صفحات ثقافية

مقبرة الأسماء

null
اسكندر حبش
»كل رغبتنا الأساسية تكمن في أن لا نترك وراءنا أي أثر، بيد أن كل ما نفعله هو خيانة أنفسنا باستمرار«. لا بد من أن تحيلنا جملة الشاعر الفرنسي هنري ميشو إلى سؤال أساسي، غالبا ما نعود إليه ولو بطريقة غير واعية: »هل من حُكم أخير أو لنقل هل هناك »يوم حساب« في الأدب أيضاً؟
قبل هنري ميشو بقرن ونيف، أبدى الكاتب الفرنسي ستاندال اهتماما جديا بهذه المسألة المتعلقة بالمستقبل، مستقبل استمرارية حضور الكاتب بعد موته، وإن كان يجد، في العمق، أن المسألة عقيمة لا نفع فيها.
من البديهي أن الذي يكتب ويفكر ويرسم، يأمل بمعنى ما أن »يترك وراءه اسماً« (مثلما كان يُقال في الماضي). فهذا الاهتمام، أو هذا الانشغال، قضية ليست بغريبة أبداً، لا على السياسي أو المحارب أو المهندس أو الرياضي أو مصمم الأزياء أو الطباخ… ولا حتى على رب العائلة الذي يأمل بدوره أن يطيل إلى أبعد فترة ممكنة، زمنيا، شهرته وثروته أو حتى مجرد اسمه، عبر التناسل والإنجاب. حتى بعض القتلة كانوا منشغلين بقضية المكانة التي سيحتلونها في »أسطورة المنبوذين الدموية«.
قبل اختراع غوتنبرغ، كان الكتّاب مجبرين على التواضع. إذ إن أعمال الذين سبقوهم عرفت معدلاً مرتفعاً في نسبة الوفيات: ثمة محفوظات كاملة من الأدب المصري والسومري والآرامي اختفت مع حريق مكتبة الاسكندرية. ومن التراجيديات اليونانية الكبيرة العائدة لأخيل وسوفوكليس ويوروبيدس، لم يتبق سوى القليل منها، فالنار التي أضيفت فوق النسيان، كانت تحيل الاستمرارية إلى عملية وهمية جداً. بيد أن ذلك لم يمنع أبداً الكتاب الإغريق واللاتين من العيش على أمل المجد الخالد.
حتى وإن كانت فكرة المستقبل هذه، تربك الفنانين الكبار منهم والصغار إلا أنهم كانوا يعرفون، وزيادة في تعقيد الأمور، أن لديهم أشياء أخرى يقومون بها في هذه الحياة.
ذات يوم، كتب هنري لورول (رسام) إلى صديق له (موريس دوني) قائلاً: »علينا أن نكون مثل رامبدانت أو بوغيرو كي نجد في أنفسنا هذه العبقرية«. بالرغم من انه، من المستحسن إيجاد هذه العبقرية، إلا أن الفنانين الكبار ولحسن الحظ نادراً ما ينظرون إلى هذا المستقبل بعيوننا نحن، أي كما ننظر إلى الألعاب الأولمبية والعدائين وأبطال العالم.
لا يقوم الكاتب والرسام والموسيقي الموهوب أو غير الموهوب إلا بما يستطيع القيام به. إذ بالرغم من كل »الشرعية« التي تتحلى بها الرغبة التي يظهرها في البحث عن مكانة له، إلا أن الأمر ليس عائدا له فقط. ثمة العديد من الأمور التي تتداخل في رسم هذا المستقبل، لكن على الأقل، انه حاول أن يبدع، وهذا هو الأهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى