المعارضة والمنعطف الجديد
در الدين شنن
تتوالى خطوات المنعطف الجديد .. مترابطة الأسباب والأهداف ، على المستويين الداخلي والخارجي . حيث يمضي النظام قدماً ، لمصلحة الطبقة الحاكمة ، في تصفية مرحلة الاقتصاد الموجه ، والإمعان في تطبيق اقتصاد السوق والخصخصة السافرة والمموهة بالاستئجار والاستثمار لمؤسسات الدولة الانتاجية والخدمية ، على مستوى الداخل . والعمل حثيثاً على إنجاز اتفاقيات الشراكة الأوربية السورية ، والانخراط في منظمة التجارة العالمية ، وفتح الاقتصاد والكيان الوطني برمته أمام اقتصاد السوق الاحتكاري العالمي ، وممارسة سياسة الصفقات في المحيط الإقليمي ، والدخول في مفاوضات ” غير مباشرة ” شكلاً ومباشرة موضوعاً حول الجولان المحتل ، على مستوى الخارج .
واللافت هنا ، أنه في الوقت الذي كان يجري ترحيب إقليمي ودولي غير نزيه بهذه الخطوات ، بل والمطالبة بالمزيد منها ، لم تبرز اعتراضات أو احتجاجات كبيرة متكاملة في الداخل ، بل كان هناك من ينتظر من النظام خطوات سياسية ” منفتحة ” أي ا ستكمال ” ليبراليته ” الاقتصادية وسياسته الإقليمية بليبرالية سياسية تجاه المعارضة داخلياً . سيما وأن أ وساطاً معارضة لديها هوى اقتصادي اجتماعي مقارب لهذه الخطوات ، وتحبذ التوجهات السياسية ” المعتدلة ” الخارجية الإقليمية والدولية ، وهي كانت السباقة في طرح مقاربتها هذه بوثائق وبرامج مقررة وبتصريحات لالبس فيها
بيد أن النظام تصرف على خلفية الاستئثار بالحكم ، وليس وفق تلازم الليبراليات ، مؤكداً على أن منعطفه الجديد ، هو لتعزيز مصالحه هو .. ولضمان ا ستدامته ، وليس فتحاً في المجال للآخر المطالب بالتعددية وتداول السلطة . بمعنى استبداله .. اسقاطه .. ذات يوم قريب أو بعيد . وهذا ما تؤكده حملات الاعتقال التي رافقت المنعطف الجديد
إزاء ذلك ، ليس بعيداً عن الصواب القول ، أن خطوات منعطف النظام الجديدة الاقتصادية والاجتماعية في الداخل ، وسياسة ” الاعتدال ” الصفقات الإقليمية والدولية والمفاوضات مع إسرائيل في الخارج ، التي تتلاقى ، بسبب الخلفيات ” الليبرالية ” مع هوى أ وساط أ ساسية في المعارضة ، تدفع موضوعياً إلى أن تقتصر المعارضة على السياسة وحسب .. على الصراع على السلطة .. مشاركة أو ا ستيلاء .. لأن المسائل الأخرى ’رحلت من مجال المعارضة . وهنا ، رغم تفاؤل المتفائلين ، يكمن المنعكس السلبي لمنعطف النظام الجديد على المعارضة . ولذا بالذات باتت المعارضة تواجه حالة تناقض مستعصية جديدة . فهي لاتستطيع التعاطي بثقة مع سياسات هذا المنعطف بالصمت ، أو بالدعم العلني المصحوب بوعد ، أن مفاعيل سياساته الاقتصادية سوف تفضي إلى التنمية المشتهاة ، وأن مفاعيل السلام مع إ سرائيل سوف تنقل السلام إلى الداخل ، ولاتستطيع أن تبرر الجري وراء القشرة السياسية وحسب ، حاملة ” حلم هوامش حريات ” ليبرالية ” سياسية ، على أنه سوف يتيح تداول السلطة نسبياً أوكلياً ، لأن ذلك يكرس عزلتها عن الشعب ، الذي يرى أن أحوال مصر السباقة إلى هكذا منعطف تكذب هذه الأحلام ، كما أن الاعتراض الاستهلاكي على هذه السياسات ، وخاصة في المجال الإقليمي والدولي والمفاوضات مع إ سرائيل المرحب بها دولياً ، يد شن عهد عزلتها عن الخارج ، الذي طالما راهنت على تأثيره في عملية التغيير في البلاد .
المواقف والتصريحات ( ردود فعل ) التي صدرت عن رموز في المعارضة ، على تجليات منعطف النظام الداخلية والخارجية ، تؤكد على حالة التناقض هذه . إذ لم تتعد لدى جهة ، التعبير عن الخيبة من الخارج ” الصديق ” المنقلب لصالح النظام والرجاء بعودته إلى لعب دوره المساند للمعارضة . ولم تذهب جهة أخرى ، أبعد من إبداء النصيحة .. للتقية .. بتجنب المواجهة مع النظام ، حرصاً على ما تبقى لدى المعارضة من إمكانيات وقدرات متواضعة . ولم تتجاوز جهة ثالثة ، أكثر من تقبل خسارة الرهان على الخارج ، وتخليها عن سياسة العمل على عزل النظام ومعاقبته دولياً ، والعمل على ممارسة حراك ديمقراطي تراكمي وصولاً إلى التغيير .
