كتاب في الحقيقة المكبوتة
حسام عيتاني
يعيد فتحي بن سلامة في كتابه المدهش »التحليل النفسي في الاسلام« طرح الاسئلة الاولى: كيف صيغ الوعي واللاوعي (او اللاشعور) العربيان والاسلاميان؟ أي دور ادى الدين في الوصول الى حالة التمزق السياسي والاجتماعي والثقافي التي يعيشها المسلمون حول العالم؟
وخلافا لاكداس الكتب التي تناولت هذين السؤالين، يمضي بن سلامة في درب غير مطروق، درب التحليل النفسي والبحث، من هاجر، الأم الاصلية للجماعة العربية التي اهملها النص الديني كما التاريخ العربي والاسلامي على الرغم من دورها في المنشأ والبدايات الاولى لظهور العرب وانفصالهم عن المجموعات السامية الاخرى، وولادتها لاسماعيل. طمس دور هاجر تبعه كبت شمل كل الدور الانثوي في الاسلام، على ما يرى بن سلامة.
ويعرج المحلل النفسي على رواية الكاتب الهندي سلمان رشدي »آيات شيطانية« باحثا عن الاسباب التي جعلت المسلمين يشعرون بهذا القدر من الغضب حيال كتاب كان ذنب مؤلفه انه مس، من حيث لا يدري ربما، المناطق المحرمة في الارضية التي قام الاسلام عليها، مناطق تختفي منها العصمة المطلقة وتبدأ فيها مخاوف تلبس الشيطان لبوس الملائكة. والادعى الى غضب المسلمين كان ان رشدي قارب النص الديني من الزاوية التي تعمل المؤسسة الدينية على ابعادها عن الانظار منذ التأسيس، زاوية الشكوك التي عصفت بالنبي حيال نبوته وحيال معايشته حالات من التخلي التي بدأت مع موت ابيه ومن ثم امه واعمامه الذين تكفلوا بتربيته ووصولا الى الفترة التي خشي فيها ان يكون الوحي قد انقطع عنه.
الغضب الاسلامي حيال رشدي، يشبه من بعض الوجوه ذلك الهيجان الذي قابلت به المؤسسة الدينية والثقافية التقليدية كتاب طه حسين »في الشعر الجاهلي« في العشرينيات من القرن الماضي. فعلى الرغم من عدم تشكيك الكاتب المصري بالنص الديني وكونه صادرا عن وحي الهي، الا انه اغضب المسلمين بشدة بسبب تشكيكه في الحاضنة الثقافية التي تشكل النص في اطارها، أي الشعر الجاهلي (وهذا باختصار شديد). وعلى الرغم من العديد من نقاط الضعف في اطروحة طه حسين حول اصالة الشعر الجاهلي، وهي نقاط لاحظها نقاده بسرعة على أي حال، وعلى الرغم من بعض التراجعات التي ضمنها لصيغته الجديدة للكتاب والتي حملت عنوان »في الادب الجاهلي«، الا انه تمسك بفكرة تقول ان المرجع الحقيقي لتاريخ العرب قبل الاسلام هو النص القرآني وليس الشعر او ما يحسب من »أخبار الاولين«.
قراءة كتاب فتحي بن سلامة الذي صدر عن دار الساقي قبل اسابيع قليلة بترجمة رجاء بن سلامة، توحي ان الباحث التونسي في التحليل النفسي والمقيم في فرنسا، يحقق نجاحا مهما في مشروعه الذي يمكن ان نختصره بأنه طرح اسئلة الانسان الحديث المدعمة بتقنيات ومنهجيات التحليل النفسي وخصوصا مدرسة فرويد ولاكان، على الاسلام كدين، في الدرجة الاولى وعلى المسلمين الذين حول بعضهم الدين هذا الى ايديولوجيا، وعلى الظروف التي فرضت على الاسلام والمسلمين سلوك هذا الطريق دون غيره والوقوع في الازمات التي نعاني منها دون سواها.
وجود العديد من المؤلفات التي تطرقت الى المجتمع في صدر الاسلام ونشوء الدولة العربية ـ الاسلامية والحروب الاهلية المبكرة في قلب تلك الدولة (حروب الردة والفتنة)، لا يقلل من اهمية »التحليل النفسي في الاسلام« الذي يمثل محاولة جريئة للتقدم نحو الامساك بعناصر اللاشعور المكونة للنظام الرمزي والخيالي عند المسلمين والعرب. كان فرويد الذي لم يكن يقيم فارقا بين المكونات النفسية للفرد وتلك التي تميز الجامعة، قد انجز عملا مشابها في دراساته عن اليهودية، وظل الاسلام بعيدا عن اهتمامات مؤسس علم النفس الحديث. ومع التقدم الذي شهدته مدارس التحليل النفسي، ربما يكون فتحي بن سلامة اول باحث يضع الاسلام، بأصله وبنظامه الرمزي وبخطابه المضمر على طاولة التشريح.
ولعلنا لا نبالغ اذا قلنا ان واحدا من عناصر تميز الكتاب الجديد، او بالاحرى الترجمة العربية الجديدة نظرا الى ان الطبعة الفرنسية ظهرت قبل ستة اعوام، هو ذلك الاصرار على ربط الحاضر بالماضي والسعي الى كشف مؤثرات الثاني في الاول بحيث تبدو سلسلة المكبوتات الاسلامية متصلة الحلقات لتبلغ زمن النبوة وما قبلها، زمن تأسيس الجماعة العربية. فتنكشف واضحة عندئذ الاسباب التي تجعل العرب والمسلمين على هذه الدرجة من الغضب والشعور بالغبن وأسباب ذلك العنف المخزون فيهم.
ربما يقيض لهذا الكتاب ان يكون مقدمة جهود تؤدي الى ان يرى المسلمون والعرب انفسهم بمرآة الحاضر وليس الماضي، لأنهم يعيشون في الحاضر في حين ان الماضي قد مضى وان لم تختفِ مورثاته بعد.
السفير