صفحات ثقافية

يوسف شاهين

null
محمد سليمان
في مجال الإبداع، هناك الموهبة «العمياء» التي تخشى المغامرة وتتشبث بالمألوف والمستقر والسائد وبثوابت تظنها من علامات التميز. وهذه الموهبة لا تستطيع مهما بلغ حجمها الصعود بصاحبها إلى صفوف المبدعين الكبار. وفي المقابل هناك الموهبة «الذكية» المسكونة بالقلق وبطموح لا حدود له، وبهاجس التجريب والمغامرة وبالتمرد على الذات، بحثاً عن الجديد والمختلف. وقد امتلك موهبة من النوع الأخير عميد السينمائيين العرب يوسف شاهين الذي رحل عن عالمنا قبل أيام.
في الاسكندرية، التي كانت تضم في النصف الأول من القرن الماضي جاليات كبرى من الشوام والإيطاليين واليونانيين والأتراك والبريطانيين وغيرهم بالإضافة إلى المصريين، ولد يوسف شاهين عام 1926 وعاش طفولته وصباه في مدينة تتعدد فيها اللغات والثقافات والأديان. وكان لهذه النشأة أثرها في تجربته وفكره وإبداعه الذي رحب بالتعدد والتسامح وبالآخر، الذي سيطل دائماً علينا من أفلام شاهين التي أخرجها على مدى ستة عقود والتي ستجعل من المخرج، كما جاء في نعي قصر الإليزيه الفرنسي «مثقفاً يتمتع باستقلال كبير ومدافعاً شرساً عن اختلاط والتقاء الثقافات».
بدأت رحلة يوسف شاهين الإبداعية عام 1950 بفيلم «بابا أمين»، لكن الفيلم الذي لفت الأنظار إلى تمرده وسعيه إلى الجديد كان «باب الحديد» عام 1953 الذي مثّل فيه دور الأعرج، والذي أيضا أحاطه بشكوك وهواجس أجهزة الرقابة التي ظلت تلاحق شاهين حتى أفلامه الأخيرة، بسبب جرأته وقدرته على الغوص وتناول قضايا المهمشين وفضح المستور والمخبأ. ثم كان فيلمه الكبير «الناصر صلاح الدين» عام 1963، الذي لم ينجُ أيضاً من تدخل الرقيب، ثم «فجر يوم جديد»، الذي تناول فيه قضايا السلطة والقمع والتسلط والذي اعتبره بعضهم موجهاً ضد عبدالناصر وسلطته، وهو الأمر الذي دفع يوسف شاهين إلى الخروج من مصر إلى لبنان ليعود بعد هزيمة يونيو 1967 ويخرج فيلمه الشهير «الأرض»، ثم «العصفور» قبل حرب 1973 الذي هاجمه بعضهم واعتبره موجهاً ضد الرئيس السادات.
ودفع ذلك الهجوم شاهين إلى «الخروج الثاني» من مصر إلى لبنان ليخرج لفيروز فيلم «بياع الخواتم»، ولكي يعود إلى مصر مرة أخرى بعد أن طالبه السادات بالعودة إلى بلاده ليخرج «عودة الابن الضال»، لكي ينشغل بعد ذلك بالأفلام التي تتكئ على طفولته وسيرته الذاتية ومدينته التي عشقها «اسكندريه ليه»، و«اسكندريه كمان وكمان»، و«اسكندريه- نيويورك»، و«حدوتة مصرية».
السير في حقول الألغام ميَّز رحلة يوسف شاهين الإبداعية منذ البداية حتى أفلامه الأخيرة «المهاجر- المصير- الآخر» التي انشغل فيها بقضايا التنوير ومقاومة العنف والإرهاب والتسلط.
معظم أفلام يوسف شاهين لاسيما «العصفور- عودة الابن الضال- «اسكندرياته»- حدوتة مصرية- المهاجر-الآخر- والمصير»، هي في واقع الأمر قصائد سينمائية تعتمد في بنائها على السرد الشعري الذي يختلف تماماً عن السرد العادي الخطي والمتصل الذي يتيح للمشاهد من دون جهد متابعة الأحداث واستيعاب الفيلم واختصاره في حكاية أو قصة، بينما السرد الشعري متقطع يتشكل من جزر مضيئة بينها فجوات تحتاج من المشاهد الانتباه وشحذ وعيه لكي ينجح في ردم هذه الفجوات، وتأويل الأحداث، ومتابعة الفيلم، والاستمتاع به، لذلك ظلت معظم أفلام شاهين تمتع النقاد والمثقفين والسينمائيين وتصدم رجل الشارع وتدفعه إلى رجم المخرج واتهامه بالجنون.
وشاهين كمبدع كبير كان، على ما أظن، يضع في حسابه المشاهد الإيجابي القادر على المشاركة والتفاعل وشحذ الوعي، ولا ينشغل بالمشاهد السلبي الذي شكلته في السبعينيات أفلام المقاولات واللاسينما في الأعوام الأخيرة، وربته على اعتبار الفن السينمائي فناً للتسلية والترفيه و«الفرفشة»، وبالتالي لا يحتاج إلى جهد ما لمتابعته والاستمتاع به، ولذلك لم يتحقق للعديد من أفلام شاهين الانتشار الجماهيري الذي تستحقه ويستحقه مخرج كبير فاز بتقدير المهتمين وبالكثير من الجوائز المصرية والعالمية.
من الطبيعي، كما يقولون، ان يكون الإنسان ثائراً ومتمرداً وهو في العشرين من عمره، لكن ثورته وهو في الأربعين تصبح دليلاً على اهتزاز العقل، وربما الجنون. وقد ظل يوسف شاهين ثائراً ومتمرداً وخارجاً عن المألوف حتى أيامه الأخيرة، أي بعد أن تجاوز الثمانين، وأظن أن جنونه الجميل كان محور نبوغه كمبدع وكإنسان.

* كاتب وشاعر مصري.

الجريدة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى