إعلان دمشق في منعطف جديد
سلامة كيلة
انعقاد المجلس الوطني لإعلان دمشق شكّل انعطافة جديدة من الضروري التوقف عندها. فقد نجحت السياسة التي قامت على توسيع المجلس الوطني عبر ضم قطاع كبير من “المستقلين”، لتجاوز ما إعتبر مشكلة في الإعلان، ألا وهو الأحزاب (خصوصاً حزب الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل الشيوعي). وجرى التعامل مع المجلس وكأنه مؤتمر حزب له صلاحيات انتخاب مكتب الأمانة،
دون إلتفات إلى أن الإعلان هو تحالف أحزاب ومستقلين. وكان هذان العنصران يشيان بما يمكن أن يحدث في المجلس، لأن الصراعات التي تلت نشوء الإعلان كانت تشير إلى تناقض منطقين، وبالتالي سياستين. منطق/ سياسة تتمركز حول مقولة: استبداد/ ديمقراطية، أو كما تصاغ ” الهدف الجامع الموحّد، الذي يتمثّل بالانتقال بالبلاد من حالة الاستبداد إلى نظام وطني ديمقراطي”. وهو المنطق/ السياسة الذي يؤسس لتيار ليبرالي على العموم، لا يلتفت إلى الأخطار الخارجية بقدر تركيزه على الداخل، ويطرح تصوراً لبنية الدولة كدولة ديمقراطية دون التطرق لطبيعة اختياراتها الاقتصادية الاجتماعية، رغم أن ميول كتلته الأساسية تتحدَّد في الاقتناع بضرورة،بل وحتمية سيادة اقتصاد السوق، والاندماج بالعولمة. لهذا كان يرفض أي تلمس لمشكلات السياسات الإمبريالية، والأميركية خصوصاً في المنطقة، ويصر على حصر المسألة في نقطة وحيدة هي الديمقراطية. وهذا ما يظهر في برامج الأحزاب والتجمعات الممثلة لهذا الاتجاه (حزب الشعب الديمقراطي مثلاً).
والمنطق الآخر/السياسة الأخرى التي تحاول أن يتمحور التحالف حول أكثر من قضية رغم ميلها إلى اعتبار أن الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية هو الأولوية. وهذه القضايا هي التي ظهرت في التوضيح الذي صدر بعد تشكل الإعلان لامتصاص موجة النقد له من داخل بعض الأحزاب المشاركة (حزب العمل والاتحاد الاشتراكي) ومن طيف من اليساريين المستقلين. حيث جرت المطالبة بموقف واضح من المشروع الإمبريالي الأميركي، ومن مطالب الطبقات الشعبية، وكذلك من المسألة العربية، إضافة إلى مسألة الديمقراطية.
لهذا كان التوسيع وبهذه الصيغة هو المدخل لحسم هذا التناقض الذي كان يُحمّل مسؤولية شلل الإعلان، وعجزه عن التحرك والنشاط. الأمر الذي فرض إسقاط مرشحي كل من الاتحاد الاشتراكي وحزب العمل لمكتب الأمانة. وبالتالي بات الحزبان دون تمثيل في الهيئة القيادية الأهم، الأمر الذي يجعلهما بعيدين عن المساهمة في رسم سياسات الإعلان. وهو الأمر الذي لا يستقيم مع كون الإعلان هو عبارة عن تحالف. حيث بات يتحكم تيار واحد في تلك السياسة، هو ما يمكن أن نطلق عليه “التيار الليبرالي”. بمعنى أن الإعلان بات يمثل هذا التيار بالتحديد ولم يعد تحالفاً بين تيارات. ولقد كانت الملاحظة حين تأسيسه أنه كذلك، وأن مشاركة الاتحاد الاشتراكي ثم حزب العمل كانت في غير موضعها، لأن الوثيقة الأساسية كانت تمثل هذا التيار الليبرالي (كأحزاب مثل حزب الشعب وحزب العمال، ولجان المجتمع المدني، والمستقلين، وحتى الإسلاميين).
وإذا كان هذان الحزبان (العمل والاتحاد الاشتراكي) قد ضغطا من أجل تعديل مسار الإعلان، عبر إصدار التوضيح الذي تناول مسائل أخرى تتعلق بالمطالب الشعبية وبالمشروع الإمبريالي وبالوطن العربي، فقد جرى اعتبار (من قبل أساسيين في الإعلان) أن التوضيح “خطوة إلى الوراء” يجب أن تزال. وبالتالي أن يزال كل المصرين عليها. وهو ما حدث في اجتماع المجلس الوطني. وما من شك في أن أخطاء هذين الحزبين في إدارة الصراع هو الذي أسهم في الوصول إلى هذه النتيجة، حيث سمحا بأن يضم المجلس أغلبية ساحقة من المستقلين من تيار محدد، كما وافقا على صيغة الانتخاب رغم أن التحالف لا يقوم على الانتخاب لأن كل الأحزاب المشاركة يجب أن تكون ممثلة في هيئة القيادة، لأن السياسة التي ترسم في أي تحالف هي توافق بين آراء مختلف الأحزاب، هي الحد الممكن التوافق عليه، وحين لا يكون ممكناً ذلك ينتفي التحالف. ولقد كان واضحاً أن المنطقين/ السياستين ليس من الممكن أن يتحالفا، وكانت أوهام البعض هي التي تغذي إمكانية أن يتحقق توافق.
حيث أن المتابع لوضع المعارضة في سورية يتلمس بأنها باتت تتخندق في سياستين مختلفتين (طبعاً ربما أكثر من ذلك أيضاً)، سياسة تعبّر عن تيار ليبرالي “ديمقراطي” (ولقد وضعت كلمة ديمقراطي بين مزدوجين لأن كتلته الأساسية ليست ديمقراطية رغم أن شعارها الأساسي هو الديمقراطية)، يعتقد بأن الهدف الوحيد الضروري هو “الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية” في إطار سيادة حرية السوق، وفي إطار علاقات دولية طبيعية مع “الغرب”. وبالتالي إذا كان يطرح هدف الديمقراطية كهدف وحيد، إلا أنه يحمل مشروعاً متكاملاً، هو المشروع الليبرالي. وربما كان بعض من في هذا التيار يعتقدون بأن الانتقال إلى الديمقراطية هي خطوة أولى تفتح الأفق لإمكانية طرح الخيارات الأخرى التي تمثل الطبقات الشعبية. وهذه هي المحاججة التي طرحت منذ تفتق العقل المعارض عن هذا الشعار (أي الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية). لكن هذا الوهم سيسقط حين تحقق الانتقال، لأن كل آليات الانتقال (أي سواء وافقت السلطة التي باتت تمارس الخيار الليبرالي في الاقتصاد، أو تحقق التغيير وأصبح إعلان دمشق هو السلطة، أو جرى التغيير بفعل أميركي) سوف تفضي إلى فرض الليبرالية الاقتصادية على الضد من مطالب الطبقات الشعبية وعلى حسابها. ولاشك في أن الليبرالية الاقتصادية تتحقق في الواقع الآن، رغم أنها دون ديمقراطية. الأمر الذي يجعل طرح هدف الديمقراطية دون سياسة اقتصادية تمثل مصالح الطبقات الشعبية يصبّ في مشروع التيار الليبرالي. وبالتالي الديمقراطية وحدها ليست هدف كافٍ، ولا يمكنها أن تشكل رافعة للتغيير، ما دامت الطبقات الشعبية تعتبر بأن الأولوية هي لوضعها المعيشي بعد أن أصبحت تحت خط الفقر بدرجات. وليس من الممكن تحقيق التغيير بدونها، إلا في إطار مراهنات مرَضية على الخارج، أو على السلطة ذاتها.
السياسة الأخرى، وهي لازالت مشوشة ومتعثرة، نتيجة اختلاط المفاهيم وإرت الماضي، وربما مسائل أخرى، تقوم على تلمس ضرورة أن يجري التركيز على ثلاثة مستويات: الديمقراطية، والمشروع الإمبريالي، ومطالب الطبقات الشعبية، إضافة إلى الدور العربي لسورية وحل مشكلة الأقليات. رغم أن الخلافات في الإعلان تركزت على الموقف من “المشاريع الأميركية”، وكان وضع الطبقات الشعبية مهمشاً في هذه السياسة الأخرى.
لهذا يمكن اعتبار أن صيرورة الإعلان، والنتيجة التي وصل إليها في اجتماع المجلس الوطني، هي صيرورة تشكل التيار الليبرالي. والملفت هو أن هذه الصيرورة هي التي طردت الاتجاه الآخر، وليس وعي ذاك الاتجاه لاختلافاته مع التيار الليبرالي. أو توهمه على أنه قادر على لجمه، وفرض سياسة أخرى. ولقد ساعدت هذه الأوهام التيار الليبرالي، لأنها عززت من “قوته” نتيجة عدم انطلاقها من ضرورة الفرز منذ البدء، حيث كان من الطبيعي أن يتبلور هذا التيار في إطار المعارضة، وكان يمكن إيجاد سبل للتنسيق معه على قضايا هي مجال توافق، لكن الأوهام غيّبت إمكانية تبلور تيار آخر، هو التيار الوطني الديمقراطي الذي يمثل الطبقات الشعبية (وهو ما كنا قد حاولناه حين تأسيس “التيار الوطني الديمقراطي الاجتماعي)، ولم تحقق الفرز الذي كان ضرورياً لكي يستقيم وضع المعارضة، ولا تغرق في تناحرات مقيتة كما جرى داخل إعلان دمشق. ومن أجل توفير أشكال أخرى للتنسيق فيما بين التيارات. ولكي يبحث هذا التيار عن مرتكزاته بين الطبقات الشعبية التي بدا واضحاً أنها باتت تتململ نتيجة وضعها المعيشي الصعب.
إذن، أقرّ المجلس الوطني لإعلان دمشق وثيقة جديدة، وانتخب قيادة استبعدت قوى أساسية، وتشكل في صيغة هي أقرب إلى الحزب منها إلى الجبهة، ربما كانت تكرار للكتلة الوطنية، التي شكلت في حينها تيار. وإذا كانت الوثيقة قد خضعت للمساومة بين التيارين المشار إليهما، مما أدخل فيها ما لا يُعتبر من سياسات التيار الليبرالي، فقد حرصت على أن تكون “شلبنة” (إعادة صياغة محسنة) للوثيقة الأولى دون أن تحمل من التوضيح الذي صدر بعد ذلك سوى ظلال فقرتين هما: أن عملية التغيير التي يدعو إليها ” تحصّن البلاد من خطر العدوان الصهيوني المدعوم من الإدارات الأمريكية والتدخّل العسكري الخارجي وتقف حاجزاً مانعاً أمام مشاريع الهيمنة والاحتلال وسياسات الحصار الاقتصادي وما تفرزه من تأثير على حياة المواطنين ومن توترات وانقسامات خطير”، و” سورية جزء من الوطن العربي”. وربما بعض الإشارات إلى الوضع المعيشي في المقدمة دون أن يتحدد هدف يخصها. مما يجعل هذه المساومة غير مفهومة بعد أن أُبعد التيار الذي دفع باتجاه تضمينهما الوثيقة. وبالتالي ربما يكونا دون معنى، سوى ما يدخل في باب “المماحكات“.
وإذا كانت هذه الخلافات في المعارضة واضحة منذ زمن، وكانت تفرض تشكيل تحالف آخر، فإن هذه النتيجة تفرض أن تدفع إلى تأسيس هذا التحالف. فقد نشأ وضع جديد في المعارضة يفرض أن يتشكل تحالف يضم القوى والشخصيات التي تسعى لتحقيق التغيير وفق برنامج ينطلق من مصالح الطبقات الشعبية، ويسعى لتأسيس نظام ديمقراطي علماني، ويتأسس على رفض هذه الطبقات للمشروع الإمبريالي الصهيوني ولسيطرة الليبرالية الجديدة، وكذلك على دور سورية في الإطار العرب