تحت سقف واطئ لنذير جعفر
أيتــام العنــف
انور محمد
في روايته «تحت سقف واطئ» يدخل نذير جعفر منطقة ممنوعة؛ محرَّمة. ومعه مجموعة من طلبة جامعة حلب؛ فيحرثُ / يسرد وقائع غنية بالدراما الروحية الحياتية، التي وصلت في بعض مفاصل الرواية إلى مستوى الفاجعة الاجتماعية. فيحاول بعض أبطالها الانتحار،
والتخفي، والسفر فراراً من حمَّام النار والدمِ الذي صار ينثر/ينشرُ ذعره في الصراع الذي نشب بين «حزب البعث» الحاكم وجماعة «الإخوان المسلمين» من جهة، وبينه وبين فصائل اليسار السوري الماركسي والقومي المعارض. ذلك في فترة الثمانينيات من القرن المنصرم. تبدأ الرواية و «رؤى» على قلقٍ خشية أن تعتقلها المخابرات بعدما اعتقلت رفيقتها «لبنى»، ولمَّا يسألها سعد عن الجرم/ السبب تقول له: إنَّ كلَّ ما فعلته هو أنَّها قرأت جريدة (الراية) المحظورة، فيطلب منها التخفيِّ فتتعرَّف على بشير، ورياض، وسين، وخلدون، وعلي الفارسي، وحامد، وشاهو، وريما، والعاهرة رئيفة؛ والذين كانوا على طول الزمن الروائي في حالة دفاعٍ عن أنفسهم، كانوا ساخطين وقد انشغلوا بالخمرة، والجنس، والشعر. وهذا ما نشَّط غرائزهم، و كأنَّ لا ثورةَ إلا ويكونُ الجنسُ والخمرة جزءاً أساسياً من مكوِّناتها؛ إلى أن تسافر رؤى إلى (كندا) عند عمِّها بترتيبٍ من والدها الدكتور صبحي، ثمَّ وقد شدَّها الحنينُ و الشوق إلى حلبَ وإلى سعد فتعود، و في مطار حلب يتمُّ اعتقالها، ومن ثمَّ يُفْرَجُ عنها، لتلقى سعد وهو في أحضان ريما وهما في حفلة جنسٍ صاخبة، فيتكسَّرُ حلمها الذي يكاد يصير حبلاً يلفُّ على رقبتها، وهي تقرأ خبر وفاة والدها في فترة سجنها.
خطان
نذير جعفر في «تحت سقف واطئ» اشتغل على خطَّيْن، عاطفي وسياسي، وكأنَّنا مع رواية اعتراف، قامت على نسخ الواقع، فيما كان يجب أن تُحرِّكه، خاصَّةً أنَّ نذير دخل مناطق رعوية بكراً في العقل السوري، عقل تنظيماته السياسية التي ارتجلت مواقفها في صراعها مع حزب البعث الحاكم، في فترةٍ من أشدِّ الفترات التي شعر فيها أنَّ صورته/ماكينته الإيديولوجية بدأت بالتداعي إثر صراعه مع اليسار الماركسي (الراية و الشعب ـ الرابطة والمكتب السياسي). ومع جماعة (النفير ـ الإخوان) الذين أخذ فيه الصراع معهم شكلاً مسلَّحاً.
في الرواية ليس من بطلٍ مطلق، و لكن ثمَّةَ مأساةٍ كان ينقصها المغامرة، مغامرة الشخصيات بمصائرهم، فلا تبقى عند سرد المعلومات /الأحداث وسبر شيءٍ من مشاعرهم. صحيح أنَّ الرواية التجريبية قد انقلبت على العقدة التقليدية، و لكن لا بدَّ من مأساة؛ من صراع. نذير كان عليه أن يروح إلى المأساة التي تفتكُ بالعقل ولا من يدافع عنه؛ عقل بشير وعقل د. صبحي، بل عقل سوريا من عملياتِ القتلِ و الإبادة، عمليات الإلغاء و الإقصاء.
فما يجري لا يُصدَّق، كيف نضحك عليه ـ على العقل، والسلطة صار تسلُّطها عليه ثابتا، بل قاعدة لا يجوز نقدها. نذير في «تحت سقف واطئ» لم يبحث عن الديموقراطية، هو حكى عن التسلُّط والعنف الذي وسَمَ فترة الثمانينيات من صراع السلطة مع المعارضة، وعن تناطح إيديولوجياته اليمينية واليسارية على أنَّ كلَّ واحدةٍ منها كانت ترى أنَّ الحلَّ عندها، أو هي الحلُّ البديلُ الجاهز حتى يجيء المهدي المُخلِّص. وهذه مشكلة الرواية من الناحية الفكرية فألغتْ (الفعلَ)، وراحت تدفعنا إلى (الانتظار).. انتظار الحلِّ على يد المخلِّص.
فالدكتور صبحي وهو السياسي المُتديِّن، والذي ينبذُ العنف، لا يشعرُ بوطأةِ وثقلِ العنف الذي في الاستبداد، إلا حين يتهيَّأُ له أنَّ ابنته رؤى تتعرَّضُ للملاحقة من قبل المخابرات، بسبب قراءتها جريدة «الراية» المحظورة، فيستأجر لها بيتاً عند أُمِّ جورج في السليمانية ـ ولا يستأجر بيتاً لبقية أبناء الشعب. هنا وبتقديري كان على نذير أن يُمعن في السخرية، في تمزيق قميص الاستبداد الذي تقمَّصه الراعي وصار يُلزم الرعية على التبرُّكِ والتمسُّحِ به. فالرواية هنا وإن فرجتنا صورةً مألوفةً إلا أنَّها كانت غير واضحة، فثمَّة ولد غير شرعي (العنف) صارَ يتبخترُ في الشارعِ ويملأُ حياة الناس، يكتم أنفاسهم ولا أحد يدَّعي أبوته. رغم ذلك فنذيرُ كان يسرد روايته بمرونةٍ، فيغمِّسُ مشاعرَ أبطاله بالواقع السوري المتفجِّر. ثمَّة شريعةٍ قمعية تريد تبيد الرأي الآخر، شريعة تصير قانوناً، شريعة تُؤله عقلها، كانت حاضرة في السرد، اللفظ، الملفوظ. وشبهُ غائبةٍ في الفعل، وهذه كنَّا نريدها أن تظهر، نريدُ أن نشوفها، نشوف (الأب) وكيف تحوَّل من منقذٍ/ مخلصٍ إلى مدمِّرٍ كي يحافظ، يحمي نفسه. نذير فرجانا الانفعال الحقيقي فيما أخفى الانفعال الجمالي، أخفى الذي فيه الحقيقة، الخطر. فلا يترك العقل يشحذ سيفه ويذهب إلى المبارزة، فأكثر النصوص الإبداعية على اختلاف أجناسها هي تلك التي تُوَلِّدُ مأساةً، التي يتولَّدُ عنها ألمٌ حقيقي فيه كمياتٌ هائلةٌ من الحزن الذي يُخلِّدُ شخصيات الرواية/المسرحية: أوديب، هاملت، الأب غوريو، راسكينلكوف، جوليان سوريل، ميرسو. طبعاً هذا ـ وإن كان بشير ورياض وسعد ورؤى وعلي الفارسي وشاهو والدكتور صبحي ورئيفة؛ ليسوا كأبطالِ بلزاك، أو ديستويفسكي، أو عبد الرحمن منيف، أو الياس خوري ـ لكنَّهم أبطال ساخرون كانوا يهجون المرحلة التاريخية في صراعهم ـ كلٌّ بإمكاناته ـ مع القمع. روعةُ نذير جعفر أنَّه وإنْ لامسَ المرآة فنشوف حالنا، لكنَّه كثيراً ما عمل على كسرها لنرى ما لم يتسن لنا أن نراه. هو حاول كما الرسام أن يسلب المرآة واقعيتها كعاكسةٍ للواقع، فيفرجينا السحر ـ سحر اللوحة. وَلِمَ لا والعقلُ لبُّه من سحرٍ، يلبُّ، يشتعلُ في السحر. لكنَّنا كُنَّا نريد الراوي أن يجازفَ أكثر، أن يكذبَ، أن يقيم ستاراً، يضع ستاراً على المرآة العاكسة، فيحكي لنا حكايات و لا الجان حكتها، لا سيما أنَّه كما أسلفنا ـ يحفرُ في منطقةٍ بكرٍ من تاريخ الحياة السياسية في سوريا، نبيل سليمان حفر قبله في «سمر الليالي». هنا كان على نذير أن يجنَّ بعقله في لحظةٍ قد لا تتكرَّر، وأنَّ الحبَّ والسياسةَ أخذا شكلاً/ مساراً طفلياً عند معظم شخصيات روايته؛ فيذهبون إلى مصائر جديدة. فيسافر بشير إلى بيروت للالتحاق بالفدائيين، وخلدون إلى بلغاريا في بعثةٍ لصالح منظَّمة التحرير، وشاهو إلى جبال الأناضول ملتحقةً بالثوَّار الأكراد، ورياض إلى دمشق ليعمل في مركز الدراسات الفلسطينية. شخصياتٌ أحببناها، وإن كانَ سلوكُ بعضها فيه عبثيةٌ و وجودية ـ إنَّما كانوا عاطفيين وساخطين، لم يكونوا عاجزين ولا أفظاظ. لأنَّ نذير جعفر كتب عن الحلم و كان يقشِّرُ عنه الصدأَ ليكشفَ لنا عن طفوليةٍ صوفيةٍ، صوفيةٍ ملتهبةٍ بوطنيةٍ صادقة ـ وطنيةٍ تريد أن تثقب بنارها قناع الاستبداد.
([) صادرة عن دار نون، حلب 2008