صفحات ثقافية

المثقف العربي المدني

null
فخري صالح

على المثقف العربي في المرحلة الراهنة أن يعيد النظر في دوره بعد أن شهدنا كل هذه الانهيارات التي ضربت الوجود العربي برمته، ودفعت الكثيرين منا إلى اليأس من إمكانية صلاح الحال، والوصول إلى نوع من التوافق بين السلطة والمجتمع على عدد من الثوابت التي تحفظ على هذه المنطقة من العالم وجودها في حده الأدنى.
لقد كانت هناك نتائج كارثية لما أدى إليه تدافع الأحداث في السنوات الأخيرة، والتوتر الكبير الذي نشأ عن احتلال العراق للكويت وتشريد أهلها، ومحاولة النظام العراقي السابق محوها من الخريطة (!)، وما نشأ عن ذلك الاحتلال البغيض من تدمير للتوافق العربي الهش وشلل في جميع مؤسسات هذا التوافق المتواطأ عليه أصلا. يضاف إلى ذلك ما ولدته أحداث أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن، واحتلال أميركا للعراق وتدمير الدولة والمجتمع فيه، وانهيار النظامين السياسي والاجتماعي، وغلبة القسمة والاحتراب الطائفيين على حياة مواطنيه. كل ذلك أدى إلى انسداد الآفاق وأدخل السلطة والمثقف والشعب في نفق مظلم لا ندري إلى متى يدخل إليه بعض بصيص من نور.

ليس المثقف بالطبع مسؤولا مباشرا عما حصل لأنه ليس شريكا أساسيا في صنع القرار، بل هو بالأحرى مستبعد لا يسمع صوته، فالسلطة في معظم أقطار الوطن العربي لا تستمع إلى صوت أحد سوى صوتها، ولا تقر توجها سوى توجهاتها.

يضاف إلى هذا الوضع المعقد من انسداد السبل بين الحكم والمجتمع المدني أن المثقف العربي المعاصر سعى طوال القرن الماضي لكي يكون جزءا من السلطة، وأصبح بالفعل جزءا منها أو ترسا في آلتها في بعض الأحيان، مما أثر على وظيفته كمثقف نقدي له رسالته التي يسعى إلى تحقيقها في الحياة العربية المعاصرة.

لقد كان هناك مثقفون راغبون في القيام بهذا الدور، بدون شك، لكن ضغط الحياة اليومية، وتوحش أداة قمع السلطة في بعض البلدان العربية، وتطور آليات الاستتباع واشتغال لعبة الترغيب والترهيب، وقصر نفس المثقف العربي، كلها أثمرت فشلا ذريعا للمهمة الرسالية التي نذر لها المثقف نفسه على صعيد الخطاب. ومن ثمّ تحول العديد من المثقفين إلى مثقفين تقنويين في خدمة السلطة، أو حتى لخدمة الفئات المعارضة، التي تدفع لهم أجرهم وتصطفيهم بصورة أو أخرى. لقد ذهب الحلم النهضوي بالمثقف القادر على مراقبة السلطة والتقليص من دورها على حساب المجتمع والمؤسسات المدنية، ودخلت النخب الثقافية الديمقراطية والليبرالية حالة سبات، لا أدري متى تفيق منها، فيما نشط المثقفون التوفيقيون الذين لا يقدمون حلولا فعلية للمشكلات المعقدة التي يواجهها الوطن العربي في هذه المرحلة الزلزالية من تاريخنا.

لكن حتى لا نلوم المثقف العربي، الطامح إلى صعود مؤسسات المجتمع المدني وتبلور التجارب الديموقراطية في الوطن العربي، علينا أن نذكّر أن السلطات العربية الحاكمة لم تهمش دور المثقف فقط بل حاولت إلحاقه وتمييع مواقفه، وسحقته في بعض الأحيان، إن لم تكن حولته إلى بوق وببغاء يمتدح سياساتها الكارثية على صعيد السياسة والاقتصاد والمجتمع.

إن مأساة العراق تفتح الباب واسعا لنعيد النظر في كل ما يتصل بمنظومة حياة العرب المعاصرين. فنحن لم نستفد من تجارب الآخرين، ولم نستفد من تجاربنا نحن، وبقينا متمسكين بأوهام بالية وعواطف ساذجة عاجزين عن تعلم الدرس بأن زمان الحرب الباردة ولّى، وأن السياسات القائمة على وجود محورين استراتيجيين تبخرت ولفظت أنفاسها. فماذا فعلنا نحن لاستيعاب هذا الدرس

الجيو ـ استراتيجي؟ ظللنا نلوك كلاما عتيقا وخطابا غضنفريا متهافتا دون أن ندرك أن علينا أن نعيد النظر بصورة جذرية في كيفية عيشنا في هذا العالم.

إنني لا أتكلم هنا عن السياسيين والحكام، وحدهم، بل أتكلم عن المثقفين الذين يقع على عاتقهم أن يعيدوا النظر في منظومة الأفكار وأسس الخطاب الذي يستعملونه، فالهجوم على الإمبريالية الأميركية ينبغي أن يتلازم مع نقد عنيف لظاهرة الاستبداد وغياب الديموقراطية الحقيقية في العالم العربي، على جميع المستويات السياسية والاجتماعية والتعليمية والثقافية. ودون الإقرار بأننا نعيش في ظل نظام من القيم غير الديمقراطية، التي لا تهتم بحقوق الإنسان وشرعة المواطنة والمساواة بين الأفراد والفئات والطوائف والأعراق، سوف نظل نعيش حالة من التمزق والشرذمة والأزمات المتفاقمة. على المثقف إذن أن يكف عن تبرير حالة القمع والاستبداد، التي نقيم في ظلالها، وأن يوجد مسافة تفصله عن السلطة ليستطيع نقدها.

كاتب من الأردن

الأحد, 24 فبراير 2008


مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى