سجال العولمة في “الهوية والعنف”

د. طيب تيزيني
أصدرت سلسلة “عالم المعرفة” مؤخراً (يونيو عام 2008) كتاباً يحمل عنواناً مثيراً في سياق السجال الفكري العالمي الراهن، وهو: الهوية والعنف، بقلم الباحثة الأميركية (أمارتيا صن). ولا تأتي أهمية هذا الكتاب من أنه إنتاج هذه السنة -مع أنه صدر في لغته الأصلية الإنجليزية قبل عامين في نيويورك- فحسب، بل كذلك من كونه يمثل سِجِلاً لمناقشة الكثير من المواقف والآراء ووجهات النظر حول الموضوع المذكور: الهوية والعنف، وما يتصل به من حيثيات كبرى منها، خصوصاً “العولمة” مفهوماً وحالة راهنة معيشة. ويُضاف إلى ذلك أن الكتاب إياه يصدر باللغة العربية، ليقدم إلى الحوارات العربية حول الموضوع المذكور، مزيداً من التحفيز للتدقيق والتعميق.
لهذا ولأمور أخرى قد نكون أغفلناها، تبرز المسألة المعنية هنا بدعوة حثيثة لتلقُّف الكتاب المذكور بهدف مناقشة محاوره الكبرى، على الأقل، من قِبل الكُتاب والباحثين والمفكرين العرب وغيرهم من أوساط المثقفين والمهتمين العرب. وبالرغم من أن الباحثة أطلقت في كتابها جملة من الآراء التي لا تخلو من تحيّز أو من بعضه، فإن ما قدمته هو حقاً جدير بالتناول. إنها تنطلق، في هذا السياق، من فكرة مركزية تتحدد فيما يلي: (ص 726 من الكتاب المعْني): سوف أجادل في الوقت الحاضر بأنه من الخطأ أن نرى الحِرمان والحيوات المنقسمة كعواقب للعولمة، بدلاً من رؤيتها كفشل للتدابير الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، والتي هي عارضة تماماً وليست رفيقاً لا مفرّ منه للتقارب العالمي. وتزيد على ذلك، مُشكِّلة بجدوى الانتقادات، التي تُوجَّه للعولمة، حيث تشكك في أن هذه الأخيرة يمكن أن تقدم مساهمة إيجابية ومهمة على صعيد التفكير بإعادة بناء النظام العالمي (الاقتصادي والسياسي خصوصاً). وأخيراً، تتساءل الكاتبة: هل نعيش حقاً في عالم بلا أخلاق؟ في وقت تُقر فيه بأن هناك كثيراً مما يمكن أن نشعر حياله بالإحباط في قلة التعبير عن قاعدة أخلاقية عالمية مؤثرة في التعامل مع قضايا عالمية عميقة الإيلام.
تلك أفكار أولية مركزية تطلقها “أمارتيا صن”، أرادت منها تنبيه القراء إلى أن ما يعيشه العالم الراهن من ويلات عسكرية واقتصادية وثقافية وغيرها، ليست هي حالة لا فكاك منها في إطار العلاقات الدولية، وإنما هي “حالة عارضة تماماً”. ومع أن “صن” أقرت بوجود مثل تلك الويلات، إلا أنها اعتبرتها أمراً “عارضاً” طارئاً. والسؤال هنا، الذي يفرض نفسه، هو: إذا كان ذلك كله أمراً عرضياً وطارئاً، فما هي مرجعيته التي يعود إليها؟ هل تتمثل في أن البشر أو فريقاً منهم يحملون، بفطرتهم، جينات شِرّيرة؟ أو، هل يكمن ذلك في أن أولئك لم يعودوا يحتملون تلك الويلات، لأن “وعيهم” بها أصبح كثيفاً يضخم الأشياء، دون أن تكون هي كذلك، ومن ثم، فإن هذا الوعي مثّل بنية “زائفة”؟ وإذ يظهر ضعف هذه الافتراءات، فإنها أي الباحثة، تقدم افتراضات أخرى، منها ما يُعلَن عنه من أن هنالك عنصراً “مضاداً للغرب”، في أجزاء من حركة مناهضة العولمة. وتوضح هذا القول بأن الاحتفال بالهُويّات غير الغربية من مختلف الأنواع، سواء الدينية (مثل الأصولية الإسلامية)، أو الإقليمية (مثل القيم الآسيوية)، أو الثقافية (مثل الأخلاق الكونفوشية)، يمكن أن تضيف وقوداً إلى نار الفصل والعزل الكوكبي ( ص 730).
وبتلك الكيفية، تتحول “العولمة”- وهي التعبير عن النظام العالمي الجديد- إلى حالة افتراضية أو إلى صيغة من صيغ الثأر من “الغرب”، في ذهن المناهضين لها. ما تقدمه الباحثة “أمارتيا صن” تحديداً للعولمة، في تصوّر القوى المناهضة لها، لا يعدو أن يكون رداً أيديولوجياً مُجافياً للواقع. أما ما تراه هي فيتمثل في النظر إلى العولمة بمثابة “عالمية” لا يمكن رفضُها، خصوصاً على صُعُد الرياضيات والتكنولوجيا والعلوم (ص 133)، مِما يضع المسألة في غير موضعها. وهذا يعني أن الكاتبة خرجت من موضوع بحثها بوصفه عولمة تحدّد المعالم الكبرى للنظام العالمي الجديد.
جريدة الاتحاد