مفاوضات في غير عصرها
محمد ابرهيم
منذ مؤتمر مدريد في مطلع التسعينات كان التسابق بين المسارات سمة ثابتة في المفاوضات العربية – الاسرائيلية.
كان كل طرف عربي مفاوض يضع في اعتباره عند الموازنة بين التنازلات المطلوبة والتنازلات الممكنة وجود طرف عربي آخر “جاهز” لاستثمار اي تعثر لمصلحة “مساره”.
وكان الطرف الاسرائيلي يشعر دائما انه يستطيع الهرب من مسار الى مسار آخر عندما يجد ان ساعة الحقيقة، اي ساعة “التنازلات” دقت، او عندما يشعر انه اعجز من عقد “الصفقة”، لأسباب داخلية اولا.
لكن في كل مرة كان الانتقال من مسار الى مسار حقيقيا، بمعنى محاولة استنفاد امكانات التقدم قبل ان يطرأ تطور ما يعيد الامر الى نقطة البداية.
لكن هذه الايام نعيش حالة فريدة يصعب معها الحديث عن تنافس مسارات على الطريقة التقليدية.
المسار الفلسطيني، الغامض، انتقل تدريجا، من الاعلانات الصاخبة، في تشرين الثاني الماضي، في اطار مؤتمر انابوليس، الى حالة لم يعد معها معروفا اين تجري المفاوضات، ومتى، وحول ماذا.
السرية في ما مضى كانت تغطية لانجازات يتم سترها خوفا من تدخل عوامل خارجية تفشلها، اما اليوم فباتت السرية تغطية لعدم قدرة الطرفين المفاوضين على الوصول بها الى نتيجة.
انها المرة الاولى ربما التي يتم فيها التستر على الفشل، بالتستر على تفاصيل المفاوضات التي قيل سابقا انها قطعت شوطا.
ثم أعلن فجأة عن انطلاق المفاوضات السورية – الاسرائيلية غير المباشرة، بوساطة تركية، من دون اعلانات واضحة حول مصير المسار الفلسطيني – الاسرائيلي.
و”الألم” الذي تحدث عنه رئيس الوزراء الاسرائيلي ايهود اولمرت عندما كان يشير الى استعداده لتقديم تنازلات للفلسطينيين، هو نفسه “الألم” الذي تحدث عنه بالعلاقة مع الانسحاب المفترض من الجولان.
في ما مضى، ايام المفاوضات الجدية كان معروفا ان رئيس الوزراء الاسرائيلي، ايا تكن قوته، يتجنب الاضطرار الى تقديم “تنازلات” على مسارين مختلفين. فما هي القوة الاستثنائية التي تلبست اولمرت اليوم حتى بات باستطاعته انجاز ما عجز عنه اسلافه، من اليمين واليسار؟
الجواب البديهي هو ان ضعف اولمرت المثبت، داخليا وخارجيا، يشير الى ان رئيس الحكومة الاسرائيلية، لا ينوي، ولا يستطيع ايصال اي من المسارين الى خواتيمه.
في ما مضى كانت الظروف السياسية، المحلية والاقليمية، بل الدولية، توظِّف في خدمة محاولة فرض تصور ما للحل، خصوصا من الجانب الاسرائيلي.
اما اليوم، فيبدو ان المفاوضات، وعلى المسارين، باتت جزءا من ترتيب للاوضاع السياسية، المحلية والاقليمية، من دون الحاجة الى دفع المفاوضات نفسها بعيدا.
وعلى هذا الصعيد تلتقي، بسلام، المصالح العربية والاسرائيلية.
كان افتتاح المفاوضات الاسرائيلية – الفلسطينية حول قضايا الحل النهائي حاجة اميركية، وخدمة اسرائيلية لواشنطن، في سياق وضع كانت العين فيه على العراق.
وكانت المفاوضات نفسها حاجة فلسطينية للسلطة التي تريد الجواب على انقلاب “حماس” في غزة بالظهور بمظهر المتعاطي بالقضايا الكبرى، والقادر على استثمار علاقاته الخارجية في سبيل مستقبل فلسطيني مزدهر، مقابل الاتون الذي كانت تقود اليه سياسات “حماس”.
وكان افتتاح المفاوضات السورية – الاسرائيلية مترافقا مع طموح اسرائيلي، معلن، الى ان هدف التفاوض مع سوريا هو اخراجها من الحلف مع ايران ومستتبعاته.
فيما كان التفاوض نفسه، من الجانب السوري، يُضمر ثم يُعلن، انه الطريق الى استعادة العلاقات المقطوعة مع الولايات المتحدة والغرب عموما.
حتى انتظار الانتخابات الرئاسية الاميركية، وانتظار حسم الوضع المتقلقل للزعامة الاسرائيلية، لم يعودا بهدف الانطلاق في مسار، او مساري سلام، كاملي الاوصاف، وانما لاستطلاع نوع التوازن الاقليمي الذي سيولد في خريف هذه السنة.
النهار