المنفى والهوية والحنين إلى الأوطان
عبدالحسين شعبان
في كتابه تأملات المنفيين يعرّف الصحافي البريطاني جون سمبسون، المنفي بالقول “هو الشخص الذي لا ينسجم مع مجتمعه” ثم يعدد أسباب المنفى، أن منها ما هو سياسي أو ديني أو غيرهما. وإذا كان ما ذهب إليه سمبسون يعيد إلى الأذهان رسالة الجد الأقدم للمثقفين العرب والمسلمين، الكاتب المبدع والمتميز “الجاحظ” (الحنين إلى الأوطان)، فإن تدفق المجموعات والكتل البشرية الهائلة والهروب الجماعي كان في الغالب لأسباب تتعلق بالحروب الخارجية والنزاعات الداخلية المسلحة لاسيما ذات الطبيعة الاثنية والدينية والمذهبية ولأهداف سياسية وأبعاد اقتصادية وغيرها.
وكان المفكر الأمريكي (الياباني الأصل) فرانسيس فوكوياما، قد حذّر ومن دون بحث في الأسباب من تعاظم مشكلة المهاجرين واللاجئين، في عالم ما بعد “نهاية التاريخ” الذي ابتدعه في أواخر الثمانينات معلناً سيادة الليبرالية كنظام سياسي واقتصادي على المستوى العالمي، معتبراً مشكلة تدفق المهاجرين من بلدان الجنوب “الفقير” إلى بلدان الشمال “الغني” أحد التحديات التي تواجه العالم المعاصر.
وقد أضاف المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون في كتابه “صدام الحضارات” بعداً جديداً على فكرة فوكوياما رغم تعديلات الأخير ما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية الإجرامية، مفاده أن العدو المحتمل والتحدي الأساسي لعالم ما بعد انهيار الأنظمة الشيوعية في بلدان أوروبا الشرقية والاتحاد السوفييتي سيكون “الإسلام” الذي يشكل تهديداً خطيراً لظفر الليبرالية على المستوى العالمي على أساس نظريته المعروفة بصدام الحضارات وصراع الثقافات.
ومع تعاظم مشكلات وإشكاليات اللاجئين والمنفيين تبرز مسألة البحث عن الهوية، ومسألة الاندماج وتفرعاتها، ومسألة الخصوصية الثقافية والقومية والدينية، لاسيما في إطار تفاعل الهويات وتداخلها خصوصاً للجيل الثاني للمنفيين، التي قد تظهر بشكل صارخ أحياناً.
مشكلة اللاجئ أو المهاجر أو المنفي تبدأ بالتفكير بمغادرة الوطن وتمر بشبكات ووسائل الانتقال المشروعة وغير المشروعة، حيث تواجهه طائفة من أنواع الابتزاز والعقبات والعراقيل، وقد تؤدي بالبعض إلى فقدان جزء من العائلة، ثم تبدأ مشكلة الوصول والتكيّف مع البلدان المضيفة (المستقبلة) خصوصاً في موضوع الحياة اليومية وصولاً لمسألة الهوية والاندماج.
لعلي هنا أتذكر رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني “رجال تحت الشمس” في الحديث عن رحلة النفي أو الهجرة أو اللجوء، كيف قُدِّر لهؤلاء الرجال الذين بقوا في الصهريج ينتظرون موتهم ببطء ويأس ومن دون حراك، فبدلاً من فتح باب الفرج، انفتح لهم باب القبر بكل صمته وكلامه، وبإيحاء كنفاني الذي كان منولوجه الداخلي عالي النبرة، خاطب هؤلاء الرجال: لماذا لا تصرخوا؟ لماذا لا تدقوا كي يسمعكم من هو بالخارج؟
كان الخوف من اكتشافهم من جانب سلطات الحدود العراقية الكويتية وهم يجتازون مفرق صفوان، هو الذي أجبرهم على الصمت، والإذعان إلى الموت انتحاراً إذا جاز التعبير، إن صمتهم وعدم حراكهم سببه الخوف من ضياع فرصتهم في الهجرة، فبعد النفي الأول من الوطن كان البحث عن منفى جديد مؤقت ولو للعمل، ولم يخطر ببالهم أنهم يرحلون هذه المرّة إلى المجهول، إلى العالم الآخر.
إن مأساة الفلسطيني التي صوّرها غسان كنفاني ببراعة تتكرر يومياً وبصورة دراماتيكية مرعبة أحياناً، ويكاد لا يمر أسبوع أو شهر إلا ونسمع موتاً جماعياً، غرقاً أو اختناقاً أو ضياعاً، فالكوارث الطبيعية وحراس الحدود والشواطئ يقفون بالمرصاد، والمشهد يستمر: قوارب وبواخر وشاحنات وقطارات وسيارات، ومهرّبون وسماسرة، وضحايا وسجون وقصص لا تنتهي عن النفي والمنافي والرعب والحروب والنزاعات المسلحة والجوع والتطهير القومي والديني وهدر الكرامة.
لم تكن مأساة دوفر البريطاني التي ذاع صيتها (العام 2000) سوى واحدة من الشهادات اليومية على الموت البطيء لضحايا مجهولين وانكسار آدميات وإذلال بشر، والمشهد يتكرر في إفريقيا وآسيا وعلى شواطئ وحدود دول أوروبية… هكذا تتحول الجنان الموعودة إلى كوابيس مزعجة، وحرّاس الحدود والمطارات والموانئ يقفون سداً منيعاً أمام “زحف الجراد” على الأرض الخضراء، وتعرض شاشات التلفاز صوراً بشعة، ولكنها للأسف أصبحت مألوفة، لاسيما عندما يذبل الضمير، بحيث لا تثير الاهتمام والتعاطف المطلوب بل والعمل الجدي لوضع حد له، كما هي الجثث التي لفظها البحر وأخرى تجمدت وضحايا مطاردات وإصابات عبر الحدود والأسلاك الشائكة والحواجز، ومع ذلك ترتفع في البلدان الصناعية المتقدمة بعض الأصوات المؤثرة التي تندد بالهجرة وتطالب بالتشدد إزاءها لاسيما بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) الإرهابية، بل وتشرّع القوانين والأنظمة التي تعطي الحق لاحتجاز اللاجئين وإبعادهم من دون أمر قضائي وذلك لمجرد الاتهام، ومن دون اعتبار لما تقرره قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقية حقوق اللاجئين لعام 1951 وملحقها لعام 1967.
ومع الاستقرار المؤقت أو الاندماج الجزئي في المجتمع الجديد، تبدأ مشكلة الهوية والحنين إلى الأوطان ومعها تطل هواجس الروائي الألماني أريش ماريا ريمارك في روايته الشهيرة “ليلة لشبونة”، فالمهاجر كثير الشك، منغلق في مجموعات، يثير ريبة أهل البلاد الاصليين أحياناً، ويتعامل مع العالم الخارجي في الكثير من الأحيان بمنظار أمني، ويعاني من فقدان هويته الاصلية وعدم قدرته على التكيّف مع الهوية الجديدة.
أما ازدواجية الجنسية في ما بعد فإنها أحد تعبيرات ازدواجية المواطنة، وهذه تثير نوعاً ملتبساً من الهوية والولاء. لعل تميّز كتاب المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد “خارج المكان”، لا يتأتى فقط من أسلوبه الشيق والممتع أو من السرد الدرامي حسب، بل من عمق مضمونه أيضاً. لقد استطاع إدوارد سعيد وهو أحد أبرز المثقفين العرب الموسوعيين في القرن العشرين أن يخاطب العقل “الآخر” ويتحدث عن تجربة اقتلاع شعب من أرضه ورميه في النسيان أو خارج المكان في محاولة لمحو ذاكرته ومصادرة تاريخه وإقصاء مستقبله.
ولعل هذا الاستذكار اليوم له أكثر من دلالة، الأولى أنه يأتي بعد 06 عاماً على النكبة، والثانية أنه رغم فداحة التجربة وعمق المأساة، فإن تمسك الفلسطيني بحق العودة مسألة غير خاضعة للتصرف، والثالثة أنه ما زال رغم كل الظروف متمسكاً بهويته الأولى وإن كان أحياناً قد اكتسب هوية إضافية، لكن هويته الأصلية ظلّت غير قابلة للمساومة.
إن كتاب “خارج المكان” هو محاولة لإحياء الذاكرة، لإيقادها، لإبقائها حية، والبحث في التفاصيل الصغيرة، التي تشكل عوالمها مهمة أساسية يستعيدها المنفيون واللاجئون. وخارج المكان هو بحث في الهوية وحنين إلى الوطن، رغم العواصف والتنقلات والهجرات والثقافات، إلاّ أن الهوية تظل الهاجس الذي يطل برأسه ويلوح بصورة عفوية ومن دون استحضار مسبق.