ما بعد الحداثة، ما بعد الحرب والكلام
علي ديوب
هد الخط البياني لمشهد نقد الحداثة انخفاضاً واضحاً، خلال السنوات الأخيرة، سواء في اللوحة العالمية الكبيرة، أو في اللوحة العربية الصغيرة. وتحديداً بعد أن أعادت ثقافة سلطة الحداثة التأكيد على أن دور القوة المجردة يتصدر حساباتها. وأن الكلام عن التعدد والتسامح والاعتراف بالآخر.. يصطدم بإملاءات المصالح، وتتحكم بتجسيده نزعة السيطرة والتنافس على الهيمنة ـ على هذا الآخر ـ إن لم نقل أنه يخفي مرامي بعيدة، لا تقل بشاعة عن تلك التي تبناها الاستعمار القديم. وبدا أن القرن الجديد يعد بنزاعات جديدة أشد هولا، رغم ولوجه العتبة عبر مشهد استفراد قوة واحدة بالتحكم المتمادي؛ وهو ما كان يعني للوهلة الأولى أن نوعاً من الهدوء العالمي سوف يحل، ولزمن غير معلوم، ارتباطاً باختفاء قوى منافسة.
و قد كان لتعثر المشهد الحداثي، وافتضاح عورات ثقافة الحداثة، التي تهدد بالإطاحة بقيمة القيم التي نهضت عليها، وأعلت من شأنها، ورسخت لها قروناً من الإنجازات المذهلة والحروب المدمرة (وأعني الإنسان الفرد، والقيم الإنسانية)؛ كان من شأن ذلك أن يعطي دفعة جديدة لثقافة ما بعد الحداثة، ليس في متابعة استعراض جروحات الحداثة، كمبرر للقطيعة معها، بل و للعمل حثيثاً في مناطق استثمار أخرى، و بكيفيات أخرى، لا تقف عند الفكر وحده ـ كأداة بسيطة للعقل الديكارتي المشتغل، أو الكانتي المطابق ـ بعد الاكتشافات المستجدة في مناطق بكر، تنتمي لفضاء المخيلة وبواطن الأحاسيس العميقة.. الخ.
بدلاً من هذا، عكس المشهد ما بعد الحداثي فتوراً، على صعيد الفلسفة والنقد الأبيستمي، ربما صح نعته بالتقصير، إذا شئنا مقارنته مع مجالات أخرى، لا سيما في مجالي الطب والميديا. الأمر الذي يمكن تقصي سببه في جوهر الفكر ما بعد الحداثي، من حيث ابتعاده عن الصراعية والتنافسية، ونفوره من البناء.. الخ أكثر مما يمكن الاستدلال به، على أن ثمة معركة قد حسمت لصالح جهة تمرست باستعمال القوة؟
اليوم تكاد لا تسمع سوى الأصوات الحداثية التي انطلقت، أساساً من دون توقف، من قلب الحداثة، ذاتها ـ ودوما على أرضية الإخلاص للحداثة، في مبادئها و مآلاتها ـ لأعلام أمثال تشومسكي، في أميركا، وطارق علي في بريطانيا، ويورغن هابرماس في ألمانيا.. وربما كان الصوت البارز للفرنسي بيير بورديو هو الوحيد الذي يمكن احتسابه على مفكري ما بعد الحداثة، ممن انشغلوا، حتى آخر لحظة، بالعياني والمحايث لصناعة عقلية تواصلية، لا استئصالية تلبس لبوس الانتصار للثورة المغدورة أو العدالة المنتهكة (أرضية كانت أم سماوية)، وحقوق الشعوب الضعيفة.. الخ.
هل يشهد العالم اليوم حالة حبس أنفاس، إذ تلوح في الأفق شرور جديدة، هولها أكبر مما عرف التاريخ حتى الآن، وتنذر بإرجاع الزمن البشري إلى طفولته، بعد أن خسر امتحانه في أن يبلغ الرشد؟ ستكون ذروة المأساة البشرية في هذه الرؤية الواضحة للموت، مقابل انعدام الحيلة في رده!
لعل ما يجعل الكتابة تقوم على سبب ذي شأن، هو أن نشدد على أهمية الدور الحاسم للاجتماع البشري على مصلحتهم في الوجود. و قد يكون للفضاء الافتراضي الذي توفره النقلة الثالثة (المعلوماتية)، أو المجال العام بخاصة، الذي عول عليه هابرماس في أن يكون وسطاً فاعلاً يساعد القطاعات الواسعة من الناس على إدراك مصالحهم والتدخل في إدارة شؤونهم العامة، ومجابهة الكوارث التي يسببها أو يساهم فيها المتحكمون. وعلى هذا يتوقع هابرماس ما يسميه بزوغ نوع جديد من أنواع الديموقراطية هي ديموقراطية الفضاء المعلوماتي Cyber Space حيث سيتم تعليم الناس كيف يستخدمون شبكة الإنترنت، وكيف يحصلون على المعلومات، وكيف يكوّنون آراءهم المستقلة، بدلاً من أن يكونوا ضحايا هيمنة الميديا بكل أنواعها كالجرائد والإذاعة والتلفزيون التي تسيطر عليها الحكومات. وهذه الديموقراطية الجديدة ستقوم على أساس تعدد الأصوات الفكرية وعدم هيمنة التفكير الأحادي على عقول الناس.
ما بعدية واحدة، أريدَ لها أن تطمس سواها من الما بعديات، وتحل محلها، هي (ما بعدية برجي نيويورك)، والتي ما تفاعل عنها من غزو حداثي مسلح بتكنولوجيا جيل الثورة الثالثة، ذاتها التي وَلّدت العولمة، والتي غيرت مفهوم المركز، وساهمت في تشظّي المعنى وهزت دلالة القيمة والدور والفاعلية.. وسواها من الطاقات التي تصر القوة السافرة على تملكها.
وبدت عبارة هابرماس، التي تقول إن الحداثة مشروع لم يكتمل، بدلالتها المزدوجة التي تبرر عيوب الحداثة، وتفتح لها أفقاً جديداً للتحرك وفرصة أخرى للتجريب ومشروعية مفتوحة على النقص الدائم، وبتناقضها مع كماليات الحداثة المزعومة؛ بدت مفهومة ـ وإن لم تكن مقنعة ـ تماماً كما هي حال عبارة أحمد برقاوي، أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق، عن العرب الذين يعيشون مرحلة ما قبل الحداثة. أو ما قبل الدولة ـ الأمة. فـ ( العرب قوم.. اي هم في مرحلة ما قبل الدولة. والسلطة بعد ليست دولة. انها سلطات تكونت ضد الدولة ـ الأمة الممكنة). وهذا القول على صحة توصيفه، يظل في مآله وفيا لفكرة الحداثة، من حيث أنه لا يقطع مع السلطة، بل يفتح قوسا لها، تحت مسمى (سلطة بديلة مناقضة للسلطة القائمة)، في تجريب جديد، مفتوح هو الآخر، لبناء الدولة ـ الأمة، أي لإنجاز مشروع الحداثة أولاً. لكي يصح من بعد ذلك، ومن بعده فقط، الحديث عن ثقافة نقد الحداثة.
المستقبل