بلا رحمة ولا ترحم
سعاد جروس
لا يمكن للموت أن يختطف مبدعاً من وزن المخرج الكبير يوسف شاهين, الجسد فقط يرحل, أما الابداع والتأثير الذي أحدثه فيبقى, خصوصا عندما يكون حقيقيا
وهو ما يتكفل الزمن بإثباته أو نفيه, هذا ما كانه ظننا لغاية الآن, ينطبق على الراحل شاهين, كما ينطبق على العمالقة كافة من المبدعين.
هذا الحديث مناسبته, ما طالعنا به أحد المواقع العربية من تعليقات على نبأ جنازة شاهين. لم تؤكد نبأ رحيله كجسد, بل أطلقت رصاصها على مرحلة ثقافية ابداعية عربية كاملة, وأثبتت كأنها لم تكن, من خلال ما كشفت عنه من تخلف فكري وانساني, ينضح بالعنصرية بمختلف أنواعها, الطائفي والديني والقبلي… إلخ!!
بدأت الفتنة مع ذكر خبر تشييع شاهين من كنيسة القيامة للروم الكاثوليك, فكتب معلق مترحماً عليه. فرد آخر أن شاهين مسيحي, ولا يجوز الترحم على غير المسلم!! هكذا بكل الصراحة, من دون مواربة أو بعض الخجل, أو مراعاة لحرمة الموت, ان لم نقل لمشاعر الآخرين. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد, وإنما تداعى النقاش حول جواز الترحم على غير المسلم!! وعلى هذا النحو يقول قائل: €كان نفسي يكون مسلم عشان أقول الله يرحمه€, ويردف آخر €لو كان مسلم كنا دعينالو الله ينجيه من عذاب القبر€, وهناك من طلب العودة الى الشيوخ وعلماء الدين لسؤالهم, اذا كان جائزاً الترحم عليه, وآخر يأتي ببرهان من الحديث الشريف عن أبي هريرة, وآخر يذكر آية قرآنية, فيأتيه رد من معلق آخر بضرورة تعلم الاملاء قبل التصدي لنقل آية كريمة!! فيما يصرخ مواطن يدعي أنه أردني €غرباء في أوطاننا, نحن مسيحيي الشرق الأوسط€, فيتصدى له آخر بغضب €مسيحيو الأردن يعيشون ويسترزقون كأي مواطن آخر, ولم يذكر أن هنالك مسيحي هضم حقه لأنه «مسيحي», بل على العكس «انتو مدلعين» ويتصدى آخر لينكر عليه أردنيته, ليقول عنه €لا بد من أن يكون فلسطيني من سكان المخيمات€!! ثم ومن خارج السياق يأتي تعليق لبناني, يشير الى أن شاهين لبناني ومن زحلة وليس من الاسكندرية, فينزعج معلق مصري, ويقول مصححاً «انه ولد وعاش في مصر وهو مصري». فيخرج لبناني آخر ويؤكد, ليس شاهين فقط غير مصري, بل عمر الشريف واسمه ميشال شلهوب, فيرد سوري بأن €عمر الشريف سوري دمشقي من باب توما, وقد ذكر ذلك هو نفسه في احدى مقابلات التلفزيون وقد زار في احد زياراته لدمشق منازل أولاد أعمامه في باب توما بدمشق€. أما التعليق الساحق الماحق والنموذجي في العنصرية فقد كان: €عفوا أخوتي ولكن من هو شاهين؟!! ومن هم المصريون؛ المصريون ليسو عرب ولا يشرفنا بأن يكونوا عرب€.
الخلاف الذي بدأ بين الاسلام والمسيحية, تشعب ليصل الى مصر ولبنان وسوريا والأردن, في حرب مهاترات يندى لها الجبين خجلاً, ولو أن شاهين صحا من موته لأحرق كل أعماله السينمائية وقال €ياريت اللي جرى ما كان€, وبالتعبير الحمصي €حبيلتا التعب وياحرام الشوم على هذا الكلام€ وبالشامي €يا ضيعان سنين العمر€ التي راحت لتكريس الحس الوطني والانساني, ان لم نقل القومي العربي, فالمرء لا يعرف ما الذي يقوله حيال هذه الأفكار والآراء, والتي ان دلت على شيء, فلا تدل الا على أن كل ما بذله النهضويون والتقدميون والمفكرون والمثقفون من أبناء أمتنا منذ أكثر من مائة عام ذهبت أدارج رياح التطرف والتخلف, والافتقار للمعايير الانسانية والحس الوطني. وهذا ليس دفاعا عن يوسف شاهين فقط, بل دفاعا عن نضال عقود طويلة, نما فيها الظن بأن الطائفية والعصبيات القبلية ولت الى غير رجعة, عقود برزت فيها شخصيات سياسية واجتماعية وثقافية وحتى دينية عاشت وماتت من دون أن يفكر أحد بالتذكير بانتمائها الديني أو تقييمها بانتمائها القبلي, وأثبتت أنها فوق الانتماءات الضيقة, وإذا شئنا ذكرها لامتلأت بأسمائها الصفحات, فهل كان العرب في العقود الماضية أكثر وعياً وأقل تعصبا؟!!
حسب ما نطالعه في بعض المواقع العربية التي يبدو أنها تبذل جهدها ليل نهار لإذكاء العنصرية والتطرف, تحت زعم حرية التعبير تارة, وجذب القراء تارة أخرى, الجواب سيكون نعم, العرب اليوم أقل وعياً وأكثر تطرفاً, وبما يذكر بعصور الظلام الأوروبية, والخوف كل الخوف أن يكون طريق العرب للخروج منها الطريق الدموي الكارثي ذاته الذي سلكته أوروبا, للتوصل الى قناعة جمعية بأن الدين لله والوطن للجميع.
هذا الجدال العنصري الذي أثاره الرحيل المفجع لواحد من رموز الثقافة العربية, كان بمثابة نعي لمرحلة كاملة شهدت محاولات نهوض, ومن المفنرض أنها أسست لنهضة تكون فيها المواطنة أساس الانتماء, وهو ما كان يرتجى من وسائل الاعلام العربية, أن تعمل على تكريسه اذا كانت حقا تمتلك رؤى تحررية, الا أن ما نراه على شاشاتنا الفضائية وعلى الصفحات الالكترونية من فظاعات وجرائم ترتكب بحق المواطن العربي المنهك وبحق الاعلام كمهنة هتك شرفها, وتحولت بمجملها الى أدوات دعاية حربية, وتسخيف فكري, يدعو للترحم على عصر لم تستخدم فيه الثقافة كغسالات فل اوتوماتيك للمال القذر.
وربما رحمة بيوسف شاهين, ورحمة بزمنه, أن ينسحب هو ورفاقه من العصر الحاضر والمقبل, اذ لا مكان لهم فيهما. ولا سيما حين تصبح تبرئة ساحته, تستدعي قول أحد المعلقين €حسب ما سمعته منه بأذني يقصد شاهين انه «من شدة اعجابي بالإسلام فكرت جديا أن اسلم» واعتقد انه اسلم سرا€, وأن يكون التذكير بفيلمه الناصر صلاح الدين في موقع الشبهات, لأن الفيلم يبدأ بقول صلاح الدين يجب تحرير فلسطين, لأنها ارض عربية, ولم يقل أنها أرض اسلامية, وذلك لغرض في نفس المخرج من المؤكد أنه مشبوه!! فالعروبة أيضا مثار شبهات!! ماذا تبقى للعرب اذاً؟ ليرحل شاهين ورفاقه بلا رحمة, ولا ترحم, فهذا ارحم لهم.
الكفاح العربي