شعر سنية صالح المقاوم للظلم والموت
شوقي بزيع
بصدور الأعمال الكاملة للشاعرة السورية الراحلة سنية صالح، عن دار المدى في دمشق، يعاد الاعتبار ولو بشكل متأخر لهذه الشاعرة المتميزة التي تعرضت تجربتها لظلم فادح وتجاهل غير مبرر من قبل النقاد وجمهور الشعر على حد سواء. وأغلب الظن ان زواجها من محمد الماغوط هو الذي أسهم في دفعها إلى منطقة الظل وإبقاء شعرها بعيداً عن التناول النقدي ليس فقط بسبب النجومية غير العادية التي امتلكها أحد المؤسسين الكبار لقصيدة النثر العربية، بل لأسباب سيكولوجية واجتماعية ذات صلة بالطبيعة الذكورية الطاغية للمجتمعات الشرقية التي لا تسمح للمرأة بأن تنافس الرجل أو تزاحمه في أي مجال من المجالات بل عليها أن تكون تابعة له ولائذة به ومقيمة في كنفه.
لا تغفل الناقدة المبدعة خالدة سعيد، وهي شقيقة الشاعرة الراحلة وزوجة أدونيس، الاشارة ولو بشكل غامض وشديد الخفر الى أن العلاقة بين الماغوط وسنية لم تكن وردية ونموذجية كما يتوهم البعض أن يرى الى العلاقة بين شاعرين زوجين، إلا أن خالدة تبقي إشارتها تلك في خانة الإبهام تجنباً لسوء الفهم ورغبة في عدم الإساءة الى ذكرى الزوجين الراحلين، حيث رحلت سنية في منتصف الثمانينات ورحل الماغوط قبل أكثر من عامين، لا يعني ذلك بالطبع أن العلاقة بين الطرفين كانت مضطربة وسيئة بالكامل بل هي مرت ككل علاقة انسانية بالكثير من التقلبات السعيدة حيناً والتعيسة أحياناً أخرى. كما يجب ألا نغفل في هذا السياق الطبيعة المتقلبة والمثقلة بالغرابة للكتاب والفنانين الذين ترهقهم المؤسسة الزوجية بما تفرضه من التزامات وقيود وتقنين في منسوب الحرية. ولعل ما يصح على تجربة الماغوط وسنية صالح يصح على تجربة أدونيس وخالدة سعيد. فكل من الشقيقتين المبدعتين وقفت خلف زوجها في مسيرته الشاقة نحو التفرد والمغامرة مع فارق واحد وأساسي هو أن خالدة اختارت عن طريق النقد الأدبي أن تدفع تجربة أدونيس بعيداً الى حيث تصدرت واجهة الشعر العربي، أما سنية فوجدت ضالتها في الشعر نفسه حيث بات عليها دون قصد أن تقتطع لنفسها جزءاً غير قليل من المسرح الواسع الذي يحتله صاحب “الفرح ليس مهنتي”.
تعتبر خالدة في مقدمتها الكثيفة واللافتة لأعمال سنية صالح أن في شعر هذه الأخيرة “عالماً معطوباً ورؤية جامحة. وفي شعرها فوران سديم وأحشاء غاضبة وخيال طفولي. انها من الشعراء الذين الشعر عندهم كالأمومة، فعل وجود. وهو شعر لا يشبه أحداً ولا يدخل في تيار”. وقد يظن القارئ أن في هذا التقدم بعضاً من مبالغة عاطفية ناجمة عن صلة القربى ولكنه ما إن يوغل في قراءة الديوان حتى تتأكد له مصداقية التقديم ويجد نفسه عرضة للكثير من المباغتات التعبيرية والقصائد الصادمة والصادقة في آن بدءاً من القصيدة الأولى “جسد السماء” التي انتزعت الجائزة الأولى لمجلة “شعر” في أوائل الستينات من القرن المنصرم وحتى آخر قصيدة من مجموعة “حبر الإعدام” التي سبقت موت الشاعرة بسنوات قليلة.
ليس ثمة من صراخ ولا قرع طبول ولا خطب حماسية في الشعر الذي تكتبه سنية صالح بل هناك تمزق داخلي وحشرجة مكتومة تغلفهما دائماً أمومة فوارة لا تكف عن التدفق. وهناك عينان طفليتان تبحثان دائماً عما يرتق شروخ العالم ويعيده إلى لحظة انبثاقه. ففي قصيدتها الى ابنتها “شام” تقول الشاعرة: “يا غابتي الشقراء/شدي جذعك إلى جذعي/أدخلي عظامك في نفق عظامي/ثم اسحبي ما تبقى من جسدك واعبري/ ستكون امامك ممرات طويلة ضيقة/ والحقيقة تكمن في أشدها ضيقا”.
أما الموضوعات الوطنية والقومية التي حولها معظم الشعراء العرب الى مناسبات للضجيج والخطابة والردح البلاغي فقد تناولتها سنية صالح من زوايا مختلفة تنضح بالعطف والحدب والحنو كما في قصيدتها “أغنية للجزائر” التي تقول فيها: “الدرب تأكل الأقدام الصغيرة/وأنا أسير بلا ليل/وطني ورائي/والرياح قافلتي الكئيبة/من سراديب الرعب/يتسلل ضوءنا شامخاً كعصفور/أكثر دفئاً من عنق طفل”.
يصعب على المرء بالطبع أن يختزل ببضعة سطور تجربة سنية صالح الغنية والمؤثرة والتي تحتاج الى مقام غير هذا المقام. لكن ما لا يجوز إغفاله رغم ذلك هو الاشارة الى فرادة الصورة الشعرية عند سنية والتي تتألف غالباً من عناصر متباعدة ومفاجئة مثل “السعال يرفع وجهي أبراجاً من الضباب” أو “حبك يبحر بنا صوب سماء من عرق النساء” أو “الزمان ضيق، وأضيق منه جسد المحبين” أو “الحذر يقف على أفواههم كالحراس أمام الزنزانات المضغوطة”. واذا كانت هذه الميزة مشتركة بين سنية صالح ومحمد الماغوط فإن ذلك لا يعني بأي حال تأثراً بالشاعر الزوج أو اقامة في كنفه لأن الشاعرة الراحلة عرفت بموهبتها الأصيلة وجهدها الشاق كيف تصنع لنفسها حيزاً مختلفاً تمام الاختلاف عن تجارب الآخرين وبصماتهم التعبيرية.