يوسف شاهين.. سياسياً
تهاني سنديان
كثيرة هي الكتابات النقدية والتقويمية التي تناولت شخصية وإبداع المخرج السينمائي المصري العظيم يوسف شاهين، والذي غادرنا إلى دنيا البقاء قبل يومين فقط، وذلك بعد عمر ناهز الـ84 عاماً، ظل يشتغل فيها بفنه البصري الراقي المتميز حتى اللحظات الأخيرة.
أكثر من مرة التقيت بالمخرج يوسف شاهين في بيروت. ولكنني لم أزل أتذكر المرة الأولى التي قابلته فيها، حيث قدمني إليه الناقد السينمائي المصري الكبير سمير نصري، والذي كان يعمل مشرفاً على الصفحة السينمائية في جريدة «النهار» اللبنانية، وكان يوسف شاهين من المعجبين بكتابات سمير نصري النقدية السينمائية، ويعتبرها رائدة على المستوى العربي، إن لناحية استيعابها المضمون السينمائي بعمق ووعي متجاوز، أو لناحية تخصصه بالصناعة الفيلمية، ونقدها في الصميم، وتفكيك مفرداتها وفنياتها، وأبعاد لعبة الإخراج، واختيار الممثلين، وشدة الارتباط بين الجهاز الحسّي والجهاز الحركي لديهم في العمارة الفيلمية المتعينة.
في اللقاء الأول معه، استغرب الراحل يوسف شاهين سؤالاً طرحته عليه، ومفاده كيف استطاع توظيف الجنس في جميع أعماله السينمائية، بطريقة واعية ولا واعية في آن؟ فقال أنا أستطيع أن أفهم سؤالك دون تفهم. إن هذا المونولوج التخييلي الذي تنطلقين منه في قراءة أعمالي السينمائية يخصّك وحدك، مع أنه واقعاً هو موجود لديّ، وفي حالة مبرهن عليها طبعا وإن بشكل خفي غالبا في أكثر من فيلم، لكن الأمور في كل أقلامي تبدأ بالسياسة وتنتهي فيها، باعتبار أن السياسة هنا هي وعاء جدلي ناظم لحياتنا، لا يعكسها فقط، وإنما يسعى لتصحيحها وتغييرها ودمقرطتها بشكل دائم، من خلال التوكيد على حرية الإنسان العربي وحقوقه البديهية والمعقّدة في آن.
ولشدما أعجبه سؤال آخر طرحته عليه.. يقول السؤال: إلى أي مدى تغويك الصورة وتضل بك؟ أجاب: الصورة هي خدعة أيضاً.. تماماً كما صور الحياة الواقعية اليومية.. إنها خدع متواصلة نقرؤها لنعزز الطريق إلى خلق عين جديدة وعقل جديد.. أو بمعنى آخر، الوصول إلى تغيير فعلي في السياسة.. طريقاً ومنهجاً. وقبولي بالتغيير هنا متوقف دوماً على إدراكي إمكان حدوث هذا التغيير، فأنا لا أحب الإيهام الخالص. ونسبة التهويم عندي قليلة جداً في مساحة الإدراك.. وكل ما أقدمه في السينما، يمكنك اعتباره حركة لإعادة «نظيم النحن». فأنا والمجتمع المصري، والمجتمع العربي ككل، عبارة عن وحدة دينامية بكل ما لهذا التعبير من معنى.
أجمل فيلم قدمه الراحل يوسف شاهين في رحلته مع الفن السابع (من وجهة نظري طبعاً) فيلم «باب الحديد». والأجمل في هذا الفيلم اضطراره هو للعب دور الشخصية المركزية فيه مع هند رستم، ويا ليته أكمل أيضاً أدواراً تمثيلية مركزية في أفلام أخرى لاحقة له، لكان أعطانا بذلك أنموذجاً مختلفاً لدور الممثل/ المخرج، والذي تغلب عليه هنا دينامية تجسيد الشخصية المفترضة، كما هي تماما في قمة تكامل عطائها الفني حراكاً وتجريباً واستهدافا تعبيريا.
السياسة هي هاجس يوسف شاهين في جميع أفلامه، وحتى في تنظيراته الاجتماعية والثقافية والحياتية، ولكنها دائماً تأتي في ثوب آخر يسجل فيه جدل الانفعالات، وينيرها، لتعود فتنيره هي مع الآخرين من جديد. وفي قلب تنامي المعاني وتواصلها، والتناسب بينها وبين العمل الفني، تظهر السياسة عملاً عملاقاً لديه، يجذب إليه حتى أعتى أعدائه من القادة السياسيين، على اختلاف مستوياتهم، ممن يشن عليهم شاهين حرباً لا هوادة فيها ولا مجاملات.
وشاهين في فنه لا يقدم حلولاً سياسية من النوع المعلب والجاهز. الحل الواضح لديه ليس حاضراً. ولكنه يشكل خميرة وعي لحلول مفروضة فرضاً لاحقا، وإن احتاجت إلى كثير من التمحيص. وهو ينطلق دوماً من حركة الواقع، باعتبارها ليست محوطة بظلام لايزال حالكاً فقط، وإنما هي أيضاً رحلة صعبة وشاقة وبطل التغيير، سواء أكان فرداً أم جماعة، عليه أن يتحمل كل مكابداتها، ولا يسقط بالتالي في منتصف الطريق، مهما كانت الظروف، ومهما اشتدت العقبات والموانع، لكن الثابت عند يوسف شاهين السياسي هو توحده بين الأنا والواقع في الكثير من حالات الشعور ومخبآت اللاشعور أيضا، فيصير هو جزء لا يتجزأ من الواقع.. ومن الصعب تفريقه عنه، وإذا حدث نوع من تفريق، بفعل متغيرات ظروف إقليمية ودولية مستجدة، يبقى هذا التفريق هشاًَ وملغزاً.
في أي فيلم يتولى مشروعه يوسف شاهين، يدرسه مقدماً دراسة وافية عميقة.. يقرأ فيه النص من وجوه مختلفة، يقرأ تاريخ الأفكار، وتاريخ الوقائع وتاريخ المؤسسة التي تحوط بهذه الوقائع، ودائماً يأتي بانعطافة درامية، خبطة فيلمية، انقلاب فيلمي في قلب العرض الفيلمي ذاته. وفي ذلك كله لا تتشوش لديه خطة الترتيبات السياسية التي يرومها. وهو دائما مواكب وحديث في ملاحقته لحركة مجتمعه المصري واستطراداً العربي، يواكب المتغيرات، مشتقاً منها صور الآتي والمستقبل، ودائما على قاعدة التغيير السياسي الديمقراطي المفترض فيه أن يحدِّث السياسة العربية لتحدِّث بدورها الحياة العربية.
لدى ارتفاع نجمه كمخرج سينمائي عالمي، أعجب بشاهين كبار المخرجين في العالم، بينهم بيرغمان السويدي، وكيروساوا الياباني، وفيسكونتي الإيطالي، وكلود لولوش الفرنسي، وعليه جاءته لاحقا عروض سينمائية غربية كبرى، ولاسيما من بعض أطراف هوليوودية، رفضها يوسف شاهين، لأنه اشتم فيها رائحة سياسية مشبوهة تفضي جميعها لتصب في مصلحة إسرائيل، وما يقال في الخطاب الإعلامي الغربي حولها من أنها واحة للديمقراطية في قلب عالم عربي مستبد، وظلامي ويرفض السلام معها، هي الساعية إلى السلام معه، وهو يريد اجتثاثها من الوجود ورميها في البحر. وفي آخر لقاء لي مع يوسف شاهين وفي بيروت أيضا، قال لي حول هذا الموضوع: نعم رفضت عروضاً هوليوودية مشبوهة، وساعدني في رفض بعضها سابقاً بإلقاء مزيد من الأضواء عليها، المفكر الفلسطيني الكبير ادوارد سعيد الذي التقيته أكثر من مرة في أميركا.
وعلى الهاتف -يردف شاهين- خاطبت جهة هوليوودية تحدثت عن إسرائيل الدولة الديمقراطية المرفوضة من جيرانها، قائلا إن إسرائيل هي التي تريد فكفكة العالم العربي، وإحداث حروب أهلية في كل بلد من بلدانه، بمساعدة مباشرة وقوية جداً من الولايات المتحدة عسكريا واستخباراتيا.. وان الإسرائيليين هم الذين يريدون رمي الفلسطينيين في البحر. أو لم يقل شارون انه يتمنى أن يستيقظ ذات صباح ويرى غزة وقد ابتلعها البحر؟!
هذا غيض من فيض يوسف شاهين فناناً وسياسياً كبيراً فرض نفسه وإبداعه على الجميع.. بمن فيهم الذين يناهضونه في الغرب والشرق على السواء.
كاتبة من لبنان