صفحات مختارة

الليبرالية بين الفكر والمادة

null
حنا عبود
لم تنتصر الليبرالية في أوروبا إلا في العصر الحديث، بعد ظروف معينة، بعد التراكم الأولي، في أعقاب فتح أمريكا واستعمار الشرق. إن الليبرالية ليست نتيجة نظرية فكرية، بل نتيجة ظاهرة مادية. هناك طاقة مادية تطلب الحرية لنفسها، فلا بد لصاحبها من أن يتفلسف حتى يخترع لها القوانين والأسس والأنظمة التي تجعلها حرة تتصرف أينما كان. ولليبرالية أسماء كثيرة، ففي أنظمة الحكم يطلق عليها «الديمقراطية» وفي الإعلام «حرية الرأي» وفي التجارة «اقتصاد السوق»، الذي صار اليوم يحمل اسم العولمة، وفي الدولة «فصل السلطات» وفي المؤسسات «القطاع الخاص».. وهكذا. وعلى مسار التاريخ حاولت الليبرالية أن تنال مجدها وتحقق انتصارها، فلم تفلح حتى أتاحت لها الظروف الحديثة ذلك. ولتوضيح الصورة نعرض الليبرالية في قسمين كبيرين: ليبرالية الفكر وليبرالية المادة.
يبيّن التاريخ أن محاولات القادة القدامى كانت للجم الفكر ووضع حد له. فالفكر حر في السامي، ولكنه غير حر في المنحط. والفكر حر في الصالح العام وغير حر في الصالح الخاص… وهكذا. ففي المجتمعات البدائية كانت هناك ضوابط على الفكر، فلا يباح للمرء أن يفكر على «هواه» بل وفق مصالح العشيرة أو القبيلة. وما الطوطم والتابو سوى قوانين تحدد المتاح للفكر البشري. فمثلاً في القبيلة الطوطمية هناك محظورات على الفكر، يعدم من يخالفها. فإذا حرمت القبيلة الزواج من الأغراب تقيد الفكر بذلك… وهكذا في كل المحظورات الأخرى.
كيف ظهرت هذه المحظورات؟ من التفكير في الصالح العالم، فنتيجة ظروف معينة رأت قبيلة من القبائل أن وجودها مرتبط في فرض هذه المحظورات، وتتغير هذه المحظورات بتغير الظروف… فالمفكر لا يحق له التفكير إلا فيما يعود على القبيلة بالخير وتعزيز الوجود والبقاء.
وبلغ الفكر مستواه الرفيع في اليونان، فعلى يدي الإغريق ظهر «الفكر المجرد» وهو الفكر الحقيقي، الذي لا يرتبط بالظروف أو العرق أو الدين أو المذهب أو المصلحة الخاصة… هذا الفكر المجرد ظهر في اليونان فقط، ولكنه لم ينتشر بين الشعوب إلا قليلاً. هناك محاولات في العصر الحديث من أمثال «الوضعية المنطقية» و«البنيوية»، وهي محاولات ظلت محدودة التأثير في الفكر العربي.
لأول مرة صار التفكير ينحصر في الأمثل والأكمل والأجمل باعتبار أن التفكير أداة لها قوانينها الخاصة، ولا يخضع للأهواء والمصالح الخاصة. ولم يعرف التاريخ اليوناني اضطهاداً فكرياً إلا لدى محاكمة سقراط، حيث اتهم بتأييد الحكم الدكتاتوري المنافي للمصلحة العامة (اشترك تلاميذه في الانقلاب الدكتاتوري المشهور، وإن لم يشترك معهم) كما اتهم بنفي الآلهة (لم يحارب لفكرة النفي، بل لأن ذلك يلغي مئات الأعياد الرياضية والأدبية مما يسبب التفكك في الشعب). فحرية الفكر نفسها كانت لها ضوابط تمنع الأذى في المصالح العامة. فقبل المطالبة بليبرالية الفكر علينا أن نقدم «فكراً» أي العقلانية المتحررة من قيود المصلحة الخاصة أو الفئوية أو السلطوية أو العرقية أو الدينية.
يرتبط التقدم الحضاري، على مدار التاريخ، بالملكية العامة وليس بالملكية الخاصة. الملكية الخاصة سرقة كما قال عنها اشتراكيو القرن التاسع عشر، ولا يمكن لسارق أن يبني إلا «حضارة» السلب والنهب. إن المسارح والمؤسسات والمنظمات والتماثيل الجميلة وأمكنة الاحتفالات والملاعب الرياضية.. كلها شيدت على حساب الملكية العامة، ملكية الدولة، وليس ملكية الأفراد، والغرض منها تحقيق «السموّ». ولو سيطر القطاع الخاص في التاريخ القديم لما شهدنا كل هذه المسارح التي نشرها اليونان في حوض المتوسط.
إن الاتجاه العام للتاريخ يبيّن أنه من دون قطاع عام لا يمكن الاستمرار في التقدم، بل يبقى التاريخ عند الصراع المنفلت للملكية الخاصة. بمعنى آخر كانت الحركة الإنتاجية ستظل تخضع لقانون الأسماك، فيأكل كبيرها صغيرها. وبنشأة القطاع العام نشأت القوانين الناظمة، التي لولاها لما أحرز الناس نجاحاً وانتقالاً من مرحلة إلى مرحلة.
إن الشعوب الواعية القديمة كافحت بكل طاقتها القطاع الخاص، بل لم تقتصر على الملكية الخاصة، وإنما تعدتها إلى الملكية الشخصية. ونكتفي بمثال من اليونان عن الفيلسوف المشهور ديمقريط.
كان فيلسوفاً حراً، أي يناقش وفق قوانين المنطق، أي بعيداً عن المصلحة الخاصة أو الحزبية أو العرقية أو الدينية. وبعد موت أبيه ورث بعض المال فسافر إلى مصر وليبيا وأثيوبيا وبابل… ولما عاد استدعي إلى المحكمة بتهمة التبذير، فلا يحق للمواطن أن يتصرف حتى بالثروة الشخصية، التي ورثها عن أبيه أو كدح حتى حصل عليها ، فالأمر سيان. ولما عرض على المحكمة المخطوطات التي حصل عليها في رحلته، تبين أنه قدم فائدة كبيرة لليونان، فبرأته المحكمة من التهمة وجعله الشعب «أرخوناً» على مدينته أبديرا.
هكذا نظر الإغريق إلى الثروة، وهكذا كافحوا ليبرالية المادة، كما كافحوا ليبرالية الفكر. كانوا يدركون أن الليبرالية لا تحتاج إلى حكومة ولا دولة ولا قانون، وإنما هي عبارة عن حرب بين موازين القوى، فمن كان الأقوى كان المستولي على السلطة، ولهذا وضعت القيود الكثيرة على أصحاب الثروات أثناء الانتخابات، لخلق نوع من المساواة بين المرشحين.
أدرك الإغريق أن الثروة طريق إلى السلطة، والعكس صحيح، لذلك كانت مراقبة مخاطر الثروة من أهم عمل المشرعين والفلاسفة والمفكرين. واليوم نرى الدعوة إلى الليبرالية تتعاظم أكثر فأكثر من قبل دعاة العولمة، من غير رسم حدود لهذه الليبرالية، أين تقف في الفكر وأين تقف في الثروة؟ ما عقابيلها في الفكر وما عقابيلها في الثروة؟ إن مؤتمر «الثمانية» في طوكيو اليوم يدرس توزيع العالم بين الأغنياء، وليس توفير الظروف المناسبة لـ«السموّ». إنهم «ليبراليون» حقاً.

كاتب من سورية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى