حرية الإبداع أم إبداع الحرية؟!
فرج بيرقدار
السجن حيِّز مغلقٌ ومضادّ.
الحرية فضاء حميم ومفتوح.
في فضاء الحرية تبدع الطبيعة وأبناؤها الأكثر أصالة، جمالياتٍ لا متناهية، من شأنها أن تماهي ما بين الحرية والملكوت.
قد لا يكون صعباً الإجماع أو الاتفاق على أنّ الحرّيّة تميل إلى العطاء والجمال والإبداع، وبالتالي إلى الحياة.
كما ليس صعباً الاتفاق على أنّ السجن أو الأسر، بمعناه السياسيّ على الأقلّ، يميل إلى الظلمة، وتقويض المعنى وكسر الإرادات، حتى لكأنّه من سلالة الموت.
أجل.. الحرية شقيقة الحب والرحمة والأخلاق، والسجن شقيق الكراهية واللعنة وشهوة الافتراس.
بالطبع يمكن سَجنُ الجسد وتقييد الحركة، فذلك ليس خارج قوانين الطبيعة. ولكن لحسن الحظ أنّ الخيال، وهو من أبرز عناصر العملية الإبداعية، عصيّ على الأسر، وذلك وفق قوانين الطبيعة نفسها.
بهذا المعنى كنت أشعر وأنا في سجني، أنّ للحرية طيوراً قادرة على جعل السماوات أكثر اتساعاً، وربما أكثر زرقة أيضاً. غير أنّ الشعر بالنسبة إلي كان طائر الحرية الأجمل.
لم يكن مضى على اعتقالي سوى أيام، حين أيقظتني زنزانتي، ذات مصادفة أو ضرورة، على أذان الشعر.. فتوضأتُ وحرَّرته في داخلي، ليحرِّرني مما يتربص بي من غوامض وتوجسات تفضي إلى ما هو أكثر غموضاً وتوجساً.
حين يكون المطروح عليك، أو أمامك، أو على أنقاضك، هو الخيار بين حلمك ولحمك، فما الذي تختار؟
في بلد كسوريا لن يسعفك الواقع أبداً في أيّ خيار تطمئن إليه.
سيسعفك الإبداع، رسماً وشعراً وموسيقى، وما قاربها من فنون وصلوات يرتبك في حضرتها حتى الطغيان.
إنّ حرفاً كحروف منير شعراني، أو خطاً مائلاً كخطوط يوسف عبدلكي غير المائل، أو جملة موسيقية من مرسال خليفة، أو شعرية من قاسم حداد وأمثالهم، أقدر بجمالياتها وواحاتها، وحتى بسرابها، على مواجهة ما تشيعه أمِّيَّة الطغيان من تصحُّر في الجغرافيا والتاريخ والثقافة والأخلاق وصولاً إلى الروح.
ولعل إدراك ذلك أو استبطانه هو ما يدفع نسبة كبيرة أو لافتة من السجناء السياسيين إلى اقتناص أي إمكانية، تتيحها ظروف السجن، لتحقيق أي قيمة جمالية أو إبداعية، بدءاً من تلك المنمنمات التي يبدعونها من العظم أو الخشب أو نوى الزيتون والدرّاق، مروراً بالمذكرات والرسائل، وانتهاءً بمحاولات الشعر والقصة والرواية والمسرح.
كما أنّ كل محاولة إبداعية في السجن، مهما كانت متواضعة، من شأنها أن تعزِّز لدى السجين آلياته الدفاعية عن ذاته وأحلامه وذاكرته، وبالتالي عن المستقبل.
الفعل الإبداعي في السجن هو فعل حرية من جهة، وآلية دفاعية من جهة ثانية، وضابط إيقاع وتوازن ضروري في ظروف أبرز سماتها الاختلال.
لهذا كنت أحاول وأحاور وأدافع عن أهمية الكتابة في السجن، حتى حين لا يكون السجين مبدعاً.
