الأسد في باريس: مجازفة الإرتهان وعسر الإنفتاح
صبحي حديدي
حين سيشرع بشار الأسد في زيارته الرسمية إلى فرنسا للمشاركة في قمّة الإتحاد المتوسطي، سوف تكون سبع سنوات قد انقضت على زيارته الرسمية الأولى، صيف 2001، بعد أقلّ من سنة على الكرنفال السياسي والدستوري والبرلماني الذي انتهى إلى تنصيبه وريثاً لأبيه في حكم سورية. كذلك سوف تكون تسع سنوات قد انقضت على زيارته غير الرسمية، خريف 1999، بصفته الوحيدة المتوفرة آنذاك (نجل حافظ الأسد)، بدعوة خاصة من الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك، تلبية لرغبة رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري (الذي كان، آنذاك، بين أخلص رجالات حاكم دمشق)، على سبيل تدريب الفتى في ما ينتظره من مهامّ رئاسية.
وبالطبع، جرت في أنهار سورية، مثل أنهار فرنسا، مياه كثيرة خلال هذه السنوات، السبع منها والتسع على حدّ سواء، في قصر الشعب المغلق المعلّق عند ذرى قاسيون، مثل قصر الإليزيه المفتوح الملقى على قارعة جادّة باريسية. غير أنّ جريان تلك الأنهار، بما حملته أو شهدت عليه من متغيّرات سورية وأخرى فرنسية، فضلاً عن تلك الإقليمية أو الدولية، لا يعني بالضرورة أنّ متغيّرات العلاقات السورية ـ الفرنسية في العقد الأخير اكتسبت ذات الصفة في التغيّر والتبدّل. والأرجح أنه من الخادع ترسيم تلك العلاقات قياساً على مؤشّر واحد هو التوتّر الذي اكتنفها، من جانب شيراك شخصياً وعلى نحو ساهمت في صياغته اعتبارات ذاتية محضة، إثر اغتيال رفيق الحريري؛ وبالتالي إهمال المؤشرات الأخرى التي بدت وكأنها تعكس المزاج الحقّ للرئيس شيراك في ما يخصّ نظام الأسد، الأب قبل الابن (كان شيراك هو الرئيس الغربي الوحيد الذي شارك في جنازة الأسد، وكان قبلها قد كسر عزلة الأخير الدولية حين دعاه إلى زيارة باريس رسمياً في صيف 1998، كما كان أوّل من أسبغ شرعية سياسية وأمنية على وجود القوّات السورية في لبنان خلال خطبة افتتاح القمّة الفرنكفونية في بيروت 2002).
وهكذا فإنّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ليس أوّل من يراقص طغاة الشرق الأوسط، سواء في العقود الأخيرة من عمر الجمهورية الخامسة في فرنسا، أم في عقودها الوسطى (أوّل زيارة للأسد الأب تمّت في عهد فاليري جيسكار ـ ديستان، 1976، بعد أشهر قليلة على دخول القوّات السورية إلى لبنان)، هذا إذا اعتبر المرء الأنشطة الدبلوماسية في العقود الأولى بمثابة تمرينات مبكّرة واستطلاعية على ما ستطلق عليه التنظيرات الديغولية صفة “السياسة العربية لفرنسا”. بل، في وجهة أخرى لنقاش الأمر، لعلّ المرء لا يبالغ إذا اعتبر خيار ساركوزي في الإنفتاح على النظام السوري أقرب إلى السلوك الطبيعي، المنتظَر، غير المستغرب البتة، من هذا الرجل بالذات.
فمن جانب أوّل، كلّ ما يعرفه ساركوزي (كما صرّح، بنبرته المعتادة في السخرية الرواقية الغثة) أنّ سورية بلد متوسطي، وليس ثمة سبب واحد يبرّر عدم دعوتها إلى القمة المتوسطية، غير المكرّسة (في حدود علمه كما قال، وعلم الجميع كما نقول) لمناقشة احترام أو انتهاك حقوق الإنسان على ضفاف المتوسط. وهذا منطق صوري سليم تماماً، وكان استبعاد سورية من هذه القمة هو الذي سيكون القرار الشاذّ غير الطبيعي. ومن جانب ثانٍ، مَنْ الذي يعيب على ساركوزي دعوة الأسد إلى منصّة الإحتفال بالثورة الفرنسية، يوم العيد الوطني لفرنسا، إذا كان الحابل سوف يختلط بالنابل على تلك المنصة: ديمقراطيات غربية، ودكتاتوريات شرقية أو أفريقية، جنباً إلى جنب مع إسرائيل… “واحة الديمقراطية” في الشرق الأوسط؟ وضمن المنطق الصوري إياه، كيف يستقيم أن يُدعى زعيم من هؤلاء، ويُستثنى آخر؟
ولهذا، وبصرف النظر عن قيمته الأخلاقية العالية، فإنّ النداء الذي وجهته إلى ساركوزي ثماني منظمات حقوق إنسان دولية (بينها العفو الدولية، وميدل إيست واتش، والإتحاد الدولي لروابط حقوق الإنسان، والشبكة الأورو ـ متوسطية، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب…) سوف يظلّ حبراً على ورق في ما يخصّ مطلب الفقرة الأولى: “تناشدكم منظمات حقوق الإنسان الموقعة على هذه الرسالة إيلاء اهتمام لوضع حقوق الإنسان في ذلك البلد في إطار محادثاتكم مع الرئيس الأسد”. والحال أنّ وزير الخارجية الفرنسي (حامل كيس الرزّ بوصفه أيقونة الغوث الدولي، وصاحب نظرية التدخّل الإنساني في الشؤون السيادية للدول، و”غير المبتهج شخصياً” بزيارة الأسد إلى باريس…) تكفّل بهذا الأمر، كما تردّد، حين دسّ في جيب وزير الخارجية السوري وليد المعلّم لائحة بأسماء حفنة من المعتقلين السياسيين السوريين الذين ستبتهج فرنسا بإطلاق سراحهم!
ولكن… من أين سنجترح للسيدة فداء الحوراني، رئيس المجلس الوطني لـ “إعلان دمشق”، أياً من سجايا القدّيسة إنغريد بيتانكور، الرهينة الكولومبية ـ الفرنسية، لكي يتذكّر ساركوزي أنه يصافح سجّانها على ملأ من الإنسانية؟ وكيف سنقنع صحيفة فرنسية عريقة مثل “لو فيغارو” بأنّ أيّ حجم للنفاق السياسي لا يمكن أن يغطّي شائنة إجراء حوار مفصّل مع الأسد، على الصفحة الأولى، دون التجاسر على طرح سؤال واحد يخصّ مجزرة سجن صيدنايا، آخر فظائع النظام؟ ولكي لا يقتصر الأمر على صفّ اليمين الساركوزي، ماذا سيفعل برتران دولانوي (عمدة مدينة باريس الإشتراكي، الطامح إلى رئاسة الحزب الإشتراكي، المولود في تونس) لكي يعطي باريس ـ مقام الثورة، وموئل حقوق الإنسان، وملاذ أحرار العالم غرباً وشرقاً… ـ فرصة التضامن مع أبناء سورية؟
المرء عدوّ ما يجهل، هكذا قال دولانوي، مقتبساً الإمام عليّ بن أبي طالب، في مخاطبة ضيفه الرسمي بشار الأسد أثناء المأدبة الرسمية التي أقامها على شرفه في زيارة 2001، في سبيل حثّه على «الإحترام المطلق للكرامة الإنسانية» وشجب «العنصرية، والعداء للسامية، والإقصاء، ونقض التاريخ». والحال أنّ منطوق العبارة، وبصرف النظر عن مقدار «الخبث» في اقتباس الإمام علي أمام هذا الضيف بالذات، كان ينطبق على دولانوي نفسه أكثر من الأسد. فالجاهل، في أخفّ النعوت، هو ذاك الذي يطنب في الإشفاق على شعب إسرائيل وما يتعرّض له من “جرائم ضدّ الحياة والسلام والأمل»؛ ثمّ يتجاهل تماماً، لأنه لا يجهل في الواقع، جرائم المؤسسة الصهيونية في مختلف أطوارها، منذ اغتصاب فلسطين، وأيّاً كان الساسة الحاكمون أو الأحزاب الحاكمة.
في تلك الزيارة كان قسط كبير من زخم لقاءات الأسد قد ضاع في زحمة ضجيج صهيوني أحسن استغلال تصريحات الأسد العاثرة أمام البابا يوحنا بولس الثاني في دمشق، كما أنّ قسطاً آخر أضاعه الأسد نفسه وهو يحاول «ترقيع» تلك التصريحات. لقد قصد اليهود عندما تحدّث عن «معاناة السيد المسيح على يد الذين وقفوا ضدّ المبادىء الإلهية والإنسانية التي نادى بها»؛ وقصد اليهود حين تحدّث عن الذين تآمروا «للغدر» بالنبيّ محمد. لم تكن ثمة فائدة تُرجى من إعادة تأويل تلك التصريحات عن طريق التمييز ـ كما فعل في حديثه إلى التلفزة الفرنسية عشية زيارته إلى باريس ـ بين «الموازاة» (التي يقول إنه لم يقصدها)، و«المقارنة» (التي يقول إنه كان يجريها بين عذاب السيد المسيح وعذاب الفلسطينيين).
ولهذا فإنّ ما قد يسمعه بعد أيام من أصوات احتجاج فرنسية نافذة، يهودية صهيونية أو حتى يمينية ساركوزية، لن تتباكى على ملفات حقوق الإنسان في سورية، ولعلّها لن تتذكّر لبنان واتفاق الدوحة وانتخاب ميشيل سليمان (ذريعة الرئاسة الفرنسية الأولى في تبييض صفحة النظام السوري)، بل ستركّز على علاقات النظام مع إيران عموماً، وأوّلاً، ثمّ مع “حزب الله” و”حماس” خصوصاً واستطراداً. ولسوف يكون حسن سلوكه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت، سواء في السرّ أو في العلن، وأمام العدسات أم خلف الأستار الثقيلة، هو معيار قصر الإليزيه في الذهاب خطوة إضافية نحو التبييض، وكذلك التوسط (النشط والإيجابي والفوري، كما يرغب الأسد بقوّة) بين واشنطن ودمشق. ثمة، هنا، ملفات عديدة تخصّ المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية الراهنة، كما تمسّ ـ في قليل أو كثير ـ ما يمكن أن يُعرض على النظام من ضمانات بقاء أوّلاً، ومحفزّات نهوض من المأزق السياسي والإقتصادي والأمني الشامل ثانياً.
ذلك لأنّ الأسد، وعلى نقيض من تطبيل إعلامه وتزمير حلفائه، يصل إلى باريس رأساً لنظام مأزوم يعيش حالة فريدة من ارتهان المصير لاعتبارات إقليمية قلقة ورجراجة وقابلة للتبدّل الدائم، كانت نسبياً قد لعبت لصالحه في السنوات السابقة، ويلوح أنها الآن بدأت تتخذ وجهة مختلفة، في العراق وفلسطين ولبنان، وكذلك في جدل الشدّ والجذب الدبلوماسي بين طهران والمجتمع الدولي، وجدل التسخين العسكري بين واشنطن وتل أبيب وطهران. ولعلّ ابسط تجليات معضلة الأسد أنه عاجز عن التضحية بتحالفاته الإقليمية (التي يقتات عليها منذ الغزو الأمريكي للعراق، وصعود النفوذ الإيراني في المنطقة)، وفي الآن ذاته غير قادر على الإكتفاء بذلك القوت، لا لشيء إلا لأنّها مجازفة كبرى أن يواصل العيش على ذلك القوت وحده، دون أيّ تنويع في المصادر. والاعتمال عنيف، متعدد المستويات والآثار، بين مجازفة الإرتهان وعسر الإنفتاح.
وفي ما يخصّ ملفات الإصلاح، الأرجح أنّ الأسد لن يفلح في تسويق مقولته المكرورة: «الإصلاح الإقتصادي أوّلاً وقبل أيّ شيء»، ولن يفلح في إقناع أرباب العمل الفرنسيين بالإقبال على الإستثمار في بلد ما تزال تسري فيه الأحكام العرفية، تماماً كما كانت عليه حال لقاءاته مع هؤلاء خلال زيارة 2001، وربما على نحو أسوأ من ذي قبل. في عبارة أخرى، يعرف رجال الأعمال الفرنسيون أنه ليس للإصلاح الإقتصادي أيّ معنى، ولن يكون له أيّ إفق ملموس، ما دامت قوانين البلاد التحديثية، جديدة كانت أم قديمة، خاضعة في آخر النهار للقانون الأعلى الذي لا يعلو عليه تشريع أو تدبير: قانون الطوارىء.
وفي زيارة 2001 ذهب الأسد إلى روح السخرية في وصف تعبير «ربيع دمشق»، فقال: «كلمة ربيع لا تعنينا كمصطلح. فالربيع هو فصل مؤقت، والربيع فصل يعجب البعض والبعض الآخر يحبّ الشتاء»، قبل أن يدخلنا في جدل إشكالي حول خصائص الفصول: «الثمار تأتي في الصيف. ولكن لا يوجد ثمار من دون ربيع تتفتح فيه الأزهار. ولا يوجد ربيع دون أمطار تهطل في الشتاء»! وكان الأسد يعرف، بالطبع، أنّ سائله لم يكن يقصد الإستماع إلى تحليل فصولي، بل كان يريد السؤال عمّا آل إليه «ربيع دمشق» السياسي تحديداً. فما الذي يقوله اليوم، في حديثه مع صحيفة “لو فيغارو” عشية زيارته الرسمية الثانية إلى باريس؟ هنا اقتباس واحد: “نحن لا نقول إننا بلد ديمقراطي بامتياز. نحن نقول إننا نقتفي هذا الطريق، وهو طريق طويل وقد يستمرّ سنة أو سنوات عدّة. الأمر يعتمد على الثقافة، وعلى التقاليد، وعلى الظروف السياسية والإقتصادية وسواها من الشروط الإقليمية والدولية. لقد قمنا بخطوات عديدة في هذا المجال. وبالطبع، تحتاج القوانين إلى تعديل وإصلاح، وهذا ما نفعله في الوقت الراهن”.
نعم… بدليل قانون الأحزاب الذي يراوح في مكانه منذ ثلاث سنوات، ويُرفع مثل سيف مسلط على رأس الإجتماع السياسي السوري، لكنه يُتلى مثل مزمور زائف في أحاديث الرئاسة عن الإصلاح!
كاتب وباحث سوري يقيم في باريس
القدس العربي