حتى الآن لم يظهر أي موقف تحليلي مسؤول يدين .. أو يستنكر أو يخطيء تجليات المنعطف الجديد الاقتصادية والاجتماعية وامتداداتها الخارجية المتعلقة باقتصاد السوق العولمي ومنظمة التجارة العالمية وسياسة الصفقات في المنطقة أو المفاوضات مع إ سرائيل حول الجولان المحتل ، بمعنى أن يدافع عن الاقتصاد الوطني والمصالح الوطنية الأساسية وعن حق الطبقات الشعبية في مستوى عيش كريم .
الإمر الجدير بالبناء عليه في هذا السياق ، هو أن منعطف النظام الجديد ، الذي لعب دوراً كبيراً في تحييد الخارج في معادلة التغيير في الداخل ، وكشف ظهر أوساط المعارضة التي اعتمدت هذه المعادلة ، قد اضاء أخطاءها ، التي من أهمها على الإطلاق ، تجاهل البعد الاجتماعي ودور الطبقات الشعبية ، في النضال من أجل التغيير الديمقراطي ، ووضعها أمام ظروف ومستحقات جديدة تستدعي أن تقوم هي ، أي المعارضة ، بإجراء منعطف جديد أيضاً ، في بنائها وفي خطابها السياسي وفي آليات حراكها .
ومن البديهي أن تكون أولى الخطوات هي توفر القناعات ، بأن المعارضة في سوريا ، الخاضعة لحكم فريد في استبداده الدستوري والعرفي والاقتصادي ، هي ليست معارضة أحزاب وتحالفات وحسب ، تستمر باستمرار معارضة هذه الأحزاب والتحالفات ، وتنتهي بمصالحة أو بصفقة بينها وبين النظام ، وإنما هي أكبر من ذلك بكثير .. إنها معارضة عضوية شاملة نابعة من احتياجات الضرورة الوطنية والاجتماعية والإنسانية .. معارضة تشمل كل من هم خارج النظام ، بل وتشمل حتى النسق الأخير الفقير داخل النظام .
وعلى ذلك فإن الطيف المعارض الراهن ، الذي يضم ألواناً متعددة من الانتماءات والآراء والآفاق ، يتعين عليه أن يجتمع على قواسم مشتركة سياسية واقتصادية واجتماعية تعبر بصدق عن المصالح المشروعة الأساسية للأكثرية الساحقة من الشعب .
ولتأكيد مصداقية هذه القناعة ، يتعين إجراء تقييم نقدي على مستوى الأحزاب والتحالفات للحراك المعارض .. بداياته وتطوره .. برامجه ومواقفه وسياساته .. نجاحاته واخفاقاته .. على كافة الصعد الفكرية والسياسية والحركية .. تقييم يؤمن التوصل إلى رؤى وآليات جديدة ، تضع في مركز اهتمامها التوجه إلى القوى والطبقات الشعبية ، من أجل معارضة جديدة ، تستوعب منعطف النظام الجديد وتداعياته ، وتستطيع أن تواجه المستحقات الجديدة المترتبة على هذا المنعطف ، وتجنيب سوريا دروبه ، الخطيرة وطنياً ، والمدمرة اقتصادياً ، والمؤلمة اجتماعياً . المطلوب بإيجاز .. تجديد المعارضة ..
ربما أثار ويثير منعطف النظام الجديد مخاوف مشروعة من اهتزاز القناعات وتبدل الاصطفافات .. لكن المعارضة في سوريا تحمل من الأصالة العضوية ، ومن الصفات والهموم النوعية ، التي يفرزها الواقع المستبد النوعي ، ما يجعلها قادرة على أن تتحول من معارضة مواقف وشعارات .. من لعبة التشهير بأخطاء وممارسات النظام ، إلى معارضة بديلة .. معارضة برنامج علمي يتضمن الأجوبة المطابقة لأسئلة الراهن والمستقبل ضد برنامج فشل في الماضي والحاضر وهويستعد الآن لينتقل بالبلاد نحو برنامج أكثر فشلاً .. معارضة نهج د ستوري ديمقراطي اجتماعي ضد نهج غير مطابق للمصالح الوطنية والشعبية .
إن المقاربة النقدية للشأن المعارض ، وخاصة في هذه المرحلة الصعبة ، هي مسؤولية كل الحريصين على أن تثمر التضحيات ، التي يقدمها آلاف المناضلين في أنشطة المعارضة ، في كل المجالات المتاحة ، وأخصها بالتقدير والاحترام التضحيات خلف قضبان الاعتقال ..