كلود ليفي ـ شتراوس أدرك المئة عام: “المفكر المتوحش”
كوليت مرشليان
غالباً ما تترافق الذكرى المئوية بولادة فنان مبدع أو كاتب أو شاعر أو فيلسوف بذكرى رحيله على أساس أن المئة عام ليعيشها الانسان مرحلة زمنية طويلة لكن الأمر يحصل من وقت إلى آخر، وما حصل مع الكاتبة ناتالي ساروت التي توفيت قبل بلوغها المئة بشهور قليلة أمر لا يتمناه أبداً الفرنسيون الذين يحضرون بقوة الاحتفال ببلوغ مبدعهم كلود ليي ـ شتراوس المئة عام في 28 تشرين الثاني المقبل. قد تكون الاستعانة بصفة المبدع للتعريف بكلود ليي شتراوس ليست فقد للدلالة على عبقريته وابداعه انما وبالدرجة الأولى وفي مقالة صحفية للهروب إلى حد ما من تعداد كل المجالات التي عمل فيها حيث ترك بصماته في أكثر من مجال: انه كلود ليي ـ شتراوس الذي يطلق عليه الفرنسيون لقب “شيخ الأكاديميين” وهو أعطى نفسه ومن خلال أعماله صورة قيادية في نظريات فلسفية عدة وبشكل خاص في البنيوية والانتروبولوجيا وكان شاهداً لعصره ومحللاً للحضارات والثقافات التي في طريقها الى الانقراض. فكتب وحلل وسافر وراقب واختبر وجاءت تحاليله وكتاباته العلمية على قدر كبير من الجمالية الأدبية، ولطالما رأى النقاد في مؤلفاته إلى أهمية اختباراته ونظرياته العلمية تماهياً بالتوازي مع حسه الأدبي واسلوبه الشعري المتميز، ويجيء مؤلفه الأكثر ابداعاً “مدارات حزينة” في مقدمة كتاباته التي وصف فيها الشعوب وتقاليدهم وحضاراتهم بالتوازي مع أهمية الأحاسيس الانسانية المتفوقة.
ويتربع “مدارات حزينة” في الصدارة الى جانب كتابه “الانتروبولوجيا البنيوية” والأجزاء الأربعة من “ميتولوجيات”.
من هو؟
وحول ليي شتراوس ومؤلفاته لطالما تساءل النقاد في فرنسا والعالم: هل هو فيلسوف؟ هل هو عالم انثروبولوجيا؟ ام عالم إثنولوجيا أو علم السلالة؟ أم هو عالم منطق؟ إلى جانب كونه أديباً وشاعراً وصاحب مؤلفات أيضاً في الحكمة والاجتماعيات… كل هذه الوجوه مجتمعة هي ليي شتراوس وفي كل كتاب له كانت واحدة من هذه الوجوه تتقدم على غيرها.
نشأته واكتشافه للعلوم
منذ ولادة كلود ليي شتراوس في بروكسل في 28 تشرين الثاني من العام 1908 في بروكسل من ابوين فرنسيين حتى الموعد الأقرب في سيرته وهو صدور زهاء الفي صفحة من مؤلفاته الكاملة عن “دار لابلياد” مسيرة مئة عام حافلة بالمحطات والمواقف والآراء والايديولوجيات التي شغلت العالم. وهو شتراوس الفتي درس في باريس الحقوق ومن ثم الفلسفة. وفي الثالثة والعشرين من عمره انهى علومه العالية وبدأ التعليم إلا ان مسيرته في علم الاتنولوجيا بدأت عام 1934 حين دعي الى تعليم علم الاجتماع عبر محاضرات في ساو باولو لكنه بقي هناك حتى العام 1939، وبالمناسبة اي بوجوده هناك، اختلط بمجتمعات متنوعة منها الهندية من الأصول التالية “نامبيكوارا” و”كادويوس” و”بورورو” وراح يدرسها ويدرس تقاليدها وحضاراتها منطلقاً من أبحاثه الخاصة وغير آبه لما سبقه من دراسات اجتماعية وإثنولوجية في الموضوع عينه، فكان ان وضع مبادئ جديدة ونظريات غير مسبوقة لكنه لم يكن ليدري أهمية ما توصل اليه، الا فيما بعد حين سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1941، حيث التقى صدفة على الباخرة المسافرة الشاعر اندريه بروتون، وكان لهذا اللقاء اصداء فيما بعد. في أميركا، درّس في “المعهد الحر” الدراسات العليا وفي “المدرسة الجديدة للأبحاث الاجتماعية” في نيويورك اكتشف الأبحاث العميقة في الألسنية وفي الأنتروبولوجيا وبشكل خاص ابحاث رومان جاكوبسون (1896 ـ 1982) وفرانز بوواس (1858 ـ 1942).
وعمل شتراوس ايضا في السفارة الفرنسية، في واشنطن وشغل منصب مستشار ثقافي لديها من 1945 إلى 1947وفي هذه المرحلة كتب “الحياة العائلية والاجتماعية لهنود نامبيكوارا” وقدم رسالة دكتوراه في موضوع “الركائز الاساسية في القرابة” وهاتان الدراستان الاكاديميتان كانتا الانطلاقة له في التأليف، وعليها حاز شهادة دكتوراه دولة.
من هذه النقاط والمراكز والأبحاث انطلق ليي شتراوس في اختباراته العلمية والنظرية الطويلة الأمد والتي امتدت على حدود نصف قرن، ولا يمكن احصاء المراكز التي شغلها هذا المفكر لتشعبها ولكن نذكر منها على اهميتها ادارة “متحف الانسان” في باريس ورئيس مركز الابحاث في “مركز البحوث العلمية” في فرنسا وغيرها من المسؤوليات التي جعلت فضوله العلمي يزداد ويتطور. وفي هذه المرحلة اصدر كتابه الشهير “المداريات الحزينة” عام 1955، كما جمع مقالاته العلمية البارزة في كتاب واحد وفي تسلسل يجعل منها دراسة متكاملة لما سيصير بعد حين مشروعه العلمي بامتياز “الانتروبولوجيا البنيوية” الذي صدر تحديداً عام 1958.
الانطلاقة العلمية في العالم
منذ العام 1959، لم يعد كلود ليي شتراوس مفكراً وباحثاً فرنسياً وحسب، انما صارت مؤلفاته وبعشرات اللغات موزعة في العالم، ولم يعد الجدل الذي تثيره مؤلفاته من ضمن حدود بلاده، انما توسعت الدائرة ودخل من باب الجدل الفلسفي والعلمي العام عبر العالم. في هذه المرحلة بالذات، كان مديراً في “الكوليج دوفرانس لعلم الانتروبولوجيا الاجتماعية” وأسس بالتزامن مع هذه المسؤولية “مختبر الانتروبولوجيا الاجتماعية” ومجلة “الانسان”، وفي جميع أعماله عند هذه المرحلة، حاول أن يجمع ما بين “النظريات في الانتروبولوجيا” من جهة وتطبيق هذه النظريات في مؤلفه الضخم “الفكر المتوحش” حيث عمل على تطبيق مئات النظريات في زهاء الفي صفحة. وكرّس هذه الأعمال بعدها بمؤلفه الضخم والرائع “ميثولوجيات” في أجزائه الأربعة: “النيء والمطبوخ” و”من العسل الى الرماد” و”اصل آداب الطاولة” و”الرجل العادي”، وقد يكون هذا المؤلف الهائل هو الذي جعل دخوله سهلاً إلى “الأكاديمية الفرنسية” التي صار عضواً مشاركاً فيها منذ العام 1973. لم يتأثر هذا المفكر بتقدمة في السن وعلى رغم انه اعلن تقاعده العام 1982 وكان في الخامسة والسبعين. استمر في الكتابة وكان تقاعده يقتصر فقط على المهمات الادارية في المراكز والمختبرات والمتاحف والجامعات. فكان ان اصدر عام 1983 “النظرة البعيدة” وفي العام 1984 “الكلمات الممنوحة” و”من قريب ومن بعيد” العام 1988، و”الرموز وبدائلها” عام 1989 حيث تابع ابحاثه حول الميتولوجيات في مقاربات جمالية لم يشهد لها القرن مثيلاً، خاصة في دراسات لاحقة مثل: “طريق الأقنعة” و”الخزفية الغيور” و”انظروا، اسمعوا، اقرأوا”.
ويمكن اعتبار اعمال ليي شتراوس المدخل الرئيسي للانتروبولوجيا في العلوم الاجتماعية الفرنسية في الستينات من القرن الماضي. وقد اعتبر منذ حينه رمزاً من رموز علماء الاجتماع المبدعين ومن رموز الفلاسفة وعلماء الانتروبولوجيا وقد وصفه عدد كبير من النقاد القيمين على انه وريث الأديب المفكر جان ـ جاك روسو الذي وضع اسساً قيمة في علم الاجتماع الفرنسي الى جانب حسه الادبي الهائل. والاثنان، اي روسو وليي ـ شتراوس ربطاً ربطاً وثيقاً ما بين الطبيعة والثقافة او ما بين طبيعة الانسان والعلم، خاصة في علم السلالة وفي دراسة كيفية تكون الاساطير.
وتبقى نظريته حول “الفكر المتوحش” من ابرز ما تركه هذا العالم والمفكر الذي ارا د بكل قواه ومعطياته ان ينتقل من دوره كفيلسوف مفكر الى دور آخر. يتعلق بالتجربة والاختبار في حقل حياة المجتمعات ومن بعدها في “بنيوية الاساطير” حيث انتقد بشدة النظريات السابقة له التي ارتكزت على تمجيد “الأوهام” فيما تقدمه من تحاليل للأسطورة، وهو تقدم في هذه التجربة الى نقطة البدايات حيث عمل على شرح كيفية تكون الاسطورة وهناك عثر على شرارة البدايات التي اسماها منذ العام 1962 “الفكر المتوحش” أو “الطبيعي” الذي غير النظرة التقليدية المتبعة عبر قرون عديدة والموجهة الى عالم الاساطير، ومع ليي شتراوس صارت الميتولوجيات هي التأكيد الطويل والمعقد على “الفكر المتوحش”.
وفي نهاية المطاف كان هدف ليي شتراوس الأكبر هو شرح المجتمعات والميثولوجيات من دون التوقف عند فكرة تكريس النظريات وهو تردد وخاف الوقوف ما بين المثالية المتطرفة في التنظير والمادية البيولوجية في التطبيق، وفي كل اعماله حرص على فكرة، ان العالم ليس سوى ذريعة للانسان ليفكر وينطلق في “أفكاره”.
ومن ابرز ما كتب: “اذا الاساطير اصبحت ادوات او اشياء فهذا لأن الاشياء، بحد ذاتها هي اسطورية”.
وكل ما كتبه ليي شتراوس لم يطمح الى ان يكرس نفسه “فيلسوفاً” على غرار فلاسفة عصره من وسبق لكنه صرح أكثر من مرة انه رغب في ايجاد “علاجات” ناجعة للمجتمعات التي تطمح الى البحث عن جدواها أو “معناها” وهو بقي طوال حياته بعيداً الى حد ما عن الاعلام والاضواء مطبقاً من حيث لا يدري نظرية اخرى من نظرياته التي تقول إننا لا يمكن لنا ان نفهم الانسان الا اذا صوبنا اليه نظرة من البعيد، كذلك الى انفسنا، واليوم ليي شتراوس على أبواب المئة عام، وهل توصل الى فهم ذاته والى فك رموز الطبيعة البشرية التي شغلته قرناً بكامله بأسرارها وبسراديب اغوارها العميقة؟ ماذا يقول كلود ليي ـ شتراوس في احتفال المئة عام لولادته؟
كيف سينظر الى “الفكر المتوحش” على بعد مئة عام من الزمن ومن المعرفة؟ كيف سيعاود الاتصال مع “ميثولوجيات” شغلته قرناً بكامله، حين صورته هو دخلت ميتولوجيا القرن المنصرم؟ وكيف سيفتتح قرناً جديداً من حياته ومن مجتمعه الذي لا زال تحت وطأة حقائق “البنيوية” التي “بناها” وإن جاءت نظريات أخرى تفكيكية حاربت وساندت ونقدت ما رسمه في مسيرته؟
الفرنسيون كذلك العالم على موعد مع ليي شتراوس “القرني” الذي قد يتلاقى ربما مع “الفكر المتوحش” مع نقطة الصفر لبداية قرن جديد في حياته التي امضاها على غرار “حرفي” دقيق انكب مئة عام على دراسة عمله من دول ملل او تعب ليطوي صفحة من صفحات التاريخ كتبها بالمعرفة والفكر والاختبار وقبل اي شيء بشغف حب الحياة.
آراء الجيل الجديد في شتراوس
بين الحداثة والمحافظة
يمكن أن نميز ثلاث مراحل في نتاج شتراوس، أولاً “الموجة” البنيوية في الستينات وبداية السبعينات، التي لامست مع ليي شتراوس ورولان بارت، أو فوكو، مجموعة العلوم الإنسانية: وكانت أيضاً لحظة الجدل مع الماركسية حول المعارضة بين التاريخ والبنية. ثم تعقب مرحلة الولايات لا سيما في اعتبار تلك المرحلة باتت “ما بعد البنيوية” وحيث اتهم ليي شتراوس بتجريد المجتمعات تجريداً مثالياً بلا كتابة أو بكونه عالم أثنيات في تحاليله، وأخيراً المرحلة الراهنة وهي الأهدأ: فبعد جيلين حيث انقسم الناس بين مع أو ضد ليي شتراوس، يعطى هذا المفكر حقه في دوره ونظرياته وميدانياته (…) ويبقى ليي شتراوس قبل كل شيء قارئاً كبيراً. فنتاجه يكتظ بالمرجعيات والمصادر من بروست الى بلزاك ورمبو… لكنه كره كثيراً الأدب الاختباري المرتبط بـ”البنيوية”.
ونجد عنده مزيجاً من المحافظة والحداثة: فهو حديث جداً في فكره، وعلى شيء من المحافظة في ذوقه، لأنه يعتقد، أن الفن، وعلى خلاف العلم، لا يتطور.
فنسنت دوبيني
(كاتب وباحث فرنسي)
ماذا يتبقى منه؟
المفارقة أن ليي شتراوس يدخل “البلياد” في الوقت الذي تموت فيه الانتروبولوجيا، الابتكار في مناهجه وقدرته على هزّ الأفكار الجاهزة، أدّيا الى أن يكون للانتروبولوجيا نجاح غير مسبوق عند الفلاسفة، والمؤرخين، وعلماء النفس والسياسيين في فرنسا والعالم.
نتاجه ولو تعرض حالياً لنقد (وأحياناً بقسوة وهذا قدر العمل العلمي)، فإن العودة إليه تبقى ضرورية لكل انتروبولوجيا.
نتاج شتراوس ليس أدبياً بل علمي، برغم كل الأدوات الأدبية والأسلوبية التي يستخدمها.
بينو فليش
(عالم انتروبولوجي فرنسي)
مدرسة بيئية جديدة
“معه يجب التخلي عن حلم الدلالة الأول، لأن التحليل البنيوي لا يهتم بأن يفسّر أو يرجح الى أي أصل: فبالنسبة إليه، فإن كل أسطورة قابلة للترجمة في أخرى، وكل صيغة تتضمن صيغة أخرى، كل شيفرة تحتوي أخرى.
ليي شتراوس يعلمنا أن البنيوية يجب أن تعمّم على عالم “الأشكال الطبيعية”. ودرس العالم لا يحمل فقط بعداً أخلاقياً أو سياسياً: بل هو يتضمن علم بيئة جديداً.
مارتن رويف
(شاعر ومدرس فلسفة)
… “علمنا ماركس بأننا يجب التموضع على مستوى تناقضات البنى التحتية لتفسير الإيديولوجيات. أما ليي شتراوس فقد أظهر أن البنى التحتية ليست مكوّنة فقط من الناس المنتجين، ولكن أيضاً من النبات، والحيوانات والثديات وعلاقاتها التفاعلية.
فريد يركاكيك
(باحث اجتماعي فرنسي)
المستقبل