المعلم والعلامة
الياس خوري
لو كان يوسف شاهين حيا لسخر من الرثاء، استطيع ان اتخيل الرجل والسيجارة بين شفتيه وهو يتلعثم في الكلام، يطلق شتيمة، ثم يضحك من الرثاء، ويروي احدي حكاياته مع الرقابة الغبية..
لن ارثي المعلم والعلامة، فالرجل كان اشكاليا الي درجة انه كان يعيد النظر في نفسه في كل مرة، بحيث تحار من ترثي وانت ترثيه. كان يروي عن هاملت دائما، لكنه كان يحب عبدالناصر، هل كان ناصر هو الأب القتيل ام كان الابن الذي فشل في الثأر لوالده؟ هذا هو السؤال الشاهيني بامتياز.
كان جو ابا لجيل من المخرجين المصريين، لكنه كان يتصرف كالأبناء، يملك مونة الابناء ودلالهم، من دون ان ينسي انه الأب، وانه محكوم بالموت التراجيدي الذي ابتدعه الأدب كمخرج مشرّف للأبوة.
في هذا الالتباس بين هاملت وعبدالناصر نسي شاهين ريتشارد الثالث، لذا لم يصرخ بطله الناصري من اجل الحصان، ولم يستبدل مملكته بحصان. مات عبدالناصر عندما قتلت الأحصنة في ايلول الأسود برصاص الأنظمة.
لحظة موته صار ابن الثورة المصرية ابا، وكان عليه ان يلاقي الجحود الذي حكم علي الأباء ملاقاته، منذ سوفوكليس. هذه هي السمة الرئيسة للثقافة الناصرية، من عبدالحليم حافظ الي يوسف شاهين الي بهاء طاهر الي احمد عبدالمعطي حجازي، انهم آباء يرفضون التخلي عن صفتهم كأبناء، وهذا هو التباسهم، وصعوبة التعامل معهم، وخصوصا حين يتصرف بعضهم كآباء.
لم يكتف يوسف شاهين بلعبة الأبوة والبنوة، بل تعدد الي درجة ان لكل واحد منا شاهينه الخاص. هناك شاهين الواقعي وشاهين الميلودرامي وشاهين المؤرخ وشاهين السيرة الذاتية وشاهين الاستعراضي وشاهين النقدي، والمتفرج يختار شاهينه ويتمسك به. هذا التعدد المدهش جعل من الرجل حكاية لا شبيه لها في السينما العربية، وجعل من افلامه علامات ثقافية، من باب الحديد الي الارض، ومن جميلة الي الناصر صلاح الدين، ومن العصفور الي اسكندرية ليه، ومن ابن رشد الي ادوارد سعيد، كأن الرجل اراد ان يستجمع زمنه كله في لقطة واحدة. صنع فيلما عن بونابرت كي يصل الي اليوم السابع مع داليدا، ثم انعطف الي ابن رشد كي يقترب من اسئلة زمنه مع الفكر والدين، ثم ذهب الي الواقعية من جديد.
لا يستطيع من شاهد الناصر صلاح الدين ان ينسي انه كان يشاهد استعارة كبري عن الناصرية، لكن هزيمة ناصر لم تنتج ردة الي الوراء، بل اخذتنا الي العصفور حيث غني الشيخ امام لبهية، وحيث ستخرج بهية الي الشارع بعد الهزيمة كي تصرخ اننا سنحارب من جديد.
كما لا يستطيع من شاهد رواية عبدالرحمن الشرقاوي فيلما بعنوان الأرض، ان ينسي ان عذابات الفلاح المصري وآلامه، صنعت ثورة تموز(يوليو) في مصر.
والرحلة مع شاهين طويلة وتمتد عبر اربعين فيلما. فالرجل الذي كتب حكاية مصر والعرب مع صعود المد القومي وافوله، حوّل نفسه بطلا لمجموعة من الافلام التي اتخذت سمة السيرة الذاتية، كأن الممثل في شاهين، عاد متقمصا الآخرين، ليحول حكايته الشخصية الي حكاية عامة، جاعلا من التباس علاقته بالنص الهاملتي مفتاحا لقراءة اعماله السينمائية بأسرها.
المثير في الرجل انه جمع في شخصه المعلم والعلامة. كانت شخصية المعلم الذي فيه تتوقف عند حدود العلامة، اي عند حدود نزوعه الي التجريبية والبدء من جديد، الي الحد الذي جعلنا حائرين دائما امام اعماله، اذ ان شعورنا بأن العمل الجديد يجب ان يكون استكمالا وتطويرا للعمل الذي سبقه، سرعان ما يتبدد امام نزعة تجريبية تعيد المعلم الي ما يشبه البداية.
لكننا لا نستطيع ان نقول ان اعمال شاهين لم تحدث تراكما، تراكمها كان افقيا وليس عموديا، وهذا ما نستطيع ان نقوله عن معلم آخر هو نجيب محفوظ، الذي اسس الرواية العربية افقيا، جاعلا من مراحله الروائية المختلفة اشبه ببانوراما المدارس الروائية المختلفة، من الرواية التاريخية، الي الطبيعية الي الواقعية الي الرمزية وصولا الي استعادة التراث في الف ليلة وليلة.
لكن عكس ثبات محفوظ كان يوسف شاهين قلقا وعصبيا ومزاجيا وملتزما. كأنه يستكمل التراث الشامي في الثقافة المصرية، فهذا اللبناني الأصل، كان مصريا حتي النخاع، لكنه من دون ان يدري كان الحلقة الأخيرة في ثقافة الشوام التي جلبت اسئلتها الي الثقافة المصرية في عصر النهضة، وشكلت احد روافد الانفتاح الكبير علي الحداثة.
كان ناصريا، حتي في نقده للتجربة الناصرية، لأنه مثل عبدالناصر كان حائرا بين ان يكون ابا او ابنا، فكان الاثنين معا، وترك لنا ان نذهب الي الخيار الأصعب، الذي لم نصل بعد اليه..
قلت ان يوسف شاهين كان سيسخر من الرثاء، وحاولت ان لا ارثي، لكنني لا استطيع امام غياب جو الحبيب ان لا ابكي، وان امنع قلبي من ان تحتله عتمة الفراغ، ويستولي عليه الحزن.
القدس العربي