث في الأسباب التي حدت بهم إلى التوجه نحونا في البداية، إلا أن السبب الأساسي لانكفائهم عن منطقتنا اقتناعهم بالملموس بأن حال بلداننا ينطبق عليها المثل القائل “فالج لا تعالج”.
إذا كان هذا هو الجوهري في مؤتمر باريس، دفن برشلونة، فممثلو الاتحاد الأوروبي ليس هناك ما يدعوهم إلى التطرق إليه. إذ سيكون موقفهم موحداً، ويحافظون فيه على الطقوس: سيكررون مطالب برشلونة الداعية إلى ضرورة السلام والديموقراطية والحرية وحقوق الإنسان..إلخ برغم يقينهم أن أنظمتنا لن تقدم شيئأ على هذا الصعيد. لذا سيتركز جهدهم على تطوير العلاقات والمشاريع الاقتصادية، ولو أن المؤتمر غير مخصص لهذا الغرض. وستكون الأولوية لترتيب الأمور مع البلدان المغاربية، وخصوصاً المغرب وموريتانيا، لمكافحة الهجرة غير الشرعية. كما أنهم سيهتمون بأمور السلام بين سوريا وإسرائيل.
فالأوروبيون مهتمون بتحقيق السلام إلى أبعد الحدود لأهمية المنطقة ككل بالنسبة لهم. فهم يعتبرون منطقتنا باحتهم الخلفية، وهي كذلك، وبالتالي لا يمكن أن يكونوا غير مبالين بما يجري فيها. لكنهم عاجزون عن فرض السلام، أو حتى عن المشاركة الفاعلة فيه، جراء الرفض الإسرائيلي. فنراهم يتعاملون مع إسرائيل بالحدود التي تسمح لهم بها، تماماً كما يتعاملون مع الأنظمة العربية بالحدود التي تسمح لهم بها. لنتذكر الحدود التي فرضها عليهم النظام السوري في التعامل معه، “أنا كما أنا”.
2 ـ الدول العربية:
كلها تدرك أن القصد من هذا المؤتمر تكريس العلاقة الراهنة بينها وبين الأوروبيين رسمياً، وهذا أمنى مناها. وبالتالي ستتعامل معه باعتباره حفلة علاقات عامة. فهي تعلم، والكل يعلم، أن المناخ الضاغط نحو ضرورة سيرها باتجاه آليات الحكم الديموقراطي، الذي كان سائداً أيام مؤتمر برشلونة، قد ولّى. وهي تشكر الرئيس جورج بوش على مشروعه في منطقتنا، لأنه بالنتيجة لقح شعوبنا ضد الديموقراطية. في هذا الجو، جو المؤتمر وجو انعقاده، لا شك في أن الأضواء ستتركز على الرئيس السوري لسببين:
الأقل أهمية بينهما بسبب محادثات السلام بين سوريا وإسرائيل. فالأوروبيون يأملون بتوصل سوريا وإسرائيل إلى اتفاقية سلام تكون فاتحة جديّة لنهاية الصراع العربي ـ الاسرائيلي. لكنهم يعلمون تماماً أن هذا الاتفاق غير وارد على الأقل الآن، لا سورياً ولا إسرائيلياً. ولكن بما أن السوريين والإسرائيليين يقولان أنهما يتباحثان بهدف الوصول إلى السلام، فالأوروبيون لا يسعهم إلا أن يدعموا هذا المسار. ومن المؤكد أنهم لا يدعمونه من باب “لعل وعسى”، بل لإنهم يأملون في أن تسلّس هذه المحادثات العلاقات السورية ـ الإسرائيلية، طالما أن مشكلة بحجم المشكلة القائمة بين سوريا وإسرائيل لا يمكن أن تتسوى بين عشية وضحاها.
أما السبب الثاني فهو الأهم. وقبل ذكره، لابد من التنويه إلى أن توقيت المؤتمر شكّل سانحة للفرنسيين لتدوير الزوايا الحادة مع دمشق، تحت ستار دور سوريا “الإيجابي” في انتخاب الرئيس اللبناني. فلا علاقة لهذه الإيجابية بإعادة انفتاح الفرنسيين على النظام السوري، بل انفتحوا عليه لأسباب مشابهة لتلك التي دعت رئيسة مجلس النواب الأمريكي وغيرها من النواب الديموقراطيين إلى زيارة دمشق. فسوريا لم تضغط على المعارضة اللبنانية لتسهيل انتخاب الرئيس اللبناني، كما تحاول فرنسا أن توحي، بل ظلّت المعارضة على موقفها. والدليل على ذلك أجندة مؤتمر الدوحة، ومن ثم مقرراته: لو تم الطلب من المعارضة اللبنانية صياغتها لمصلحتها، لما صاغتها بشكل أفضل من الشكل الذي صدرت به.
القصد من هذا التنويه أن فرنسا، بعد كل محاولا تجنب سوريا وتهميشها ووضع الشروط لإعادة تطبيع العلاقة معها، تراجعت عن هذه السياسة. وهذا لا يضيرها طالما أنها، وكافة بلدان الاتحاد الأوروبي، نفضت يدها من كل عملية برشلونة. أليس هذا المؤتمر لتشييع برشلونة؟

خاص – صفحات سورية –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى