صفحات الناسلافا خالد

أيام من ذاكرة امرأة عاشت الاعتقال السياسي

null
لافا خالد
نسمات الحرية الأولى
تجربة الاعتقال السياسي لأي امرأة في أي مكان ما من العالم  تغري الجميع أن يعرفوا عوالمها، لماذا اعتقلت؟ كيف وأين اعتقلت؟ ماذا حصل معها خلف تلك الأبواب المغلقة؟ تجربتها والحرية؟ كيف تعيش وأين؟ هل لازالت تؤمن بالقضية التي دفعت لأجلها  ربيع عمرها؟ أم عذاب السجن كفيل بأن يخرج المرء ليعيش من جديد وينسى مكرها كل شيء دار من حوله، السيدة حسيبة عبد الرحمن كاتبة وروائية،  تجربة جريئة ومريرة لامرأة عرفت مختلف الزنازين  في بلدها كما تقول، وددت معرفتها، قراءة تجربتها حتى ولو في جلسة ليست طويلة، اتصالات بسيطة مع بعض الأصدقاء أوصلوني  إليها مباشرة، اتصال معها، ترد بكل لباقة إنها ستلبي الدعوة، نلتقي نحتسي فنجانا من القهوة، نتعارف، هو السؤال الأول الذي فتح بوابة الأسئلة التي لم ولن تنتهي، ما كنت أود الوصول إليه في ذاك اللقاء خاصة،  هو لحظات الولادة من جديد،  وتجربة وراء القضبان نتركها للزمن القادم، تبدأ سيل الأسئلة، سيدتي: كيف تصفين تجربة تلك السنوات  الطويلة؟ تجيب بلسان طلق صريح: هو الجنون أن يجلس المرء بمكان لا يتجاوز عرضه سنتيمترات بسيطة، وزمن يطول كثيراً، تعد فيها الثواني واللحظات التي تتحول لساعات وسنوات، وراء أبواب مقفلة؟ تمر السنون ثقيلة،  وترسم  معها خطوط الوجه والشيب، تحقيق .. ضرب .. بكاء .. نجلس .. نضحك.. ندخن .. طعام فقير .. وجوه متوترة بشكل دائم .. سيدات ذو توجهات مختلفة بعضهن  يعانقن الصمت وأخريات يعانقن الشمس … لا فرق بين أي شيء، نوم واستيقاظ .. استيقاظ ونوم ..  نفقد الإحساس بالزمان والمكان والألم والأمل، نعود بالذاكرة إلى حالة الوعي: أي جنون نعيشه، أهو جنون أم تكيف في هذا المكان المقبرة ؟ أجنون  أن تقيم عالما موازيا للعالم الخارجي ضمن مسافات تخنق الأرواح  لأجل فكرة؟ لا فرق ثانية … هو الجنون أن يتساوى الليل بالنهار، ولا فرق لو بدأنا يومنا من ساعة الظهيرة أو حينما تنام الأعين وتغفل القلوب، الجنون إننا محشورين في بقعة ما من مكان ليس ببعيد عن الآخرين،  يتجاهلون إن كل شيء هو قزم أمام الألم الذي نعيشه، أعوام وأعوام وانتظار يعقبه انتظار لكنها الحياة وثمة من عليهم أن يدفعوا ثمن المبدأ ولو عاد الزمن لفعلت ما كنت أقوم به قبيل الاعتقال.
ساعة الحرية
بعد سنوات من أيام السجن الطويلة، كان الملل والتعب يغزو كل خلايا  الجسد،  ومعها تحمل الذاكرة إرثا ثقيلاً، بدت السنوات الأخيرة متعبة،  لكن لا بأس فنحن لم ندخل السجن عبثا، هي الحرية والقضية والوطن والإنسان، نعم كل ذلك يستحق القربان، تتسابق الأيام ولكن ليس سريعاً تقترب لحظات الصفر إنها الذروة سنخرج، متى؟ متى تدوس قدماي تلك الشوارع المبتلة بمياه المطر؟ أيام قلائل قبل ضوء الشمس، و مع ذاك الزمن الذي بات طويلا تختصر الذاكرة الأحلام والسنوات الصعبة، هل اخطط لمستقبلي؟ هل استمر بعشقي لذاك الرجل الضبابي الذي قال لي فلنترك الزمان والمكان إلى حيث البلاد الباردة ؟ هل ينتظرني؟ أين هو؟ والدي والدتي، صديقات الحارة، الخمارة العتيقة، الفول والتدخين زخات المطر الأولى، رائحة جدائل الياسمين والنارنج التي كانت تعبق المكان، أحلام ما قبل القفص العميق تحت الأرض، سأذهب لبستان اخضر بعيد، أتدحرج على العشب الأخضر أشم رائحة التراب المعجونة بالعرق والدموع، وأنام تحت شجرة توت، خرجنا؟ بأي اتجاه أمضي؟ ماذا افعل؟ ليس معي سوى بعض الأوراق العتيقة وملابس بالية، سأتصل بأهلي، أوقفت فتاة، من فضلك: ليرة ليرتين سأتصل بأهلي، هربت مني تلك الفتاة تظن أنني متسولة، وأخرى تظنني مسافرة إلى مكان مجهول أجبتها نعم كنت مسافرة زمنا طويلا ؟ إلى أين هل إلى أمريكا؟ قلت لها، لا كنت في سفر قسري لأعماق الأرض السفلى للإنسان، في بقعة لا يوجد فيها مكان للهواء والشمس ولضوء القمر أو للمشي والركض كانت مقبرة! أهي مجنونة، لا وقت لذلك فلا أحد سمع بنا ونحن ندفع ثمن الرأي، لا يهم شيء، الآن أهلي أصوات السيارات أريد معانقة كل شئ اتصل بهم نفس العنوان القديم، عليّ أن اكتشف كل شيء لوحدي إنها نسمات الحرية، اكتشاف الذات بعد أعوام طويلة، ومعرفة العالم الخارجي الذي غبت عنه زمنا ليس بقليل، وصلت، في استقبالي والدتي عماتي أهلي ظنوا إن الزمن توقف وسأعود إليهم بشقاوتي وشعري المجعد وبنطالي الجينز، وأنا ظننت إن الزمن توقف عند اللحظة التي تركت فيها كل شيء في العالم الخارجي إلى حيث القضبان، لا ما ظننته لم تكن الحقيقة، كل شيء تبدل؟ لم أرى النهر الذي كنت العب على ضفافه ونسرق مع الأصدقاء السجائر ونفكر بما كانت تفوق أعمارنا، كل شيء مضحك ومبكي، المطر سنوات طويلة لم نرى فيها المطر، لا أحس بالبرودة لا أحس بشيء، العتمة .. الخوف من جديد .. تغير حتى مكان النوم .. لا استطيع الكلام عن شيء، لا يمكنني اختزال تلك الليالي الطويلة بساعات قصيرة، كنت اتسائل وأنا أضع راسي على الوسادة التي فارقتها وأمضيت فيها سنوات طفولتي ومراهقتي وصباي، يأتيني النهار نستقبل الناس، أريد الخروج لأمكنة علها تنسيني أقبية التعذيب والكرسي الألماني، أيعقل أن تلازمني الذاكرة القريبة وذاك الألم حتى حين الحرية، صوت أمي يمنحني دفئا، وغياب والدي يفتح الجرح في كل لحظة، عليّ مواجهة كل ذلك بشجاعتي المعهودة، اشتقت لكل شيء للهدوء للناس للأمل، لا أريد ذكر تلك التجربة فذاكرتي تختزن ما يكفي الجميع، أعيش لحظاتي وأوهم  نفسي بأني لم أدخل ذاك المكان المظلم أتنفس مع سيجارتي، أعيش مع الجميع الزمن الصعب.. اكتب .. أعيش الوضع كما الآخرين وأنام بهدوء العاصفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى