صفحات الناس

الأزمة الاقتصادية والمعاشية في سوريا.. إلى أين؟!

null
لا نبالغ إذا قلنا، إن سوريا تمر بأزمة اقتصادية ومعيشية خانقة، تهدد بتدمير الحياة الاجتماعية والاقتصادية لقطاعات واسعة جدّا”من الشعب السوري. هذه الأزمة أخذت تتفاقم قبيل عام 2006- لكنها وصلت إلى ذروتها هذا العام-2008-. فإذا لم تتدارك السلطة هذه الحالة الصعبة والمعقدة وتتراجع عن تدابيرها الرعناء، وتبحث عن حلول ناجعة لها، فسنشهد مزيدا”من التدهور والانحدار في اقتصادنا السوري، وتحطيما”منهجيا”متسارعا”،للأوضاع الاجتماعية للناس بسبب الغلاء الفاحش، الأمر الذي ينذر بعواقب وخيمة، ستنعكس على مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
خلال السنتين الماضيتين ازدادت أسعار المواد الضرورية للمواطن ذي الدخل المحدود. وقد سبقها أو رافقها فرض الكثير من الضرائب والرسوم، بما فيها قيمة فواتير الكهرباء والماء. كما ارتفع سعر الغاز المنزلي حوالي 60%  أماّ عن أسعار العقارات والأبنية السكنية وأجور السكن فحدّث ولا حرج.
هذا العام تضاعف سعر البنزين وترافق معه ارتفاع كبير لأسعار السلع الأساسية تراوح، حسب تقدير أغلب الاقتصاديين، مابين50%و100%. وممّ زاد في الطين بله”، إقدام السلطة على رفع سعر ليتر المازوت أكثر من ثلاثة أضعا ف.
لقد خلق الارتفاع الجنوني للأسعار فوضى عارمة في الأسواق. فبات كل صاحب سلعة يفرض أسعاره على هواه، دون أن تحرّك الرقابة التموينية ساكنا”. و أضحى ارتفاع سعر المازوت الفاحش مبرّرا” لرفع الأسعار ومشجعا” على الاحتكار في بلد يعاني الأمرّين من البطالة الواسعة وضآلة الدخل. لكن الأمر الأكثر خطورة آت من الأثر المدمّر على الإنتاجين الزراعي والصناعي، وعلى الخدمات وأجور النقل التي تضاعفت بدورها. وإن ننس لا ننسى أزمة الخبز التي اصطنعتها السلطة حين قنّنت كمّيات الدقيق وحاولت فرض السعر الجديد للمازوت على الأفران. و رغم وعود السلطة بالإبقاء على ثمن ربطة الخبز على حاله، إلا أننّا شهدنا معاناة كبيرة لدى المواطنين حين اختفت من محلاّت الباعة، فاضطروا للوقوف ساعات وساعات أمام الأفران، ممّا تسبب بالكثير من الصدامات والحوادث المؤسفة فيما بينهم.
يدّعي إعلاميو السلطة وبعض خبرائها الاقتصاديين، أن الأزمة الحالية ناشئة من عوامل خارجية طارئة، تتلخّص في نشوب أزمة الغذاء العالمي، بسبب النقص الكبير في إنتاج القمح والأرز، ممّا أدّى إلى ارتفاع أسعارهما. كما تعود إلى الارتفاع المستمر لأسعار النفط العالمية وأسعار مشتقاته. ويتحدثون أيضا” عن عوامل داخلية، أهمها تهريب البنزين والمازوت والسلع المدعومة خارج الحدود. فهذا التهريب يلحق ولاشكّ خسائر كبيرة لا تتحمّلها خزينة الدولة. ولا ينسون أيضا” عامل الجفاف الذي أصاب البلاد وأدى إلى شحّ في الموارد المائية وسوء المواسم، وخاصة”القمح والشعير. كما سيؤثر تأثيرا” كبيرا” على محصول القطن.
وهناك من يشير أيضا” إلى جشع التجار الذين استغلوا رفع الدعم عن عشرات السلع. يضاف إلى ذلك هجرة الأشقّاء العراقيين خلال السنوات الخمس الماضية.
باعتقادنا، أنّ العوامل الداخلية والخارجية المشار إليها، ستؤثّر على اقتصادنا الوطني ومستوى معيشة المواطنين. لكّن تدابير السلطة في مواجهتها لم تكن موفقة.فكانت منحازة، إذ ألقت بأعباء هذه الأزمة بشكل خاص على كاهل المواطنين ذوي الدخل المحدود وعلى الفئات الأخرى عموما”والتي يعيش معظمها على تخوم مستوى الفقر. كما لم تتّخذ التدابير المناسبة من أجل تحقيق العدالة، وتوزيع الأعباء على جميع المواطنين، ونقصد هنا زيادة الضرائب على الشرائح ذات الدخل العالي وضبط التهرّب الضريبي. يضاف إلى ذلك تخفيض نفقات الدولة ووقف الهدر في مؤسساتها ومكافحة التهريب وسواها من التدابير الضرورية.فهناك اذا”مخارج كثيرة إذا أعيد دراستها يمكن أن توفر دخلا”أكبر بكثير مما اقتطعته السلطة من جيوب الطبقات الفقيرة لتسدّ عجز الخزينة كما تدّعي. ولما كنّا بحاجة إلى رفع الدعم وزيادة أسعار المشتقات النفطية بهذه الطريقة الفاحشة
ومن المفيد هنا الإشارة إلى بعض الأمور التي لم تؤخذ بالحسبان أيضا”:
1- سوريا ليست البلد الوحيد الذي يتعرّض لمثل هذه الأزمة. فلماذا لم يؤخذ بالاعتبار ما فعلته السلطات  المصرية والأردنية،حين أبقت الدعم،في ظل هذه الظروف الصعبة.إنها ولاشك لم ترم بثقل الأزمة على  كاهل المواطن العادي وحده.وربّما بحثت عن أبواب تمكنها من تجاوز أزمتها.
2- سوريا بلد منتج للنفط والقمح والشعير.فإنتاجنا من هذه السلع الإستراتيجية يكفي حاجتها،بل يفيض عنها.فبإمكانها أن تؤمّن كميات احتياطية كافية لمواجهة سنوات عجاف كالتي نشهدها اليوم.
3- إن رفع الدعم عن السلع المدعومة وزيادة أسعار البنزين والمازوت،بسبب استفحال ظاهرة التهريب، أمر غير مقبول ولا يمكن تبريره.و رغم أن المخزون النفطي أخذ منذ بضع سنوات، يتناقص بسبب الاستنزاف الكبير للآبار خدمة”للمافيا النفطية المعروفة التي تتلاعب في استخراجه وتسويقه، إلا أننا نستطيع توفير هذه المادة بالسعر المعقول لو حزمت السلطة أمرها واتّخذت التدابير الجادة لمنع التهريب.
إن أية سلطة عاقلة وفي أي بلد من البلدان، تحرص في ظروف صعبة كهذه أن تؤمن حاجة شعبها من السلع الضرورية وبالأسعار المناسبة. لكن سلطة كسلطتنا،حيث يعجّ فيها أصحاب النفوذ ومراكز القوى التي ترعى المافيات، يصعب عليها أن توقف التهريب، وبالتالي تصبح عاجزة عن إيجاد الحلول الناجعة لأزمتنا الحالية ومواجهة الظاهرات الشاذة في اقتصادنا الوطني التي تسببها تلك المافيات. ولعلّ الفضائح التي كشف عنها في مجال تهريب المازوت،والتي تتلخص في مدّ أنابيب تحت الأرض على الحدود السورية- اللبنانية،لا يمكن أن تكون من فعل عصابة صغيرة أو مواطن عادي. فمسألة التهريب عموما”،وفي هذه المادة خصوصا
مرتبطة ارتباطا”وثيقا”بقوى مدّت نفوذها إلى أعلى مستويات الدولة.
4- هناك من يدّعي من منظّري النظام، أن جعل أسعار السلع قريبة من أسعار الدول المجاورة كلبنان والأردن،يمكن أن يحدّ من التهريب. لكنه ينسى أن الدخل المتوسط للمواطن السوري لا يكاد يصل إلى عشرة آلاف ليرة سورية بعد الزيادة الأخيرة على الأجور. فكيف يستقيم الأمر عندما يشتري هذا المواطن الخضار والفواكه بأسعار السعودية التي تساوت مؤخرا”مع أسعارنا؟! وهل هناك إمكانية واقعية لرفع دخول المواطنين السوريين إلى مستوى دخول اللبنانيين والأردنيين؟! من المؤسف أن الدولة لا تأخذ بمبدأ ترابط الأجور مع الأسعار.هذا المبدأ هو الذي يحقق التوازن ويحفظ- ما أمكن- مستوى حياة مقبولة لدى المواطن العادي.إن الزيادات على الأجور، في ظل هذا النظام القائم لم تحقق أبدا هذا المبدأ، بل كانت الأسعار الكاوية تسبقها،ملتهمة تلك الزيادة وتتجاوزها إلى الدخل الأصلي فينخفض باستمرار مستوى حياته.
إن الأوضاع المزرية التي يعيشها المواطن السوري ليست بنت هذه الأزمة. فقد سبقتها أزمات كثيرة منذ قيام النظام الشمولي الذي فرض على البلاد. لكتّها أخذت تتنامى مع مجيء نظام حافظ الأسد الذي وضع يده تدريجيا”على مصادر الثروة ومفاتيح الاقتصاد السوري. وسخّرها لصالح الفئات التي تناصره، تديرها حفنة صغيرة من بطانته. وأخذت تظهر مع الزمن مافيات متخصصة.وسرعان ما أخذ دورها الاقتصادي يتسع مترافقا مع اتساع دور الأجهزة القمعية التي تحكّمت في رقاب الناس والمعارضين.بل تجاوزته إلى المؤسسات الحزبية والشعبية وإدارات الدولة والقطاع العام.وهكذا أضحت هذه المافيات في ظل هذا النظام قادرة على التلاعب بالاقتصاد الوطني، توجهه وفق مصالح الطغمة النافذة في السلطة دون أي رادع قانوني أو أخلاقي. لقد أضحى  الاستبداد والفساد أهم سمتين من سمات النظام.
خلال عمر النظام الطويل،وبسبب النهج المشار إليه تبدلت أحوال المجتمع وتغيّرت أنماط حياته الاقتصادية والاجتماعية وسار خطه البياني نحو الانحدار وتدنى مستوى الحياة فيه واتسعت دوائر الفقر وتحطمت الطبقة الوسطى.وهكذا شهدنا أوسع فرز طبقي في تاريخ سوريا الحديث،حيث تجاوز مستوى الفقرحدودال65%من السكان.وحسب رأي بعض الاقتصاديين سيصل إلى 75%. أما الطبقة الوسطى فتتراوح بين 15- 20%،وأن أقل من 10%من السكان يتحكمون في مصائر الاقتصاد الوطني بل في مصائر المجتمع بأكمله.
ولعلّ السمتين المذكورتين أعلاه:الفساد والاستبداد قد تمكنتا من التغلغل في بنى المجتمع كتغلغل السرطان في جسم الإنسان وهذا ما يفسّر جنوح النظام نحو المغامرة في كلّ شيء، وبالتالي لا أمل في إصلاح يرتجى من الطغمة الحاكمة الحالية.وأن الحياة تؤكّد مرة”بعد أخرى أن أي إصلاح لا يمكن إلا أن يمر عبر الإصلاح السياسي الذي يضع الأسس السليمة لمختلف أشكال الإصلاح الاقتصادي و الإداري والقانوني والاجتماعي.
من الطبيعي من نظام كالنظام السوري،قام على شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية، لكنّه استند في آليات حكمه على الأحكام العرفية،وعطّل الحياة الدستورية والقانونية في البلاد،وجعل إرادة الحاكم بديلا”لها،وكمّم الأفواه وصادر الحريات العامة وقتل الحياة السياسية،أن يتحوّل إلى نظام مافيوي احتكاري يسخّر اقتصاد البلد لصالح فئة اجتماعية ضيقة،تتلاعب بقوت الفقراء من أبناء المدن والأرياف، كانوا فيما مضى قاعدته الاجتماعية. إن هذا الارتداد يؤشّر إلى الافتراق الكبير عن تلك القاعدة.ولابد أن تنعكس آثار هذا الافتراق على الاستقرار والأمن الاجتماعي.بل قد نشهد اصطفا فات اجتماعية جديدة ضد سياسات السلطة تشارك فيها دوائر هامة من أوساط النظام.فالسلطة لم تعد قادرة بسبب جشع مافياتها أن ترشي أو تؤمّن مصالح تلك الدوائر.
لقد شهدنا خلال الأشهر القليلة الماضية الكثير من الاحتجاجات والتحركات العفوية هنا وهناك،لكن أهمها ماجرى في المحافظات الشمالية والشرقية وبعض الأماكن الأخرى كالزبداني.هذه التحركات ليست تعبيرا”عن تململ شعبي فحسب،بل يمكن أن تشكل إرهاصات لا نستطيع التنبؤ بها وقد تأتي كإنذار يدق ناقوس الخطر.فهل من مجيب؟؟؟
إن الأزمة الاقتصادية للبلاد والأوضاع المعيشية الصعبة للشعب ليست سوى جزء من الأزمة العامة في سوريا،بل إحدى تعبيراتها الأبرز.و مالم تغيّر السلطة من رؤيتها ونهجها وأساليب عملها،وتنهج سبيل الإصلاح الجذري الذي يلامس حدود التغيير بشجاعة علمية وانفتاح على المجتمع لتأمين مشاركته ورعاية مصالحه،فان كل المعالجات الجزئية والمجتزأة،وسائر إجراءات الترقيع والتخدير ستبقى مجرد مسكّنات موضعية لا تلامس جوهر الأزمة،وسرعان ما يتبخّر أثرها وتؤدي إلى دفع الأزمة عمقا”واتساعا”إلى أمداء أكثر تعقيدا وأشد خطرا”على مستقبل البلاد.
طريق التغيير هي الطريق الوحيدة المأمونة (دون خضّات اجتماعية) والمضمونة (تصل إلى نتائج ايجابية وملموسة) لوضع سوريا على سكة السلامة من جديد. إذ (لابدّ من صنعة وان طال السفر).

(من مواد العدد 78 من نشرة الرأي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى