صفحات الناسمنهل السراج

دزينتان من الشرق وعصفور من الغرب

null
منهل السراج
كنت عائدة إلى البيت حين رأيت عصفوراً صغيراً ملوناً مثل طيور الجنة قابعاً عند ناصية الطريق، اقتربت منه، ألوان ريشاته بين الأزرق والأصفر والبرتقالي والأخضر، كان ملوناً بكل ألون البهجة كأن طفلاً صبغه ومضى، بدا وكأنه خرج للتو من بيضته. لكن التصاقه بالأرض أثار استغرابي، كانت قوائمه الرقيقة ترتجف، اقتربت أكثر، لم يتحرك، جلست القرفصاء بجانبه حتى خيم ظلي فوقه، أمعنت في الاقتراب، لم يحرك ساكناً، ضربت الأرض بقدمي،
لم يرف له جفن، لكزته بحقيبة أحملها, فأتى بحركة طفيفة، فكرت، ربما لا يعرف الطيران، ولكن لِمَ لايتحرك على الأقل ويمضي إلى جهة آمنة من الدراجات أو العربات؟
حاولت إصدار أصوات مختلفة تجعله يترك مكانه، عبثاً، خشيت عليه من خبطة دولاب، ولكن لم أهتد لطريقة تساعده، فأنا لا أستطيع ملامسة فرو حيوان، تلفّت حولي، وجدت شخصاً جالساً في شرفته يراقبنا أنا والعصفور، ابتسم، فاقتربت من شرفته الأرضية وأخبرته أن العصفور في خطر، وأنه من المحتمل أن تأتي دراجة أو عربة وتدهسه، وأنه علينا أن نساعده..
استمر بالابتسام، ظننت أنه لم يفهم لغتي، أعدت الشرح بلغة ثانية، لكنه هزّ رأسه وقال: نعم أفهمك أنت على حق، العصفور في خطر. أضفت بأنني شخصياً للأسف لايمكنني الإمساك به ونقله إلى الشجرة، ابتسم ولم يجب. نظرت إليه أستحثه أن يتحرك عن كرسيه ويأتي لينقذ العصفور، لكنه استمر بالابتسام. زفرت ومضيت ضجرة من برودته. وافترضت أن العصفور السويدي شديد الفخامة سيجد ألف متبرع غيري ليساعده.
دخلت إلى بيتي، حيث أعتني بالولد وأتابع أخبار أمي وأخبار أهل البلاد وفقط. وحين أتعب من الحنين أو من القهر أنظر إلى الشجر الكثير شديد النظافة والخضرة وإلى أمان المارة وصمتهم الرهيب، وأنظر إلى ابني الذي لا يهتم إلا لصوت الطيور وصوت فيروز وأبتلع الغصات.
بالطبع كل يوم يوجد أخبار، ودائماً الأخبار سهولة قتل البشر، وفي ذلك اليوم كانت الأخبار أن السجناء في سوريا قد فاض بهم وطاش صبرهم.
خرجت من البيت مرة ثانية ومضيت إلى مكان العصفور. مازال في مكانه لم تدهسه عربة ولم يحمه أحد، قابعاً بريشاته الرقيقة الملونة يرتجف. رجعت إلى البيت وقضيت النهار أراقب العصفور المتروك وأتابع أخبار الأسرى الغاضبين، والأخبار التي تهمنا تأتي عادة بالقطارة، أما أخبار الرؤساء التي لاتهمني أبداً فتأتي بعنجهية وغزارة. حين بلغ عدد القتلى المأسورين خمسا وعشرين أسيراً، قررت أن أذهب وأحمل العصفور من مكانه ولو اقشعر بدني ألف مرة.
حين كنت في الثامنة عشرة، وفي أول يوم لي في الجامعة، رأيت قطة مدهوسة على طرف الطريق، كانت متعبة جداً، كان ينبعث من فمها سائل وتموء بصوت منخفض، لم أستطع مساعدتها، إذ لا يوجد في حلب مشفى لإسعاف الحيوانات مثل ستوكهولم، مضيت إلى البيت وليس في رأسي أي انطباع عن أول يوم لي في الجامعة، إلا القطة الصغيرة المدهوسة وهي تستنجد.
أغلقت التلفاز والراديو والانترنيت وأذنيّ، وخرجت لأنقذ العصفور. لكني لم أجده، افترضت أن عابراً سويدياً حمله.
عدت لأعلم ابني قول اسمه على الأقل، لم يأبه. تعبت من تكرار اسمه من دون جدوى. أدرت التلفاز والراديو والانترنيت وأصغيت وقرأت وشاهدت، تفاوتت أنباء البلد بين أن عدد القتلى تجاوز المئة وبين أنه مازال خمساً وعشرين.
خرجت مرة أخيرة لأشتري الحليب لابني، الأمر الذي أفعله يومياً في المساء. كنت مقهورة وغاضبة، فالعصفور السويدي يجد من ينقذه أما أهل البلد فلا يجدون أحداً يتذكرهم، لكن ظني لم يكن بمكانه على الإطلاق، تبين لي أن العصفور المسكين أيضاً لم يكترث به العابرون، فقد وجدته مرمياً على بعد متر فاتحاً منقاره على آخره من شدة الألم قبل أن يموت أو يقتل، أحشاؤه متدلية و ريشاته الملونة رطبة ولامعة بدمه.
التفتّ غاضبة إلى صاحب الشرفة، لأحمله ذنب العصفور، لكني وجدت الشرفة فارغة.
لا فرق إن حملوني ذنب العصفور، ففي هذه الرقبة ذنوب كثيرة.
أغلقت باب البيت خلفي.
كانت حصيلة ذنوب الرقبة لهذا اليوم، دزينتين من الأسرى في الشرق وعصفور حر من الغرب.
الرأي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى