العنف: مظاهر التدمير والبناء
د. غريغوار مرشو
العنف هو لغةُ التخاطبِ الأخيرة الممكنة مع الواقع ومع الآخرين حين يحسُ المرء بالعجز عن توصيل صوته بوسائل الحوار العادي، وحين تترسَّخ القناعة لديه بالفشل في إقناعهم بالاعتراف بكيانه وقيمته. والعنف يبقي الوسيلة الأخيرة في يد الإنسان للإفلات من مأزقه ومن خطر الاندثار الداخلي الذي يتضمنه هذا المأزق،
والعنف هو السلاح الأخير لإعادة شيء من الاعتبار المفقود إلي الذات من خلال التصدي مباشرة، أو مداورة للعوامل التي يعتبرها مسؤولة عن ذلك التبخيس الوجودي الذي حلَّ به. وهذه الوضعية نراها بصورة مكبّرة بين المعتدي الصهيوني الاستيطاني والشعب الفلسطيني المحتل، وبين الاحتلال الأمريكي في العراق والمقاومين ضده.
إلا أن العنف بقدر ما يكون عشوائياً مدمراً يذهب في كل اتجاه بقدر ما يكون بناءً حينما يوظف في أغراض تغيير الواقع، ولكنه موجود أبداً ولو اتخذ ألف وجه ولون واتجاه ما دام هناك مأزق وجودي يمس القيمة الذاتية، ووضعية مُولِّدة للتوتر الداخلي، وبدت إمكانات الخلاص محدودة وآفاقه مسدودة.
إلا أن الأسئلة هنا تبقي مفتوحة علي هذه الظاهرة. هل العنف يخص مجتمعاً دون آخر؟ وما هو مبرر الحديث عن العنف في مجتمعنا؟ هل هو وقفٌ عليه أو سمةٌ من سماته الثابتة؟ في الواقع إن ملاحظة الواقع تُبينُ أنه إذا كانت العدوانية ظاهرةً عامةً في مختلف المجتمعات، فإنها تجد في المجتمعات العالم الثالث تعبيرها الأوضح والأكثر انتشاراً والأشد عنفاً. وهذا يعودُ إلي ما تم فرضه علي الإنسان في المجتمع الذي تم تخليفُه (أي جعلُه متخلفاً) من أشكال الإرهاب والقهر.
ولا شك في أن بعض العلماء الغربيين الذين انزلقوا عن قصد أو دون قصد ـ لخدمة أغراض استعمارية استغلالية ـ في إبراز (بشدة) الصفة الدموية للعدوانية في المجتمعات المتخلفة التي احتكوا بها ولاحظوها. ولا ريب أنهم مالوا، انطلاقاً من تحيزات وأحكام مسبقة، إلي تعميم هذه الصفة علي كل سكان تلك المجتمعات، حتي وصلوا إلي حد الزعم باعتبارها خاصية شبه أناسية (أي أنثروبولوجية)، عند الأقل شططاً بينهم، وخاصية بيولوجية عند الأشد شططاً في تحيزهم. وهم قد اكتفوا بهذا الشكل الصارخ للعدوانية كونه تجسد في بعض الأفعال الصادرة عن بعض الأفراد أو المجموعات وغفلوا عن كل أشكالها الخفية وغير المباشرة، كما غفلوا عن ربطها ببنية المجتمع والشرط الوجودي للإنسان واستحقاقاته في العيش المشترك مع شركائه في الإنسانية بكرامة وسلام.
لمواجهة اشكالية العنف هذه وما أثارته من توصيفات منمَّطة وتحليلات مُعمَّقة متأرجحة ما بين الاتهام والتفهم لا بد من إطلالة نقدية لقوانين التحديث وآلياته التي حكمت عالمنا العربي منذ قرنين تقريباً وساهمت في تغذية وتأجيج ألوان عنف غلب عليها طابع التدمير بدلاً من مشروعية البناء والتحرير.
أولاً: لا تكمن أسباب سوء صرف القوانين الوافدة وعجز استنبات الحداثة عن تحقيق الآمال المتوخاة في العالم العربي الإسلامي في الدين بذاته كما يسوق العلمانيون المحليون والمستشرقون وإنما علي العكس في كيفيات التحديث والقوانين التي تحكمه والتي لا تزال منذ ما سمي عصر النهضة وحتي اليوم، مربوطة بسياسات إرادوية منقولة سواء عن الدساتير والقوانين السائدة في النظام الغربي وما لحقها من إشكاليات من بنات مجتمعها أو منقولة عن قوانين وعادات ماضوية متهافتة مقابلة. فكل هذه الكيفيات التي بدت مكرسة ببنية تعضيد المصالح العامة والعمل علي خلق توازن جديد وردم الفجوات القطرية المشلة للمجتمع العربي وإعادة العافية له، صارت في ما بعد مرهونة إجرائياً لتوجهات مصالح القوي الخارجية المهيمنة، باعتبار النخب الحداثوية والسلفية قامت بسحب ميكانيكي لقوانين مستلبة من هنا وهناك لفرضها علي وقائع مستجدة. ولنا في تجربة محمد علي باشا أو التجربة التركية الكمالية وفي تجارب غيرها في نظم العالم الثالث خير مثال.
ثانياً: إن الامتثال بالمطلق لقوانين نموذج النظام الغربي المهيمن وما يقابله من نموذج سلفي استعادي بوصفهما نمطين معروفين جاهزين في حلبة الصراع، والتعصب لهذا أو ذاك، فكراً وممارسة، هما اللذان يحبسان كل إمكانية للتنمية الثقافية الفعالة في الداخل، ويجهضان كل احتمالات لنشوء عقلانية منتجة متفاعلة مع الحاجات الحيوية ومع التطلعات النهضوية الحرة للسكان المحليين.
هذا الانحباس هو الذي كان وراء ما نشاهده اليوم من انشطار المجتمع العربي الإسلامي إلي معسكرين متنافرين ومتناحرين حداثوي وسلفي حتي ولو توسطهما معسكر توفيقي ولكن غير فاعل بعد، المعسكر الأول علي قلته لا يزال يري في النموذج الغربي وقوانينه مصدر حياته وملكوت قوته وجبروته. ويكمن وجه المفارقة لهذا التوجه في هذه المعادلة: بقدر ما تستعلي وتحاكي النخب الحداثوية علي اختلاف تياراتها هذا النموذج، بقدر ما تتوهم بلوغها وانتماءها إلي محفل العالمية و التقدم حتي التمايز بتعميق فجوات الاختلاف عن الثقافات الأهلية المجاورة المنمطة بالبداوة والتخلف والبدائية يعني ان لهذه النخب معياراً لتفوقها وحضاريتها. لقد أفضت الأمور إثر ذلك إلي اصطناع فروقات عرقية وصراعات إقليمية ما بين الدول التابعة، ثمرة التقسيم الاستعماري حتي وصلت إلي تهديد سيادة كل دولة، لا بل حقن مجتمعها بالعنف الآيل، آجلاً أو عاجلاً، إلي الانفجار في حال عدم تدارك هذا العنف وتقنينه واستثماره بالتنمية السلمية الديمقراطية والتحرير.
أما المعسكر الثاني فقد راح تحت وطأة الاحتقان النفسي الاجتماعي وانسداد الآفاق عليه يستجير بشرائع الدين من موقع الدفاع السلبي راجياً أن تكون ملاطاً يعيد اللحمة للجماعة، وحصناً أخيراً يقيه من مزالق التمزق، وبلغت بالبعض حالة الانطواء والاستغاثة بالأولياء أو القديسين والاحتماء بالنصوص المقدسة بطريقة متزمتة مصنمة، حتي بلغت ببعضهم الآخر إلي توسل الإرهاب الاجتماعي ضد دولهم باسم الدين كما يحصل اليوم علي سبيل المثال في الجزائر وفي مناطق أخري في العالم العربي والإسلامي، أو توسل العنف العشوائي للتصدير الخارجي كما حصل ابتداءً من عقد ونيف. وهو العنف الذي كان للولايات المتحدة الأمريكية مساهمة سافرة في صناعته واستغلاله وتجييره وفقاً لمصالحها وتدفيع ثمنه الباهظ ليس لمجتمعات العالم الثالث وخصوصاً العربية الإسلامية فحسب وإنما إلي دولها بذريعة أن هذه الأخيرة وراء حماية وتصنيع هذا العنف علي نحو إرهابي.
إن هذا الانشطار الذي وقع في المجتمع كان وراءه المعسكر الحداثوي لأنه طرح نفسه بديلاً وقائداً للمجتمعات خلال التحديث، واستخدم القوانين كأداة للتغيير من فوق، مما جعل القوانين الجديدة في لاوعي النخب الحداثوية مرادفة للمبادئ ذاتها، أو أنها بحد ذاتها إنجاز. بذلك أصبح الحديث عن قانون مختلف يعتبر انتهاكاً للمبدأ أو أنه محاربة للإنجاز الذي تم، الأمر الذي أدي إلي تصنيم القوانين وانقطاعها عن التجاوب مع الحراك الاجتماعي، بدلاً من أن تكون العنصر الناظم للعلاقات بين المواطنين والدولة، والموازن بين الواجبات والحقوق بين الطرفين.
في الحقيقة إن النخب الحداثوية تعيش شعورين متناقضين في تعاملها مع الجماهير، فهي من جهة تنظر للجماهير علي أنها تعيش حالة تخلف مزمن، مما يولد شعوراً خفياً بالاحتقار، وفي نفس الوقت فهي تعلن إخلاصها للجماهير ومصالح الأخيرة، حتي تستطيع أن تكسب ثقتها، وتقوم بحشدها خلف إنجازاتها التي لا تعدو أن تكون قوانين فوقية بحيث لا تستطيع الجماهير في كثير من الأحيان أن تفرق بين الإنجازات والأهداف.
إن النخب الحداثوية في رغبتها في عجن الجماهير بموجب الصورة التي توجد في مخيلتها تبدو في عجلة من أمرها، إذ تريد حرق المراحل، وحينما تلاحظ هذه النخب أن الجماهير تتململ من الإملاءات والقوانين الفوقية فإن ذلك لا يثير في نفسها أي شك في أن ما تقوم بفرضه علي الواقع هو خطأ، وإنما يؤكد لها أن الجماهير هي فعلاً متخلفة، لأنها ترفض ما هو صحيح وملائم لها كما قررته هي (أي النخب) من طرف واحد، وتجد نفسها مساقة إلي استخدام القسوة والعسف في تطبيق ما تراه من قوانين واجراءات مستفيدة من الفرق الكبير في القدرة علي الفعل بين الحداثة المستحكمة بما تملكه من وسائل التسلط التي ورثتها عن المستعمر أو اشترتها منه وبين الجماهير.
لكن هذا الفرق ظاهري فقط ويتعدي القدرة المادية، لأن الجماهير التي عاشت قروناً من الظلم والاضطهاد قد تدربت فئات منها علي كيفية التعامل مع الظروف الضاغطة والتأقلم معها والالتفاف من حولها بل واستثمارها لصالح قطاعاتها الأكثر نفوذاً وثراءً. هذه العلاقة المتشابكة القائمة علي سوء التقدير وتباين القوي والخبرات التاريخية الأليمة تفرز بوجه عام أنماطاً من السلوك الاجتماعي علي النحو الآتي:
أولها، نمط السلوك الذي لا تزال رواسبه تفعل فعلها في لاوعي السائد والمسود، وتعود إلي فترة من تاريخ مجتمعنا ما قبل الاستعمار وخاصة في مرحلة المستعمر وتتجلي في قوي التسلط الداخلي والخارجي في أوج سيطرتها، وحالة الرضوخ في أشد درجاتها وعملية انهيار الإنسان المستتبع وطغيان أنوية المتسلط، حيث تكون غالبية الجماهير تعاني من حالة قصور واضح في درجة التعبئة التي تؤهلها للرد والمقاومة، فيبدو هنا وكأن الاستكانة والمهانة هي الطبيعة الأبدية لهذه الجماهير، وهذا ما تحاول قوي التسلط المعرفية والمادية الحداثوية غرسه علي كل حال في نفسية هذه الجماهير ولك عبر حملة تيئيسية إعلامية منظمة بغاية قطع الطريق أمام أي تساؤل أو انتفاضة أو أي أمل في الانتفاضة. في الواقع ما يطمح إليه المستعمر والمستشرقون والمستغربون الحاملون لأحكام مسبقة الصنع عن الشعوب المستتبعة فيما يُسوِّقونه عنها من صفات السلبية والجمود والخرافية والانحطاط ما هو إلا تسويغ وتأبيد الاستغلال والتسلط عليها، كالقول مثلاً: إنها شعوب منحطة لا تستطيع أن تعي ذاتها إلا بوعي مجلوب من الخارج، لا تستطيع أن تحكم نفسها أو تستغل إمكاناتها وثرواتها كما تروج القوي الصهيونية، ولذلك لا بد لها من حاكم متسلط، ولا بد لها من الاستقواء بمستغل خارجي حليف له، يثمن هذه الثروات المهدورة.
تلك هي مشكلة الملاحظة الخارجية والنظرة التي تظل عائمة علي السطح والتي لا تدرك سوي الظواهر الخادعة، وهي في الحقيقة مشكلة البرود الإنساني، أي انعدام التعاطف مع الإنسان الموسوم بالتخلف موضوع البحث، والنظر إليه كظاهرة مادية جامدة، إنها لم تستطع الغوص في وجدان هذه الشعوب المستتبعة كي تتلمس بذور التمرد والانتفاضة التي تنمو في أحشائها بصمت وبطء ولكن بشكل أكيد وحتمي، وحينما تحين لحظة انتفاض المكبوت تتفجر الطاقات التغييرية التي تفاجئ أول ما تفاجئ الفئة المستحكمة داخلياً وخارجياً وتتجاوز في مداها تصورات أكثر الملاحظين الخارجيين تفاؤلاً. وهذا ما نلاحظه بشكل بارز في الانتفاضة الفلسطينية التي تحاول الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها مسخها بعد 11 ايلول (سبتمبر) إلي ظاهرة إرهابية بهدف تبرير إسكاتها وتنصيب دولة إسرائيل العنصرية القائمة علي الاستيطان الإرهابي حصناً متقدماً لافتراسها وتصفيتها تحت شعار الدفاع عن العالم الحر والديمقراطية والحضارة.
ثاني هذه الأنماط هو السلوك الذي يغلب عليه واقعياً التجاذب الوجداني، أي التذبذب ما بين التبعية والرضوخ وبين الرفض والعدوانية الملتوية، هنا يحاول أصحاب هذا السلوك الانتقام بأساليب خفية (النشل، التخريب) أو رمزية (النكات والتشنيعات) وهذا يخلق ازدواجية في العلاقة: رضوخ ظاهري وعدوانية خفية، أبرز مثل علي هذه الازدواجية هو موقف الرياء والخداع والمراوغة والتملق والكذب والتضليل. هنا تغيب بالطبع أية محاولة للحوار والتواصل والشفافية بين الحاكم والمحكوم، أو بين القاضي والمتهم، وتصبح محاولة النيل من المتسلط قيمة بحد ذاتها باعتبارها نوعاً من البراعة والحق (كما يروج عن الشعب المصري). في الحقيقة إن الإنسان المستتبع المقهور متربص دائماً للمتسلط مهما كان موقعه كي ينال منه كلما استطاع، وبالأسلوب الذي تسمح به الظروف، هذه الازدواجية تشكل مرحلة وسطاً بين الرضوخ والتمرد ولكن هنا أيضاً نجد أصحاب هذا السلوك يستخدمون أسلوب السيد المتسلط نفسه ويخاطبونه بلغته نفسها. الكذب والخداع والتضليل والنفاق تتحول إلي عملية متداولة بين الغالب والمغلوبين، يكفي أن نري كيف يزين أصحاب هذا السلوك الأمور لبعضهم البعض، حتي يتم استدراج الآخر واستغلاله، ذلك الاستدراج عندما ينجح يعتبر نوعاً من الشطارة في التجارة والعمل والوظيفة وممارسة المسؤولية. وحينما يتحول العالم إلي زيف وتضليل يصبح لزاماً علي كل واحد أن يلعب اللعبة كما تسمح له إمكانياته، ويل لذوي النية الطيبة، إنه لا يغرم فقط من خلال صنع المقالب له واستغلاله بل يسخر منه ويحتقر باعتباره ساذجاً وغبياً… تدلنا علاقات التكاذب والتضليل علي مدي الانهيار الذي ألمَّ بقيمة الإنسان في مجتمعاتنا حين يتحول إلي ضحية تضليل، فالآخر ليس مكافئاً لنا بل أداة يستغلها بمختلف الوسائل الممكنة أداة لخداعنا ولكننا في النهاية نحكم علي إنسانيتنا بالتبخيس من خلال هذا الخداع.
هذه الوضعية العلائقية وما يتبعها من إحساس بالعجز أمام المصير المهدد دوماً وانعدام مشاعر الأمن تجاه تخبط القوانين الاجتماعية وتناقضها تؤدي إلي بروز مجموعة من العقد تميز حياة الإنسان المسحوق. أهمها عقدة النقص وعقدة العار مع اضطراب العيش واصطباغ التجربة الوجودية بالاحباط او الاكتئاب، وهذه جميعاً تدفع الإنسان المسحوق بدورها صوب الاتكالية النكوصية (أي العودة إلي الماضي والاحتماء بالســـــلف الصالح) والقـــدرية الاستسلامية وطغيان الخرافة علي التفكير والنظرة إلي الوجود.
ثالث هذه الأنماط من السلوك، نري أصحابه يميلون باتجاه إسقاط مشاعر الذنب والتبخيس الذاتي علي الآخر، لا الآخر الخارجي المسبب والمعزز للتسلط ومقلده الداخلي، بل الشبيه الآخر أو الأكثر قهراً، وتوجه العدوانية المتراكمة متخذة طابع الحقد المتشفي. والهدف من ذلك هو تحطيم الصورة غير المقبولة عن الذات، التي يعكسها للإنسان عن ما هو أكثر غبناً منه مما يعطيه انطباعاً ولو وهمياً، بالإفلات أو الانعتاق عن مذلة القهر. وبمقدار ما تترسخ هذه النظرة عن الآخر كعقبة يفقد إنسانيته تدريجياً في نظرنا ويتحول إلي شيطان أو أسطورة شر ليس هناك التزام اتجاهها أو حرمة لوجودها بل علي العكس لا بد من القضاء عليها في حالة من التشفي أو الشماتة، وهو فعل يتخذ طابع القضاء علي العقبة الوجودية مما يجعلنا نفهم السهولة المذهلة التي يتم فيها العدوان أو الاعتداء والحروب الأهلية اللبنانية أعطتنا خير مثال عن هذه الظاهرة المدمرة.
هذا السلوك وما يتضمنه من أسلوب متوتر في التفاعل، كان بدوره مصدراً استغله النظام الغربي المهيمن والحداثيون المحليون في الداخل، حيث فسر بشكل مزور علي أنه جزء من طبيعة بعض الشعوب التي عانت طويلاً من القهر، تلك الشعوب التي تم تنميطها بالدموية أو العناد وركوب الرأس أو العدوانية، ومؤخراً الإرهابية التي فسرت جميعها بأسباب عرقية أو بالطوائفية الفسيفسائية المتنافرة أو ما شابهها من التنميطات المجحفة، التي لا هدف لها سوي تبرير القمع الذي ينزله المستعمر وأشباهه في الداخل تحت شعار: إنهم لا يفهمون سوي لغة القوة… اللطف لا يجدي معهم… لا يجوز التساهل معهم، لأنهم سيردون بالعنف والتخريب، سيتطاولون علي أرباب نعمتهم… هنا نلاحظ مأزقاً آخر يحشر فيه الإنسان المغلوب علي أمره، إنه ضحية عنف مزمن ومنظم، ولكن يطلب منه أن يكون مهذباً ولطيفاً ويلام علي خشونته وتوتره، في الحقيقة إن ما يطلب منه هو الرضوخ. ثم إن الآخرين الذين تصب عليهم النقمة وتفرغ عليهم العدوانية ليسوا الأعداء الحقيقيين. كون الصلات الإيجابية التي تربطنا بهم هي صلات تعاون وتساند وصلات قربي وصلات تعاطف نابعة من المأساة المشتركة، لذلك الحل الاضطهادي المتبادل بين الأشقاء في المصير المشترك يظل مدمراً. حيال هذا الانحباس والتدمير الذاتي، بدل من أن تقوم الأحزاب النضالية، علي اختلاف تلاوينها، في ترشيد هذه الطاقات العنفية وتوجيهها نحو البناء والنهوض الحضاري، راحت تتراشق بالاتهامات والتخوينات والإسقاطات الإيديولوجية التصفوية فيما بينها.
رابع هذه الأنماط من السلوك هو حينما يتعذر علي أصحابه الوصول إلي حل يناسبهم يميلون تدريجياً نحو التنكر لثقافتهم وهويتهم، غافلين عن نوعية التغيير الفعلي الذي يحفظ لهم مصالحهم الحقيقية ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم، وهكذا يصبحون أناساً مزيفين أسري المظاهر باحثين عن أقنعة الوجاهة من كل نوع، والتي يجدونها في تقليد المثل العليا والأسلوب الحياتي للمتسلط الخارجي وهم يحاكونه في الداخل، كيف ذلك؟ انهم يحاولون بشتي الأساليب، ومن خلال مختلف الأقنعة أن يجدوا هوية بديلة وأن يحصلوا علي وهم الوجاهة، التزييف الوجودي وما يقابله من أقنعة يمس كل شيء في حياتهم، مثلاً يتبارون في المحاكاة العشوائية لنمط حياة المتسلط، ثقافته، موسيقاه، وسائل لهوه وترفه، أدواته وآلاته، وتقليعاته وصرعاته، كلها مجال للمحاكاة وكلها تشكل المثل الأعلي لهم.
هنا علينا القيام بمراجعة نقدية لنقائص الردود العربية علي هذه المشكلة، منذ ما اصطلح عليه بـ النهضة بهدف إعادة النظر في طبيعة المعركة وتحديد القوي الفاعلة فيها وأهدافها ورهاناتها، في سبيل الوصول إلي رؤيــــة واضحة ومقبولة لما يمكن أن يكون عليه نظام المستقبل العربي، والا أي تقاعس في هذا المضار سيؤدي إلي تأبيد وتغذية البلبلة الفكرية والقانونية في العلاقات الاجتماعية وتلغيمها بالمخاوف والنفور والضغائن المنذرة باحتمالات انفجار العنف الداخلي وتصديره إلي الخارج علي نحو عشوائي كما حصل في الآونة الأخيرة. ثم إن ما جري من تحولات بعد 11 أيلول (سبتمبر) يستدعي من الحكومات العربية وقفة متأملة فاحصة للتعرف علي مسؤولياتها وتحملها دون الاكتفاء بالهرولة إلي تقديم شهادة حسن سلوك للتبرؤ من تهمة الارهاب الموجهة إلينا وإسقاطها علي الآخر الخارجي الذي يكيل الأمور بمكيالين.
ہ استاذ جامعي
سوري مقيم في فرنسا
21/02/2008