أكتبْ أو ارسمْ لتسيطر على سجنك. لا تترك له أن يسيطر عليك.
وإذا كنتَ مبدعاً حقاً، فلتبدعْ حريتك الداخلية، الذهنية والنفسية والوجدانية والروحية، فمن دونها ستمرض حريتك الأمّ، بل ربما ستجدها ميتة بعد خروجك من السجن.في الحقيقة كنت أدافع حتى عن الثرثرة وأهميتها في السجن، وليس عن الكتابة فقط.
إذا كان السجن، في أحد وجوهه، محاولة حثيثة لإلغاء كينونة المرء ومعناه، فإن أي محاولة يقوم بها السجين لخلق المعنى، من شأنها أن تدرأ عنه مفاعيل السجن أو بعضها على الأقل، وبالتالي أن تجعله على مقربة من حريته في العمق، وليس في المستوى الشكلي أو الظاهري.
الشعر، بالنسبة إليّ داخل السجن، كان سبيلاً إلى إبداع الجمال عموماً أو كتحصيل حاصل، ولكن في سياق إبداع المعنى أساساً وعلى وجه الخصوص، أي سبيلاً إلى إبداع الحرية.
هموم “حرية الإبداع” وهواجسها تنحسر في السجن، أو تفسح الطريق، وربما تكرّس نفسها لهموم وهواجس “إبداع الحرية”.
أن تبدع جمالاً معناه أنك تبدع حرية أو تؤسس لحرية مبدِعة.
تساءلتُ وسئلتُ كثيراً عمّا إذا كان هنالك من سبيل إلى الإبداع بدون حرية؟
وكان جوابي دائماً: لا.
يقيني أنه لا يمكن للآداب والفنون أن تكشف عن فضائلها ومفاتنها في مناخات معادية.
وإذا تمكَّنتْ من ذلك بصيغة أو بدرجة ما، فعلى سبيل مواجهة اللعنة وليس منادمة الرحمة.
هل هذا يعني أن السجناء غير قادرين على الإبداع لكونهم لا يمتلكون الحرية؟
جوابي هو أيضاً: لا.
ولكن هذا يقتضي منا القدرة على الرؤية والتمييز، وتحديد الروائز والمعايير التي من شأنها فرز الحريات الحقيقية من الحريات الزائفة.
أن تجرؤ على طرح أسئلتك ومسائلك بحرية وإبداع في بلد مثل سوريا، يعني أولاً أن تكون حرّاً أو سجيناً.
الحرّ والسجين يستطيعان ما لا يستطيعه من ليس حراً ولا سجيناً، وللأسف أن معظم أهلنا ليسوا سجناء ولا أحراراً.
كثيرون ممن نعتقد، أو يعتقدون، أنهم أحرار، لا يمتلكون من أمرهم شيئا.
وكثيرون ممن عاشوا ويعيشون في السجون، يمتلكون من الحرية الداخلية، المحروسة بقوة الضمير والأخلاق، ما لا يمتلكه حتى سجّانوهم. بل إنني على درجة عالية من الاقتناع، بأنّ سجين الرّأي، في سوريا و”أخواتها”، استطاع ويستطيع أن يعبّر عن رأيه، قولاً وكتابة، بصورة لا يستطيعها غير السجناء، وذلك لأنه يقف خارج حسابات الخوف من الاعتقال أو التهديد به. إنه في اللجّ، أي ما بعد الرقابة التي تصبح شاخصاتها وخطوطها الحمر في هذه الحال، ليست بذات محلّ.
في الواقع هناك استثناءات مشابهة لسجناء الرأي، تتمثّل في الكتّاب السوريين الذين يعيشون في المنافي، وذلك لأنهم أيضاً، مع تفاوت الدرجات، خارج تلك الحسابات المعقدة والملعونة.
ما كان يشغلني ويقلقني في السجن هو كيفية وإمكانية تهريب أوراقي إلى الخارج، وليس الخوف من الرقابة أو من معرفة السلطات بأفكاري وآرائي المطروحة في تلك الأوراق، وذلك لأنّ سقف التسعيرة “الدراجة” لمسائل من هذا القبيل، في ذلك الحين، إنما هي الاعتقال، مع عدم إهمال الفوارق بين اعتقال من فئة خمس نجوم، وآخر من فئة نجمة واحدة أو بدون.
مرّة استطاعت إدارة السجن مصادرة دفعة من أوراقي المعدَّة للتهريب. طلبني على إثرها مدير السجن ليقول لي بنبرة استنكارية متوعِّدة: يبدو أنك لا تنوي الصلاة على النبيّ.. كيف تجرؤ على وصفنا بما وصفتنا به في أوراقك؟!
قلت مستهتراً وساخراً وساخطاً في أعماقي، ولكن بملامح جادّة أو حيادية: تلك هي قناعاتي على أية حال، فإن هي لم تعجبك، فإنك تستطيع اعتقالي.
بدت لي نظرته كما لو انه استفاق على صفعة من بداهة لم يسبق له أن فكّر فيها.
قبل الاعتقال كانت الكتابة تستدعي مني حسابات عديدة مربِكة ومركَّبة، تتعلّق بردود فعل الرقابة والسلطات الأمنية، كما بردود فعل الرقابات الأخرى ولا سيما الاجتماعية والدينية.
في السجن يتراجع دور جميع الرقابات موضوعياً وذاتياً، أو على الأقلّ يتراجع حضورها والإحساس بها على المستويين الواقعيّ والنفسيّ في آن معاً.
ولعله ليس من المصادفة أبداً أن الارتفاع النسبيّ أو الجزئيّ لسقف الجرأة في الكتابة أو التعبير أو حدود الحراك السياسي والثقافي، الذي شهدته سوريا خلال السنوات العشر الماضية، إنما يعود بدرجة كبيرة إلى الدور الذي اضطلعت به نخبة من المثقفين، الذي أمضوا سنين طويلة من حياتهم في السجون.
بالطبع لسنا بحاجة إلى السجون لنتحرّر من الرقابة أو لنبدع.
الحرية بحد ذاتها هي الإبداع الأرقى، وهي التربة الأكثر خصباً لكل أنواع وأشكال الإبداع، وهي في الوقت نفسه شرطٌ أساسٌ للإبداع، ما يعني أن كل ما هو ليس حرية، أو كل ما هو رقابة على الإبداع مفروضة من خارجه، إنما هو مسألة غير أخلاقية، كما يعني أيضاً أنّ السجناء والعبيد ينبغي أن يكونوا أقلُّ حظاً في ميادين الإبداع. ولكن هذه الفكرة الصحيحة بالمعنى العام، لا تقبل الإطلاقية، ولا تقطع الطريق على إمكانية وجود الاستثناء، ولا سيما في ظروف خاصة من مثل ظروف سوريا، حيث المفاهيم والدلالات تتغير، بل تأخذ معاني نقائضها.
ألم تأخذ حالة الطوارئ معنى التأبيد؟
ألم تأخذ الجمهورية معنى الملكية؟
ألم يفضِ شعار “الوحدة والحرية والاشتراكية” إلى تكريس القطرية وتوسيع السجون ورسملة الدنيا والآخرة بأرخص كلفة ممكنة؟
ألم يأخذ الأمن وأجهزته المتعددة معنى الرعب والبطش وهدر الكرامات القومية والوطنية والشخصية؟
ضمن هذا النسق الغرائبي، يغدو من الطبيعي، أن يأخذ السجناء في سوريا معنى الأحرار، أو الأكثر حرية بالمعنى النسبي.
* مداخلة ألقيت في مؤتمر”الحريات الثقافية والإعلامية في المشرق العربي” الذي نظمته مؤسسة سمير قصير الثقافية في بيروت 16و17 حزيران 2008، وذلك بمناسبة إطلاق مركزها الإعلامي للدفاع عن الحريات الصحافية “سكايز”.