صفحات الناس

مضافات للعموم

null
سعاد جروس
أن تكون صحفياً وتضطر للسفر العاجل لتغطية حدث دولي أمر لا شك في أنه ممتع, ليس لأن الصحفي يتمتع بامتيازات خاصة تكفل تسهيل أمور سفره
بل لاضطراره لإنجاز معاملاته بسرعة قياسية, لا يحسد عليها, تستنزف قواه العضلية والذهنية قبل السفر, فلا يكاد يصل إلى موقع الحدث إلا وقد أصبح مرشحاً ليكون هو الحدث, إذا لم يصبح هو خبراً عاجلاً في سجل المصابين أو حتى الوفيات. لكن ما أن ينجز مهماته كما يقتضي الواجب المهني حتى ينسى أوجاعه, ويعيد الكرة مرة أخرى, مثل الأم تقسم مع كل ولادة متعثرة بألا تنجب ثانية, وما أن يهل الموسم التالي حتى تستقبله بحمل توأم, فالولد يُنسي أمه الألم, وكذلك العمل الصحفي يبقى حلواً مهما بلغت مرارته.
مناسبة هذا الحديث, اليومان اللذان عشناهما كصحفيين قبيل المغادرة إلى فرنسا لتغطية وقائع زيارة الرئيس الأسد إلى فرنسا التي تأتي بمناسبة انعقاد قمة «اتحاد من أجل المتوسط» في 13 الشهر الحالي, فعلى الرغم من التسهيلات التي قدمتها الجهات المعنية السورية €وزارتا الإعلام والخارجية€ بالتواصل مع السفارة الفرنسية وتأمين فيزا خاصة, إلا أن مشكلات أخرى ظهرت في ربع الساعة الأخير. وكانت الربع ساعة مناسبة للدخول إلى عدة دوائر رسمية وخصوصا لتدبير إجراءات السفر والتغطية الإعلامية.
وبما أن الوقت ثمين في ظرف عزيز كهذا, تتحول المنغصات إلى مشكلات يصعب تجاوزها, تتطلب مرونة وبرودة أعصاب من الدرجة الممتازة, ولا سيما حين لا يجدي أبدا الابتهاج بالطريقة العصرية لتنظيم الدور في الدوائر العامة, من خلال الحصول على رقم في انتظار ظهوره على الشاشة الالكترونية, لأن هذا لا يعني شيئا سوى أن تبقى تنتظر وتنتظر وتنتظر حتى ينبت من تحتك الحشيش, والسبب لأن زبوناً آخر قطع «كرت» واسطة كي لا ينتظر, وزبونات آخرين ينجزون معاملاتهم على التلفون مع الموظف الذي يتابع عملك, وزبونات التلفون «حاجة تانية خالص» طلباتهم أوامر على العين والرأس. عدا ذلك, ثمة زبونات ليسوا زبونات بل تائهون ضلوا مكاناً ما يقصدونه, أو اعترضتهم مشكلة, فلا يتوانون عن الدخول الى الشركة التي تطورت وتحدثت وجعلت واجهتها زجاجية شفافة تعبيراً عن الشفافية, ليدخل إليها عابر سبيل ­ أي عابر سبيل ­ ويشغل الموظف بالسؤال والمسألة, فيما المنتظرون بالدور بدأوا بالتعفن, تفوح منهم روائح الضيق والملل والترحم على أيام الوقوف في الطابور والتدافع. وإذا خانت المنتظر رباطة الجأش وثار على الموظفين معبراً عن احتجاجه لتسلبط أحدهم على دوره, سبقه الموظف إذا كان لطيفاً مؤدباً إلى الشكوى والتباكي, فالظلم الواقع عليه مضاعف, ويسأله لو كنت مكاني ماذا تفعل, أنت ترى الضغط, هل تظن أننا سعداء بهذا الوضع. أما إذا كان الموظف عصبي المزاج وأرهقته كثرة الاتصالات والأسئلة, فسوف يصرخ بوجه المحتج, ليخرس وينتظر, أو يشد الرحال ليرمي نفسه في البحر.
… وبالنسبة الى اجهزة قطع رقم الدور, الأفضل وضع سطل ماء بجانبها كي يبل الزبائن الأرقام بالماء ويشربوها, فالضغط فعلاً أكثر مما نتخيل, رأيناه بأم العين في البنك التجاري وفي مكاتب حجز شركة الطيران, وفي المطار وسائر الجهات الرسمية التي تتحدث وتتطور بصعوبة, ليصبح قطع تذكرة الدور عبئاً إضافياً على الموظف والزبون معاً, ما لم تتوقف المحسوبيات والأفضليات, وما لم يتم تحديد مهمات كل موظف؛ إما هو عامل مقسم ومعقب معاملات, أو موظف مكلف بمهام معينة, وما لم­ وهو الأهم­ يتم تشغيل عدد كاف من الموظفين لتلبية حاجات الزبونات, فمن غير المعقول مثلاً أن يكون الطابور عند الوزن في المطار بالعشرات, بينما موظفان اثنان فقط لا غير يعملون على تسييرهم!! ومن غير المنطقي ألا يسمح لزبون البنك التجاري السوري بتبديل أو شراء عملة أجنبية إلا مبلغاً محدداً وبداعي السفر, ويتطلب ذلك معاملة طويلة عريضة فيها صورة عن تذكرة السفر والجواز, ويستهلك انجاز المعاملة في حالات السرعة القصوى نصف ساعة على الأقل, من دون حساب فترة الانتظار طبعاً, وقد ينشغل فيها أكثر من موظف, في حين يمكن للصرافين تبديل العملات بكل يسر وسهولة وخلال دقائق!! فما الحكمة من حرمان البنك التجاري تبديل العملات, لا أحد يعلم غير الذي سن تلك القرارات والأنظمة المالية, مع أن كثيراً من الناس, في ما يتعلق بالأمور المالية لا يثقون إلا ببنوك الدولة. علماً أن البنك التجاري واحد من أولى المؤسسات التي شهدت عمليات تطوير وتحديث «حثيثة». ولقد وضعنا حثيثة بين قوسين, لأن التحديث الجاري لم يتجاوز بعد عملية نفض الأبنية وتزجيجها وتركيب أجهزة كمبيوترات غالبيتها لا تعمل إلا بشكل محدود جداً وسياسة منح حوافز تجنن العاملين وتثير الغيرة والحسد وما يترتب عليهما.
وعلى سبيل المثال, حين يعلن أن الهجرة والجوازات صارت تنجز معاملاتها بالكمبيوتر على الواقف, وبسرعة غير مألوفة تفاجأ برؤية العاملين مسترخين تحت مراوح السقف يتقلبون كالفراريج على الكراسي من الحر وأنفاس المراجعين في مكان مخنوق, ضيق وقذر, لأن المكيفات توزع على الغرف بحسب الرتب الوظيفية, أما الحمامات فرحمة من رب العباد, أن الجامع قريب جداً, مع سبيل ماء, وإلا لفطس العاملون في يوم وليلة. ضمن هذا المنظر يغدو مألوفا جداً دفش المراجع إلى الطوابق العليا وتسلق الأدراج المعتمة كي يرسل برقية تتطلب الانتظار لليوم التالي, حتى يصل الرد, فالبرق ما زال حياً يرزق في دوائرنا بعد أن أكل الدهر عليه وشرب في كل أصقاع الأرض.
وكي لا يظن القارئ أن الصحفيين عانوا الانتظار أو ضاع وقتهم سدى, لا بد من الاعتراف أنهم لاقوا معاملة خاصة تكريماً واحتفاء وحتى تفضيلاً, لكنها كانت فرصة لسماع شكاوى الموظفين قبل المراجعين من المواطنين, من فوضى قرارات تطويرية زادت في بلادة الروتين وتعقيده, في مجتمع يصر على اعتبار مؤسسات الدولة مضافات للعموم, والتحديث زرع كاميرات مراقبة وصرف نهار كامل لإصلاح خلل فني في الكمبيوترات.
الكفاح العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى